الخميس 16 مايو 2024

عودة..

29-10-2020 | 11:10

ليست حرب أكتوبر التحريرية العظمى والماجدة مجرد المكافئ الموضوعي أو الرد الاستراتيجي على نكسة يونيو، وليس ٦ أكتوبر الخالد مجرد نسخ أو ناسخ ليوم ٥ يونيو الحزين ففي يقين هذا الكاتب أن التاريخ سوف يسجل ٦ أكتوبر كأخطر وأفعل، مثلما هو أعظم وأروع، نقطة تحول مؤثر في تاريخ الصراع العربي- الإسرائيلي المفعم، وبالتالي في تاريخ العرب جميعا، ومن ثم ودون إفراط في المبالغة في تاريخ العالم المرئي كله.»

إن هذه اللحظة التاريخية والأيام الفاصلة، المشحونة بالانفعالات «المشبوبة» والتوتر المضطرم والترقب المتلهف، وقد لا تترك مجالا للرؤية المستأنية ولا للفكر المتروى، وقد تغلب فيها شحنة العاطفة الدافقة والحماس المتأجج على طاقة العقل والروية وعلى بعد النظر ووضوح الرؤية. ولكننا مع ذلك نزعم أن هذا ليس وقتا للحماس فقط بل هو وقت الفكر أيضا، بل ليس وقتا للانفعال بقدر ما هو وقت للفعل. كما نرى أن صورة المستقبل، على الأقل فى بروفيله العريض، قد فرضت منذ العبور نفسها.

ليس انفعالا غير منضبط إذن أو تهويلا غير مسؤول، ولا هو من السابق لأوانه، أن نقول إن السادس من أكتوبر يتجاوز فى معناه التحريري وفى مغزاه التاريخي كل أبعاده الراهنة المباشرة، الميدانية منها والدبلوماسية، العسكرية أو السياسية، أو غير ذلك. إنما السادس من أكتوبر هو - بلغة الرسم البياني- نقطة الانعكاس العنيفة الحاسمة والحاكمة فى ذلك الخط الخطأ والاتجاه النازل أبدا الذى اتخذه منحنى الصراع منذ بدأ فى ١٩٤٨ وحتى الأمس وإلى أن ينتهى بالتحرير الشامل والاسترداد النهائي للأراضي السليبة وللأراضي المقدسة على السواء.

أننا نعتبر السادس من أكتوبر خط التقسيم التاريخي بين مرحلتين أساسيتين ومتناقضتين كل التناقض فى تاريخ الصراع ما كان منه وما سيكون: مرحلة الجزر العربي حيث كان المنحنى فى نزول مستمر للأسف بالنسبة لنا ولصالح العدو باطراد، ومرحلة المد العربي حيث غير التطور مساره بزاوية حادة صاعدا إلى أعلى لصالحنا وعلى حساب العدو ووجوده الطفيلي البغيض. إن السادس من أكتوبر إنما هو باختصار الخط الأول فى خريطة سياسية جديدة تماما، والخطوة الافتتاحية فى خطة مستقبلية كاملة.

الآن، ولأول مرة منذ قيام دولة إسرائيل الغاصبة الزائفة، فإن عامل القوة يجابه برد فعل مقتدر ومتحد من القوة المضادة لها فى الاتجاه والمماثلة لها فى القوة. الآن ولأول مرة منذ ١٩٤٨ تذوق إسرائيل طعم الهزيمة العسكرية الحقيقية وتتحطم أسطورة التفوق العسكري الساحق التى اختلقتها اختلاقا بالحرب النفسية الرهيبة، الآن ولأول مرة منذ ١٩٤٨ يتحقق توازن قوى جديد، عسكريا وسياسيا ونفسيا وتكنولوجيا. فالهزيمة العسكرية الأولى ستكون حدثا تاريخيا أعظم، سيفرض تداعيات بالغة الخطر حبلى بالنتائج المؤثرة. ونحن الآن ولأول مرة إزاء صراع انقلبت أوضاع أطرافه رأسا على عقب فنحن منذ الآن سنحارب إسرائيل جديدة، إسرائيل ردت إلى حجمها الطبيعي وقامتها القميئة بعد أن جردت من عقدة النصر المركبة ومركب التفوق العسكري المتضخم ووهم التأله الحربى المغرور أو المرسوم. باختصار سنحارب إسرائيل انكسر «عمودها الفقري النفسي»، فلم تعد ذلك العدو «الذى لا يقهر»، وإنما القابل للهزيمة بل والذى هزم بالفعل. منذ الآن ستكف إسرائيل، عن أن يكون :طفل العرب المرعب» وعصا الاستعمار الغليظة فى المنطقة.

