الأم تهب الحياة يوم ميلاد طفلها، لكن هناك أمهات يهبن الحياة مع فجر كل يوم فيصنعن الصباحات الآمنة لأولادهن، هكذا أشعر حيال ملك، والتي هي والدتي.
ملك كانت ولا تزال عاشقة لقلم نجيب محفوظ، فقررت أن تعطيني اسم بطلة واحدة من رواياته، "رباب" كما جاءت في رواية السراب.
تخيلت لسنوات أن الرباب هو صوت آلة موسيقية فحسب، وإذ تخبرني ملك في طفولتي عن معنى آخر كان سببا في اختيار الاسم، فالرباب هو سحاب غير ممطر، وكان يحجب الشمس فكان بمثابة ظِل رحيم لأهل الأرض من المناخ الحارق، كما أخبرتني هي أن الرباب أيضا هو العهد والميثاق.
ملك وهبتني الحياة يوم ميلادي ويوم علمتني أن أحطم أصنام عقلي وأتحرر من القيود التي يصنعها عقلي بنفسه ولنفسه، تماما كما تهبني الحياة كل يوم تعلمني فيها قيمة تتجاوز ما نقرؤه بين طيات الكتب.
منذ أن وعيت للحياة، وطلّة أمي وهي تقرأ مساء لا تفارقني، لكن ما علمتني إياه لم يكن من وحي ما تقرؤه وتتفكر فيه فحسب، وإنما من وحي التجاعيد التي زحفت على وجهها رويدا رويدا، على حد قولها، فتجارب الحياة هي التي تصنع وعينا وإدراكنا، هذا ما كانت تردده على مسامعي كلما أفصحت لها عن ندم أو خطأ أو اندفاع غير محسوب، فتذكرني أن الأخطاء خير مُعلم.
لا يسعني أن أكتب عنها بضع كلمات من الإطراء، فهذا لا يوفيها حقها، لكن ربما يسعني أن أكتب عن أحاديثها ومفرداتها البسيطة الملهمة.
على مدار الأعوام السابقة، كتبت بين الحين والآخر شذرات من فكر وعقل وروح أمي، وأسميتها أحاديث ملك، حين شعرت أنني أريد أن أشارك كلماتها مع العالم بأسره.
ملك، كما أشير إليها بين أصدقائي وبين القراء الذين تابعوا قلمي، ليست غريبة على الكثيرين، فما أشاركه عنها جعلها قريبة المنال.
سألت أمي وأنا دون العاشرة من عمري عن معنى وإحساس الحب، فقالت لي هو نفس الإحساس بسعادة تناول الشوكولاتة، هكذا كانت فلسفتها البسيطة.
علمتني أمي أن الحب لا يعرف الأنانية، ولا الاستحواذ، ولا الحصار.
علمتني أن أكتب كل يوم شيئا ما أسعدني، مهما كانت الظروف عسيرة .وإذ ينتهي بي الأمر بكتابة ما يزيد على عشرة أشياء كل يوم، كلها أشياء صغيرة، وغالبا غير مادية أو مادية في حدود المتاح اليوم، جعلتني أكتشف أن كل الأشياء التي تسعدني كانت معنوية، كلها أمور متاحة فلا ننتبه لها، ونأخذها كأمر مسلم به، فعادة البشر التطلع لما ليس لديهم، حتى وإن كانوا في غير حاجة إليه، ولهذا ينسون الاستمتاع بما لديهم ويتناسون صنع تجاربهم الشخصية التي تعود عليهم بالرضا.
علمتني أن الإدراك حتى وإن كان مؤلما فهو نعمة، فالنقمة هي عدم الإدراك لما يدور حولنا.
حين كنت أشكو لها من السير عكس التيار السائد، كونه يستنزف طاقتنا، كانت تبتسم لتقول لي السمع والطاعة بدون تفكير هو ما يستنزف أرواحنا.
علمتني ملك البحث عن قيمة الجمال وسط القبح، ولكن حذرتني من تجميل القبح أو تبرير الظلم، علمتني اللجوء إلى التفاؤل والأمل في خضم الأزمات لكن دونما انفصال عن الواقع.
كلما لجأت لأمي في أمر يؤلمني، كانت ترد الرد نفسه "أحبي نفسك".
هذه الفلسفة هي التي تجعلنا أقوياء، ومتصالحين مع الدنيا، ونسعى لتغيير أحوالنا دون أن نتحول لضحايا.
تعلمت من أمي أن تغيير نهج التفكير ذاته أهم كثيرًا من مجرد تغيير الأفكار والرؤى، فدومًا كانت تلفت انتباهي "أن التعصب له وجوه كثيرة"، فالتبرؤ من فكر متعصب لا يعني بالضرورة التحرر من التعصب نفسه، فالانتقال من "دوجما" لأخرى مجرد دوامة نفقد فيها آدميتنا، والانتصار للإنسان أهم من الانتصار للأيديولوجيا، كانت دومًا تنصحني بأن أتبنى القناعات بهدوء غير مفتعل، فالقناعات تتغير مع تغير الظروف والتجارب الحياتية.
جسدها اليوم بفعل الزمن والطبيعة قد يكون معتلا، لكن ذهنها حاضر، وذاكرتها أكثر يقظة بكل ما قرأته واختبرته في حياتها.
لا تزال قادرة على مساعدتي في رؤية نفسي التي لا أراها، لا تزال قادرة أن تنقذني من نفسي دون فرض وصاية.
لا تزال هي السبب في تمردي الذي هدّمت به أصناما صنعتها في عقلي، لا تزال تحدثني عن القوة النفسية والذهنية وصناعة الإرادة. هكذا صنعت ملك الصباحات الآمنة.