الأحد 24 نوفمبر 2024

فن

الرئيس والعقل والدين

  • 31-10-2020 | 16:48

طباعة

بدأ الرئيس السيسي معركة اجتماعية ثقافية، ربما تمثل معركة تحديد المصير الجوهري لمستقبل مصر، إعادة  تجديد الفكر والخطاب الديني، بإعادة بناء العقل المصري، وتطوير آلياته النقدية، ما يشكل في النهاية بناء العقل الجمعي، وتغيير حتمي  كنتيجة للمشهد الاجتماعي المصري.

 يقول أبو العتاهية:

عبر الدنيا لنا مكشوفة

قد رأى من كان فيها وسمع

فسد الناس وصاروا إن راو

صالحا في الدين قالوا مبتدع

إذا تأملنا التاريخ ودعوة الرئيس التنويرية الجديدة - القديمة، بتجديد الفكر الديني، والتي مثلت استجابة أي أمة لها في أى عصر من العصور إعادة نهضة شاملة سريعة الإيقاع، سنرى كيف تخلصت أوروبا من عصور الظلام وبدأت مشوار النهضة والعصور الحديثة، التي لا ينكر أحد تأسيسها على أكتاف المقاتلين الحقيقيين للقضايا الحقيقية، فها هو مارتن لوثر يقاتل لتجديد الفكر الديني في معركة انتصر فيها العقل على الأوهام، والحياة على الموت، حياة التفكير وموت التكفير، بينما في الوقت الذي  نختار فيه من تراثنا الفكري أكثره ترادفا اتكاءً على ماض يزداد صلابة يوما بعد يوم أمام مرونة الواقع ووضوح المنطق، ونترك لغيرنا انتقاء الطيب من تراثنا وبناء حضارات حديثة عليه كما فعلت أوروبا، فقد بحثت في أكثر المناطق مضيئة في تاريخها وتاريخ الإنسانية، وقامت باستعادته، ووضعه حجر أساس لعصور الحداثة وما بعدها، فتفجرت من أوروبا ينابيع الفنون والفكر والأدب، حين استعارت الكثير من الكنوز الفكرية والعلوم العربية التي ازدهرت في أشد عصور أوروبا ظلاماً، وعلي رأسهم الفارابي وابن الهيثم والخوارزمي وابن رشد وغيرهم الكثيرون الذين نري تأثيرهم في الغرب، ونري تكفير الكثير منهم في بلاد الشرق.

هناك مقاتل مصري قرر الدخول منفرداً في معركة مصيرية حاسمة، واضعاً نُصب عينيه الأسباب العقلانية للتخلص من تلك البركة الراكدة من الفكر المتصلب، كما فعلت قبله أسماء محفورة في وجدان العالم، ولا يخفي علينا أنه لولا تبني عائلة ميديتشي الإيطالية للفنون في فلورنسا ربما ما خرجت للنور أعمال ليوناردو دافنشي ومايكل أنجلو والكثير من فناني وعلماء عصر النهضة الأوروبي.

استند الغرب بلا شك على فكر الفيلسوف أبو الوليد ابن رشد، بل يذهب كثير من علماء الغرب إلى اعتباره أهم الفلاسفة في تاريخ العالم، ولن نبالغ حين نقول إن العالم تعرف على أرسطو وفهم فلسفته عن طريق ابن رشد، حتي يقال إن الطبيعة تفسر بأرسطو وأرسطو يفسر بابن رشد، كما أنه ساهم تسوية ذلك الخلاف بين العقل والدين، كان قاضيا وفقيها وفيلسوفاً وطبيباً فيزيائيا وفلكيا، موسوعة إنسانية، كما أننا لن نبالغ حين نقول إنه ربما لولا وجود سلطة مستنيرة داعمة للعلم والعلماء في دولة الموحدين بالأندلس والمغرب ما كان هناك ابن رشد، وربما تغيرت شكل الحضارة الأوروبية الأرسطية.