وحتى إذا عادت الأوضاع الإقليمية إلى ما كانت عليه يوم ٤ يونيو ١٩٦٧، فستكون إسرائيل غير ما كانت: فقبلها كانت دولة لم تهزم قط وبعدها ستكون دولة مهزومة، إن هذا كيان ستنخر فى عظامه ونخاعه جرثومة الهزيمة، ولن يفلت من ضغوط التمزق والتآكل والانهيار الداخلي التى سوف تعريه.

وعلى الجانب الآخر، فنحن منذ الآن سنحارب بنفسية جديدة أعيد بناؤها، بل استعادت جوهرها الطبيعي الكامن والأصيل بعد أن شوه طويلا ظلما وعدوانا، نفسية المحارب المقتدر المتفوق وشخصية الشعب المقاتل المهاجم والمنتصر. سنواجه العدو بشخصية مصر، عاصمة العالم استراتيجيا وواهبة الحضارة إنسانيا وأقدم العسكريات تاريخيا. شخصية مصر الكاملة التي غسلت بالدم وصمة عارضة، استردت مكانها ومكانتها، وقوتها وقامتها، واستعادت دورها القيادي إقليميا وعالميا، حققت زعامتها الطبيعية الحقة فى عالم ثرى يزحف حثيثا نحو الوحدة والتنمية وحضارة العصر بل وربما نحو مركز القوة السادسة فى عالم القوى العظمى.

 

فى مثل هذا الإطار التاريخي والاستراتيجي الشامل وحده- نحن نجادل - ينبغي أن ننظر إلى المعركة الوطنية التحريرية العظمى التي تدور رحاها الآن على أرض سيناء، بوابة مصر التى تحولت اليوم إلى قبلة مصر.

بل إننا لنذهب إلى أبعد من ذلك. أننا نزعم، وبعد قليل سوف نثبت، أننا بالمعركة ندخل مع العرب عتبة عصر جديد تماما: فى التنمية الاقتصادية، فى الحضارة العصرية، فى الوحدة العربية والقوة السياسية، فى المكانة الدولية والواقع العالمي، حتى ليمكن أن نعتبر السادس من أكتوبر - نقول هذا بهدوء - بمثابة البداية المسبقة والطافرة للقرن الحادي والعشرين بالنسبة لنا.

ومرة أخرى: لماذا؟ لماذا نستبق المستقبل بكل هذا الإسقاط والتنبؤ؟ ببساطة لأننا بعد يونيو كنا، كما رددنا كثيرا، فى مفترق طرق مصيري، كنا في عنق زجاجة تاريخي، فإما أن نفشل فننزلق إلى الخلف عشرات السنين حبيسي الزجاجة المغلقة، وإما أن نقتحم عنقها فنخرج منطلقين إلى أوسع آفاق المستقبل وأرحب إمكانيات التطور.

وإذا بدا هذا كله ادعاء عريضا ونبرة عالية بالغة الحدة مسرفة فى الحماس والتفاؤل والخيال الجامح، فإننا نقول إن الأحداث الكبرى تتطلب حسا تاريخيا ملهما وفكرا كبيرا بمثل ما أن التحديات الكبيرة هي التي تصنع الأمم الكبيرة. وفضلا عن هذا فإن تجربة التاريخ تعلمنا أن كل حرب منتصرة أو منهزمة ترسم وحدها مستقبل أى أمة لعشرات وربما مئات من السنين. إن الحرب هى أعظم محدد للتاريخ، بمثل ما إن النصر هو أروع ملحمة فى تاريخ الشعوب.

ولا يصدق هذا على صراع في التاريخ مثلما يصدق على الصراع العربي الإسرائيلي نظرا لطبيعته الخاصة جدا والرهان الفادح الذى ينتظمه. نعم، اعطنى فقط انتصارا عسكريا واحدا، لا أقول ساحقا بالضرورة أو صاعقا، يكفى أن يكون محققا فحسب، ليكون نقطة انكسار، بل انعكاس لكل أوضاع المنطقة ومستقبلها. اعطنى فقط انتصارا عسكريا واحدا، أغير لك مصير الصراع، مصير مصر، والعرب.

