الجمعة 3 مايو 2024

الأم في عالم نجيب محفوظ

فن31-10-2020 | 19:18

تحظى الأم بمكانة بالغة الأهمية في عالم نجيب محفوظ، الروائي والقصصي، وهو ما يتوافق مع القيمة السامية للأم في الحياة المصرية، وفي الواقع الإنساني للمجتمعات والشعوب كافة.


على الصعيد الشخصي، تلعب أم الكاتب الكبير دورا إيجابيا بارزا في تشكيل شخصيته وتحديد مساره، وفي حوارات نجيب مع الأستاذ رجاء النقاش، المنشورة في كتاب "نجيب محفوظ.. صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته"، يقول محفوظ إن أمه، التي لم تكن تجيد القراءة والكتابة، كانت "مخزنا للثقافة الشعبية"، ودائمة التردد على المتحف المصري، فضلا عن غرامها بسماع الأغاني، خاصة للشيخ سيد درويش. ويعترف أن علاقته مع والدته كانت أوثق من العلاقة مع أبيه، من ناحية لأنه لازمها وأقام معها باستمرار، ومن ناحية أخرى لأن العمر قد امتد بها طويلا بعد وفاة الأب.


العامل الذاتي، ممثلا في علاقة نجيب محفوظ مع أمه، لا ينفي أن عالمه الثري يتسع لأنماط شتى من الأمهات، المعبرات بتنوعهن عن واقع معقد متعدد الأبعاد والجوانب، في هذا الإطار، يقدم أمهات طيبات صالحات أقرب إلى المثالية والملائكية والعطاء غير المحدود، وأمهات أخريات يصل بهن الحب الجاهل غير المحسوب إلى السلبية المدمرة والإهمال الجسيم وتشويه التكوين النفسي للأبناء.


ثمة ثنائية لافتة في رصد نجيب وتحليله لشخصية الأم، ونعني بذلك الجمع بين الحب والإرادة القوية، وقد تصل القوة إلى درجة القسوة، بكل ما يترتب عليها من نتائج وتداعيات، أما الأم البديلة، زوجة الأب، فالغالب عليها عند نجيب ألا تكون أما حقيقية، فلا نجاة من مشاعر الغيرة والاستياء، وربما الحقد والكراهية، ولا شك أن "الست أمينة" في "الثلاثية" هي الاستثناء النادر الذي لا يُقاس عليه.


من ناحية أخرى، يبدي محفوظ اهتماما لافتا بالعلاقة بين الأمومة والأنوثة، الصدام ليس حتميا، وفي مستطاع المرأة أن تكون أما وأنثى، لكن أعراف المجتمع وتقاليده الموروثة تميل إلى الإعلاء من شأن الأم على حساب الأنثى، وتصنع تناقضا لا موضع له، قوامه أن الأمومة تزيح الأنوثة، والمتمسكة بأنوثتها لا تصلح عند الكثيرين للقيام بمهام وواجبات الأم الصالحة.


ولأن الأمومة عاطفة إنسانية أصيلة، فإن محترفات الدعارة لسن استثناء من القاعدة، وإدانة المهنة المرذولة سيئة السمعة لا تعني أن العاهرة محرومة من حق الأمومة وما يقترن بها من مشاعر، ذلك أن الإنسان يبقى إنسانا دون النظر إلى ما يقترفه من أخطاء وخطايا.


يقدم نجيب رؤية عميقة ناضجة متكاملة عن الموقع الذي تحتله الأم في الحياة المصرية، ليس من منطلق القداسة المثالية التي لا وجود لها في معطيات الواقع، بل من قاعدة الإحاطة الشاملة بالأنماط المختلفة التي تتراوح بين التحليق في سماوات السمو والهبوط إلى مهاوي الحضيض؛

الأمهات الطيبات الوادعات الحانيات، المحاصرات بالحزن والتعاسة، أمينة والست عين في "الثلاثية" و"عصر الحب" على سبيل المثال، والمسرفات في الحب غير السوي إلى درجة المرض، أم كامل رؤبة لاظ في "السراب"، والسلبيات المهملات العاجزات عن التربية والتوجيه، أم محجوب في "القاهرة 30"، واللاتي يصل بهن الجشع والاستهتار وغياب الشعور بالمسئولية إلى حد التفريط والإساءة، أم إحسان وحليمة الكبش في "القاهرة الجديدة" و"أفراح القبة".


عند نجيب وفرة من الأمهات القويات المسلحات بالعزيمة والإرادة الحديدية لمواجهة تقلبات وعواصف الحياة، هكذا الأمر عند أم عثمان بيومي في "حضرة المحترم"، وحليمة بركات في "التوت والنبوت"، في الحكاية العاشرة والأخيرة من حكايات ملحمة "الحرافيش"، أما سنية المهدي في "الباقي من الزمن ساعة"، وأم حسن في "بداية ونهاية"، فأقرب إلى الأساطير قريبة الشبه بالأم المقدسة توتيشيري في "كفاح طيبة".


التناقض غير المنطقي بين الأمومة والأنوثة يتجسد في نماذج غير قليلة يقدمها نجيب، ومن ذلك هنية، أم ياسين عبد الجواد، وبهيجة، أم مريم، في "الثلاثية"، وأم رمضان في "عصر الحب"، وروحية في قصة "نكث الأمومة"، مجموعة "همس الجنون"، وأم عباس في قصة "حلم نصف الليل"، مجموعة "بيت سيئ السمعة". هذا النمط من الأمهات ليس متشابه الملامح والسمات بطبيعة الحال، فلكل حالة خصوصيتها وتفردها، لكن المشترك الرئيسي بين المنتسبات إليه هو الحرمان الموجع من ناحية، والتمزق بين رسالة الأم واحتياجات الجسد من ناحية أخرى.


يقدم محفوظ معالجة متفردة لقضية الأم العاهرة، تظهر مبكرا في قصة "روض الفرج"، مجموعة "همس الجنون"، وتتجلى بتمامها عند زنوبة في "الثلاثية"، وتصل إلى ذروة النضج عند عطية في "السكرية"، فضلا عن فلة وزينات في "الحرافيش"، وبسيمة عمران في "الطريق" وريري في "السمان والخريف".


أمهات مصر الطيبات هن الأغلبية في عالم نجيب محفوظ، لكن الشهادة الصادقة الناضجة لا تكتمل بمعزل عن الإحاطة الواعية بالأمهات الجاهلات المسيئات للأبناء، والأمهات العاهرات الساقطات؛ وهل يخلو مجتمع إنساني من نماذج مماثلة؟


    Dr.Randa
    Dr.Radwa