قرّب الخليفة المثقف العالم "أبي يعقوب يوسف" الفيلسوف الفقيه "ابن رشد" من مجلسه، وكان قد طلب "أبو يعقوب" من الفيلسوف العربي ابن طفيل ترجمة وشرح أشهر كتب الفلسفة،بعدما اعتذر "ابن طفيل" لكبر سنه وقام بترشيح "ابن رشد" للمهمة بناء على مواصفات الأمير "أبي يعقوب" الذي طلب أعلم المفكرين، ولتلك القصة دلالة شديدة الخطورة في علاقة السلطة بالعلم والتنوير، لاحظ مبادرة الأمير المستنير في طلبه، وما حققته تلك المبادرة من تنوير للغرب بشكل خاص، وللعالم بشكل عام، ومن الطريف مثلا معرفة أن ثاني أشهر الكتب في الثقافة العبرية بعد التوراة كتب "ابن رشد" الفلسفية.

 

لم تنطلق معظم الأفكار إلى الأمام ويتم صك ميلادها الحقيقي سوى بذلك الدعم الذي يأتي من السلطة المستنيرة، بل إن الدين نفسه لا ينتشر إلا إذا صاحبته قوة  اجتماعية على رأسها السلطة، لاحظ متى بدأ الميلاد الحقيقي للديانة المسيحية عالميا بعد أن كانت مضطهدة ومحصورة في التعبد خفية أو تحت الأرض، ولا نريد بالطبع تكرار الجانب المُر من التاريخ حين زرع الفتنة كثير من حزب الفقهاء الرجعيين الحاقدين لدى الخليفة "المنصور" محب العلم والعلماء، ومن ورائهم الجماهير التي تحركها المشاعر التي تكونت فوق أعمدة الأوهام، فاتخذ الملك القرار الصعب وانقلب على "ابن رشد" نزولا على رغبتهم، ولظروف سياسية معقدة اضطر فيها الحاكم لمسايرة شعبه ورجال الدين في موقفهم المتطرف من "ابن رشد"، ودون الخوض في تفاصيل عودة الأمير في قراره لاحقا، إلا أن هذه التجربة الاجتماعية لها أبعاد قريبة جدا من تلك المعادلة الحالية في مصر، لكنها مختلفة قليلا، في الوقت نفسه الذي نرى فيه حاكما يفتح ذراعيه لتلقي سهام النقد الذي يصيب أى مجدد أو صاحب مبادرة، وبالرغم من ذلك الحراك الأكاديمي والبحثي الذي صنعه الخطاب الرئاسي في تلك المسائل الشائكة نرى مجتمعاً يقاوم فكرة التخلي عن قيوده الفكرية ويتمسك بأفكار مستعارة من غيره لا يفهم حقيقتها، فضلا عن عدم نقدها، لكننا نأمل ألا يتخلى الرئيس عن هذه المعركة أو التهاون بشأنها، كما نأمل مجرد وجود ذلك التوازن بين العقل والدين الذي لن يحدث إلا بجهود رئاسية بالأساس، وقد سمح هذا التوازن في عصور منيرة في تاريخنا بوجود أنواع من الجدل الفكري لا ني لها مثيلا بعد مرور مئات السنين من التطور والحداثة، ولنا عبرة وشاهد في جدل" أبو حامد الغزالي" الذي كتب" تهافت الفلاسفة"، ورد" ابن رشد" عليه بكتاب "تهافت التهافت".

إنها الفرصة.. تتكرر من جديد الآن وهنا في مصر، رئيس مصري متنور، يعلم جيدًا حجم المقاومة التي تواجه من يبادر مثله بإعادة التعرف على الله وأنفسنا والعالم، وإعمال العقل وفتح أبواب الاجتهاد والنقد، يحث المجتمع وعلى رأسه الأزهر وجميع المؤسسات العلمية والفكرية، وصناع المشهد الثقافي المصري إلى خوض تلك المعركة معه، ربما لا تتكرر هذه الفرص كثيرا في حياة الشعوب التي تعاني من السقوط في آبار مظلمة من الماضي، والعجيب هذا التراخي الاجتماعي غير المفهوم في الاحتفاء بتلك الدعوات التي ستخرجنا يقينا من الظلمات إلى النور.

    أخبار الساعة

    الاكثر قراءة