وعند هذا الحد فنحن نعتقد أنه إن يكن القتال قد كتب علينا، فنحن «محكوم» علينا بالنصر، نقول هذا من البداية لأن المعركة الحالية هى بكل المقاييس المعركة الفاصلة والفيصل تاريخيا، ونتيجتها النفسية ووقعها على الروح المعنوية لن تقل أثرا عن قيمتها العسكرية أو السياسية.

لقد عدنا يا ديان:

نعم، عدنا يا دايان، عدنا إلى سيناء لا بشروط صهيون المهينة والحلول الاستسلامية، كما ظل سنوات يتبجح بكل غرور الحقود وصلف المتحكم القميء، ولكن على أشلائه وفوق جثته عدنا! عدنا بقوة الحديد والنار بعد أن أنفق العدو ٦ سنوات يصور وجوده فى سيناء المحتلة قلعة صماء غير منفذة للغزو مستحيل اقتحامها. والواقع أن العدو - وهو خبيث أكثر مما هو ذكى، وحاقد أكثر منه قادر كما كان يظنه البعض - إنما أنفق تلك السنوات فى محاولة عظمى لكى يكسب المعركة المنتظرة بغير رصاصة على الإطلاق أو قبل إطلاق الرصاصة الأولى.

والإشارة هى بالطبع إلى الحرب النفسية الضارية المخططة التى شنها. فكل ما كان العدو يفعله ويقوله طوال السنوات الست الأخيرة كان موجها إلى المعركة الرابعة، أو بالأحرى إلى ألا تكون معركة رابعة على الإطلاق. فبكل طريقة موجبة وسالبة كان يحاول أن يستغل انتصاره السابق، وأن يستثمر هزيمتنا ليهزمنا ثانيا. بحملات التشكيك الضارية فى قدراتنا وإمكانياتنا ومعنوياتنا، بل حتى طبيعتنا، ثم فى تسليحنا وأصدقائنا، حاول أن يتسرب حتى يترسب فى أعماقنا بلا فائدة ولا جدوى. وبالأسطورة الخرافية التى بناها عن «جيش الدفاع الذى لا يقهر» وقادته «آلهة الحرب الجدد» كد» والتفوق الإلكتروني، وباستعراض عضلاته وأسلحته التكنولوجية والجوية الطاغية، والحرب المتطورة والسرية.. الخ، بكل هذا حاول بانتظام إرهابنا نفسيا لنرتعد ونرتدع فنتقاعس عن المواجهة..

لقد خلقت إسرائيل بالفعل الأسطورة، ضخمتها، نشرتها، ثم عاشت فيها حتى صدقتها، وصدقتها حتى ارتدت إلى صدرها فى حركة عكسية «كالبوميرانج» فهزمتها! - كلا، بل نحن الذين هزمناها، فثمة الآن فى الغرب نظرية - تبريرية محض - تقول إن إسرائيل إنما هزمت لأنها صدقت أسطورة تفوقها وعاشت فى أوهام استعلائها. ولكنا نرى فى هذه النظرية من الانحراف أكثر مما فيها من الاعتراف.

 

صحيح لقد كان الغرور الإسرائيلي الوقح وجنون العظمة مقتلا من مقاتلها، ولكن الضربة القاضية إنما أتت من القدرة العربية الذاتية، المفتري عليها طويلا، ومن التخطيط والتصميم والإرادة العربية. ونحن لم نسرق نصرا سهلا هشا من وراء ظهر العدو، وإنما بجدارة واقتدار انتزعناه من بين أسنانه.

فلقد أراد أن تكون المعركة الرابعة نسخة مكررة من معركة يونيو، فجعلتها اليد العربية الجديدة، العليا والطولي، نسخة مقلوبة معكوسة منها. لقد استوعبنا نحن درس يونيو وتجربته المريرة، وكان حتما وحقا أن يدفع العدو ثمن النصر الرخيص الذى سرقه فى غفلة من زمن..

فما هي نقاط القوة فى الخطة العربية التى حققت بها القفزة الكبرى على سيناء وحققت لها النصر الميداني استراتيجيا وتكتيكيا حتى الآن؟ هى، فيما عدا العوامل النفسية وحافز التحرير والوطنية ونوعية المقاتل المصري الجديد والسلاح والتدريب. الخ، أى فيما عدا العوامل المعنوية والمادية، هى أبعاد استراتيجية أربعة: المبادأة، المفاجأة، الحرب الشاملة، وأخيرا الحرب الطويلة.

فأولا: بالمبادأة نعنى الهجوم، وبالدقة المبادأة بالهجوم. ولقد كانت استراتيجية العدو دائما هجومية من البداية إلى النهاية، وكان أبدا حريصا على ألا يترك لنا زمام المبادأة أو المبادرة. تلك كانت سياسية «الحرب الوقائية» المكذوبة، سياسة شل الأعصاب وتدمير قوة الخصم غدرا على الأرض قبل أن يتحرك، فيما كان العدو يرى صمام أمنه بل صميم وجوده ذاته.

ولقد كان من الواضح تماما منذ يونيو أن ليس هناك قط ما يدعو العدو إلى تغيير استراتيجيته. ومن المؤكد أن هذا ما كان يبيته ويخطط له. ولكنا كنا أسبق وأسرع، فكانت الضربة الأولى لنا فور بداية عدوانه على خليج السويس، بحيث اختل توازن العدو فى اللحظة السيكولوجية ووضع على جانب الدفاع منذ اللحظة الأولى. وما من شك أن مبادأتنا بالهجوم كانت مفتاح النصر بالنسبة لنا، بينما أن فرض موقف الدفاع على العدو كان بداية الهزيمة إن لم يثبت فى النهاية أنه كان نصف الهزيمة بالنسبة له.

ثانيا: عنصر المفاجأة مكمل وامتداد جوهري لعنصر المبادأة، إن لم يكونا جانبين لشىء واحد. ولقد كانت فرص المفاجأة الاستراتيجية، بحكم طبيعة المواجهة عبر القناة. محدودة بدرجة أو بأخرى. ومع ذلك فقد انتزعت القيادة المصرية المفاجأة النسبية أو التكتيكية حين اختارت لساعة الصفر توقيتا مرنا ذكيا بارعا شل الجهاز العصبي لقيادة العدو برغم كل مخابراته وادعاءاته: أنسب طقس سياسي دولي، انسب يوم تعطل فى دورة حياة العدو اليومية، وآخر ساعة تتوقع للعبور فى وضح النهار.

ثالثا: الحرب الشاملة، وهى ما تفعل الآن، وكان حتما أن نفعلها منذ قررنا أن نطلق الطلقة الجوية الأولى. فلقد كانت ضمانا شرطيا للنجاح ومصلا مضادا ضد أى انتكاس. والمقصود بالحرب الشاملة أن تبدأ كاملة مطلقة منذ أول لحظة، دون مرحلة أو منطقة انتقال بين حالة اللاحرب والحرب فلقد كانت هناك نظرية تقول بعملية تصعيد «محسوبة» المراحل فى مستوى المعركة، كأن نبدأ مثلا بحرب استنزاف من نوع جديد أو غير جديد.

ولكن من الواضح أن العدو كان يتلمس أدنى ذريعة ميدانية لينتهزها فرصة فيبادر ويشن هجومه المباغت، وهو إن فاتته المباغتة الغادرة هذه المرة لأى اعتبار عسكري أو سياسي أو دعائي، فلقد كان حتمًا سيجد فى أول رصاصة منا تلك الذريعة ليمارس الحرب الشاملة فورًا بصورة كاملة لتدمير قوانا فى أسرع وقت ونحن لم نزل نتوقع ردًا محدودًا.

ولقد كان ذلك بالدقة مقتلنا فى ١٩٦٧، وتلك فى الحقيقة استراتيجية الحرب كأداة ضغط وتهديد سياسي واستعراض قوة أكثر منها استخدام القوة الجادة، ولكن اللعب السياسي بالحرب لعبة خطرة، قد يمكن أن يمارسها الأقوى وحده، وقد كان واضحًا أن أى بداية للقتال من جانبنا أقل من حرب شاملة منذ أول لحظة تعرضنا لخطر ممكن وكامن، وأن علينا حين نبدأ الحرب أن نعنيها بكل معانيها: إنه ليس ثمة نصف هجوم: وهكذا بالفعل كان.

رابعًا، يبقى أخيرًا من عوامل النصر عنصر الحرب الطويلة، حرب النفس الطويلة، فهى مقتل حقيقى من مقاتل إسرائيل، ومن المسلم به أن الحرب الخاطفة، السريعة القصيرة، ليست فى صالحنا قطعًا، ولا هى فى طاقتنا ربما على العكس كلما طالت المعركة كانت فى صالحنا، والأطول الأفضل.

 

والحرب الخاطفة هى أساسًا استراتيجية المقامرة، أكثر حتى مما هى استراتيجية المغامرة: تقامر بكل شيء لتكسب كل شيء أو تخسر كل شىء.. والحرب الخاطفة - التى نقلتها الصهيونية عن أستاذتها النازية - كانت دائمًا استراتيجية العدو، إما لأنها تلائم أغراضه وظروفه، وإما لأن ظروفه قد فرضتها عليه.

ورغم أن شكل الحرب ومداها لا يتحدد بإرادة طرف واحد، بل بإرادة الطرفين المتقاتلين يتحدد، ورغم أن الحرب الحديثة أميل بطبيعتها إلى القصر بحكم إمكانيات الأسلحة العصرية التدميرية خاصة منها الجوية والإلكترونية فإن علينا أن نفرض الحرب المطولة إلى أقصى حد ممكن، بل إن علينا أن نحارب حربًا حقيقية من أجل إطالة أمد الحرب، فكل يوم مضاف إليها هو احتمال مضاف للنصر، فاقتصاد العدو لا يتحمل إطالة التعبئة الشاملة إلا أياما أو أسابيع، بعدها تصاب حياته الإنتاجية بالشلل التام تقريبًا.

ومن الواضح فى المعركة الآن أن العدو قد فشل فشلًا فاحشًا فى تحقيق آماله الخرافية أو ادعاءاته المبتذلة، بينما نجحنا نحن تمامًا فى توريطه راغمًا فى أطول حرب حقيقية خاضها منذ نشأته، بل من المحقق إننا الآن نقاوم كل إغراءات الزحف السريع بعد النصر المبدئى كيما ننفذ خططنا المرسومة بعناية وذكاء.. ويقدر الخبراء العالميون أن العدو الإسرائيلي بكيانه المعطى لن يستطيع أن يواصل الحرب بعد الآن لأكثر من أسبوعين أو ثلاثة كحد أقصى، فإذا ما نجحنا فى إطالة أمد المعركة إلى هذا المدى أو أكثر فإن الدائرة سوف تدور لا محالة على العدو.

جيوستراتيجية المعركة

أجمع الخبراء العالميون على أن معركة الساعة تعد واحدة من أكثر معارك النازية العسكرية الحديثة، لا تقل عن كبريات معارك الحرب الثانية ومعارك الدول الكبرى عموما، كذلك أجمعوا، حتى الأعداء منهم، على أن ملحمة المعركة المصرية جاءت بكل المقاييس قطعة مذهلة من الاستراتيجية الممتازة فى جميع مراحلها: العبور، رأس الجسر، القاعدة الأرضية. والواقع أن هذه المراحل الأولى من المعركة تعد نوعا من الحرب الخاطفة بالضرورة، لأن السرعة الفائقة كانت شرط نجاحها المطلق، وبعدها فقط بدأت الحرب الطويلة الممطوطة التصادمية والاستنزافية التى ستحسم الصراع على الأرض.

فأما العبور فقد كان بحق بمثابة اقتحام العقبة، ففى قفزة كبرى واحدة، وفي مبارزة نارية التحامية بين البر والبحر وبين الأرض والسماء، تم اكتساح أصعب مانع مائى في العالم هذا تقدير العسكريين أنفسهم في أقل وقت ممكن وبأقل خسائر بشرية متصورة على الإطلاق، وكان العدو يصور العبور إما مستحيلا سيغرقه هو فى القناة إغراقًا، وإما حمام دم لا يتم إلا بنسبة رهيبة من الخسائر.

غير أن القناة التى ظنها العدو «عنق مصر» الذى يمسك به وبخناقه، تحولت إلى مقبرة له، بينما تحولت العملية الفائقة النجاح على الفور إلى درس مرجعى ونموذج نمطى فى أكاديميات العالم العسكرية!

وإذا كان العبور - أول خطوة فى المعركة - هو فى حقيقته «عبور للهزيمة»، فإن تدمير خط بارليف على الضفة الشرقية كان بداية هزيمة العدو وبداية النصر المصري.. فالخط القوى الذى أنفق العدو فى تحصينه وتسليحه سنين عددًا وملايين بلا عدد، ثم أنفق أكثر من ذلك فى الحديث المخيف عنه كجزء من الحرب النفسية الرادعة واستراتيجية الترويع، هذا الخط سقط فى أيام بل فى ساعات.

ومن المفارقات الغريبة أن قادة العدو الذين وصفوا خطهم مرة بأنه غير منفذ للبشر أو السلاح كما أن الصلب غير منفذ للماء والهواء، ومرة أخرى بأنه غير قابل للتدمير حتى بالقنبلة النووية “كذا” عادوا بلا خجل عند أول هزيمة ليقولوا أنه “مجرد شريحة من الجبن الجريير، به من الثقوب أكثر مما به من الجبن “دايان”.

ومنذ تم تدمير واختراق الخط بدأت مرحلة جديدة فى المعركة، مرحلة إعداد قاعدة أرضية وثيقة للاحتشاد وانطلاق الزحف، وهكذا من رأس جسر إلى رأس حربة، ومن موطئ قدم إلي قاعدة انطلاق، وفى النهاية من موقع ثابت إلى مواقع متقدمة إلى هذا جاء تطور العمليات على الضفة الشرقية، وقد وصلت المنطقة المحررة الآن إلى نطاق بطول الضفة الشرقية وبعمق بضع عشرات من الكيلومترات ما بين القناة ومشارف “المضايق”، وفي هذه الشقة المتوسعة بانتظام تعمق القوة المصرية نفسها وتتكثف باطراد لتكون خشبة القفز على المضايق، مفاتيح قلب سيناء الاستراتيجية.

وبالمقابل، فإن تدمير القوة البشرية للعدو ينبغى أن يكون أولوية أولى فى أهدافنا.. فالقوة البشرية للعدو - هذا من الأوليات عند الجميع - هى مقتل من مقاتله، لأنه بقدر ما يتمتع بإفراط فى التسليح إلى درجة ما فوق التشبع، فإنه يعانى من تفريط شديد فى الرجال والأفراد.. ومنذ ١٩٤٨ لم يكد العدو يذوق طعم الخسارة فى الأرواح - نحو ٦٠٠٠ فقط حتى ما قبل ٦ أكتوبر.. وقد وجب الآن أن يعرف رادعًا حقيقيًا لمرة واحدة.

 

ورغم أن المعركة الراهنة هى أول حرب إلكترونية فى التاريخ، حرب آلات ومعدات علمية أساسًا وأسلحة متطورة بالغة التعقيد، أى حرب العلم والتكنولوجيا، فإن للقوة البشرية - لا يزال - دورها وقيمتها الحيوية.. فالتفوق البشرى العددي هو بمثابة مضاعفة لقوة الجيوش، ورصيد لا ينفد فى وجه أى خسائر طارئة، وبه يمكنك أن تستهلك العدو إلى حد الاستنزاف بجيش تلقى به وراء جيش منهك.

والتفوق العددى - وهو مكفول لنا خارج كل مقارنة - هو من أكبر «أصولنا» فى الصراع ومن أكبر «خصوم» العدو، ولابد لنا أن نوظفه إلى أقصى حد، تمامًا كما توظف الصين مثلًا كثافتها السكانية الهائلة فى مشاريع السلم والحرب على السواء، لابد باختصار من استثمار عامل القوة البشرية، على الأقل تعويضًا عن الكيف بالكم.

معنى سيناء

تثير المعركة، عدا المشاعر والعواطف الحميمة، كثيرًا من المعاني والدروس والقضايا والتوقعات التى ستظل تشغل الباحثين لوقت طويل بعد النصر، ولكن يكفينا منها هنا سؤال محوري عن سيناء والمعركة: ما معنى سيناء، ما معناها بالنسبة لمصر؟ ما موقعها فى استراتيجية الوطن؟ وما معنى معركة سيناء، ومعنى النصر بالنسبة لمصر والعرب؟

سيناء، على الخريطة وفى الحقيقة، ثلاثية فى مثلث، فهى تنقسم إلى ثلاثة أقاليم طبيعية تتوالى من الشمال إلى الجنوب: سهل ساحلى واسع، ثم هضبة وسطى عالية هى هضبة النيه، وأخيرًا منطقة جبلية مثلثة فى الجنوب، وسيناء بهذا هى العقدة التى تلحم إفريقيا بآسيا ومصر بالمشرق العربى مباشرة.

بل إن فيها تجتمع مصر والشام والجزيرة العربية تضاريسيًا، وذلك بخطوطها الرئيسية فالسهل الساحلى استمرار لسهل فلسطين.

ولما كان طريق الخطر الخارجى البرى إلى مصر هو الشام أساسًا، وكانت سيناء تحتل النقطة الحرجة بين ضلعى الشام ومصر اللذين يكونان وحدة استراتيجية واحدة، فقد أصبحت بالضرورة «طريق الحرب» جغرافيًا وتاريخيًا، إنها معبر أرضى جسر استراتيجى معلق أو موطأ، عبرت عليه الجيوش منذ فجر التاريخ عشرات «وربما حرفيًا مئات» المرات جيئة وذهابًا - تحتمس الثالث وحده عبره ١٧ مرة! ولو كان فى استطاعتنا أن نحسب معاملًا لكثافة الحركة الحربية، فلعلنا لن نجد بين صحارى العرب، ولا نقول العالم، رقعة كالشقة الساحلية من سيناء حرثتها الغزوات والحملات العسكرية حرثًا.

من هنا فإن سيناء أهم وأخطر مدخل لمصر على الإطلاق، إنها كخيبر بالنسبة للهند، أو كممر دزونجاريا لوسط آسيا، أو هى كترموبيل اليونان، بل إننا يمكن أن نقول إنها بمثابة ثلاثتها جميعًا، وذلك بمضايقها الثلاثة: ممر متلا إزاء السويس، وطريق الوسط إزاء الإسماعيلية، وطريق ساحل الكثبان الشمالى ابتداء من القنطرة، وبغير مبالغة ذلك: فسيناء أيضًا مدخل قارة برمتها مثلما هى مدخل مصر.

سيناء إذن ليست مجرد «صندوق من الرمال» كما قد يتوهم البعض، إنما هى «صندوق من الذهب» مجازًا كما هى حقيقة استراتيجيا كما هى اقتصاديا.. فمن الناحية الاقتصادية، نحن نعلم أنها كانت منذ الفراعنة منجم مصر للذهب والمعادن النفيسة.. وهى الآن بئر بترولها الثمين، أى صندوق من الذهب الأسود بالفعل.. أما استراتيجيا فمن المهم جدًا أن ندرك أن سيناء ليست مجرد فراغ، أو حتى عازل، إنها عمق جغرافى وإنذار مبكر.

غير أن هذا العمق الاستراتيجي المؤثر قد لحقه على الزمن ما لحق العالم كله من انكماش وتقلص فى المسافات على يد التكنولوجيا الحديثة، ومع هذا التغيير طرأ تطور هام على دور سيناء الاستراتيجي فالقوات الميكانيكية السريعة تقطع عرض سيناء ٢٠٠ كم تقريبا - فى ساعات، بينما يكتسحه الطيران فى دقائق غير إن سيناء وإن كانت قد فقدت بعضا من عمقها. فإن ذلك لم يفعل سوى أن زاد من أهميتها وخطورتها الحيوية.

أما تغير الدور فتلمحه إرهاصات أولى فى الحملة التركية أثناء الحرب الأولى حين أصبحت سيناء نفسها مسرحا للقتال إلى حد ما. وكنا من قبل لا نسمع عن معارك هامة تدور على أرضها مباشرة.، ولكن الاتجاه إنما يصل إلى منتهاه مع عصر الطيران حيث تشير التجربة ثلاث مرات - حرب السويس وحرب يونيو وأخيرا حرب أكتوبر - إلى أن سيناء قد أصبحت أرض معركة بعد أن كانت تقليديا «طريق معركة» كما رأينا، لقد تحولت من جسر حربى إلى ميدان حربى. وبالتالى من عازل استراتيجي إلى موصل جيد للخطر.، ولا نقول من عمق بالفعل إلى «فخ» بالقوة.

ويترتب على هذه التطورات بدورها نتائج أخرى مغزى ودلالة. لقد كانت القاعدة الاستراتيجية المقررة تقليدية هى: «دافع عن القناة، تدافع عن مصر ومازالت هذه القاعدة الثمينة صحيحة بكل تأكيد غير أنه قد أضيف إليها طرف جديد فى المعادلة. فالتجربة المعاصرة المريرة أثبتت مرتين فى عقد واحد تقريبا أن أى خطر يهدد سيناء من الشرق يهدد القناة. بينما أن وقوع الأولى يشل الثانية. فما معنى هذا؟

معناه أن الدرس الجديد هو أن سيناء قد أصبحت - استراتيجيا- جزءا من القناة وبالتالي جزءا لا يتجزأ من موقع مصر. فضياع سيناء معناه شل القناة. وشل القناة يعنى «إيقاف» موقع مصر الجغرافى. إن القناة التى كانت عنق الإمبراطورية فى العصر الاستعماري. قد أصبحت عنق مصر المستقلة. لكن سيناء أيضا رقبة أخرى لمصر من هنا يتحول المبدأ الاستراتيجي فى الأمن القومى إلى الشعار الآتى: «دافع عن سيناء» تدافع عن القناة تدافع عن مصر جميعا.

واسترشادا بهذا المبدأ، وانطلاقا من ظاهرة تقلص العمق الاستراتيجى لسيناء. يتحتم على مصر بعد الآن أن تنقل المعركة دائما إلى خارج سيناء. أى أن تنتقل عن عمد من الدفاع إلى الهجوم كما كان المبدأ المسود فى مصر القديمة والإسلامية. أنه نصف النصر وإلا فإنه خطر الفخ مسلط، فعلى سبيل المثال حاول العدوان الثلاثى فى ١٩٥٦ أن يجعل من سيناء «مصيدة» للقوات المصرية وفشل. وفى ١٩٦٧ نجحت إسرائيل فى ذلك للأسف، وبعدها حولتها إلى «أرض الوقاحة».

ولكن من الملائم الآن أكثر أن تصبح سيناء. مولد اليهودية، هى مقبرة الصهيونية، وإذا كنا نراها فى هذه اللحظة بالدقة تتحول من «أرض الوقاحة» إلى «أرض المعركة التأديبية»، فإن من المحتم مستقبلا أن تكون «مطرقة مصر» التى تكسر بها «خنجر إسرائيل» المرسل فى قلب الوطن العربى.

وعند هذا الحد تتجسم لنا دروس تجربة معاركنا مع العدو على أرض سيناء مرتين. فندرك خطر القناة فى استراتيجيتنا القومية وخطأ الانسحاب من سيناء من حيث المبدأ وعلى الإطلاق. لقد ثبت الآن خطأ الانسحاب المذعور الذى حدث فى يونيو، رغم ما قيل وصدقناه فى حينه عن ضرورته، و»حكمته» والمرجح أن هذا الانسحاب كان تكرارا غير واع- كالانعكاس الشرطى- لتجربة ١٩٥٦ بحيث أصبح الانسحاب من سيناء أول خطوة نلجأ إليها تلقائيا عند أول هزيمة. وذلك هو الخطأ الجسيم بعينه.

ذلك أن الانسحاب من سيناء لا يعنى فقط شل القناة وإيقافها. ولكن أيضا تحولها إلى أكبر عقبة فى سبيل العودة والاسترداد. ولقد آثار الفكر العسكرى المصرى منذ وقت مبكر قضية القناة: أهى استراتيجيا سلاح لنا أم ضدنا؟ غير أنه كان ينبغى علينا منذ نشأة إسرائيل على الأقل. أن نضعها قاعدة أولى فى تخطيطنا العسكرى أنه منذ وجدت القناة فلا انسحاب من سيناء تحت أى ظرف مهما كان. إنه أبسط مبادئ الجيوستراتيجية المصرية وأكثرها منطقية.

إن الانسحاب من سيناء سهل عبر القناة نسبيا، ولكن العودة إليها صعبة صعوبة عبور أى عائق طبيعى مائى من الدرجة الأولى وهذا هو الثمن الذى كان علينا أن ندفعه فى ٦ أكتوبر. وإذا كنا قد نجحنا فى وضعه عند حده الأدنى، فإنه يبقى درسا أساسيا للمستقبل. إن انسحاب يونيو ١٩٦٧ ينبغى بعد التحرير، أن يكون آخر انسحاب مصرى من سيناء فى التاريخ. وأما التاريخ نفسه، فإن بوادر وبشائر النصر قد أخذت تلوح على الأفق، أفق سيناء مصر الخالدة.