قررت مشيخة الطرق
الصوفية عدم إقامة مواكب الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف هذا العام حرصا على صحة
المواطنين وحياتهم، ذلك أن « كوفيد ١٩» عاود نشاطه من جديد وارتفعت معدلات الإصابة
بكورونا، والحق أن المواكب وما يصاحبها من بهجة هي معلم رئيسي من معالم الاحتفال بالمولد
النبوي، لكنها ليست المعلم الوحيد، هناك حلوى المولد وعروسة المولد، ومنذ أسبوعين ونحن
نلاحظ إقبالا على محلات الحلوى، ونشرت كثير من المحلات أسعارها لمزيد من اجتذاب المواطنين.
الاحتفال بالمولد
النبوي عادة سنوية فى مصرنا الحبيبة، وهو احتفال ديني واجتماعي وثقافي، يناسب الروح
المصرية المحبة للحياة والباحثة عن مصادر للبهجة والسعادة بها، لذا لم يلتفت المصريون
إلى بعض الآراء التى تطل بين حين وآخر، يزعم أصحابها أن الاحتفال لا يجوز وأن « السلف
الصالح» لم يحتفلوا به، صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يثبت عنه أنه احتفل
بيوم مولده ولا فعل ذلك كبار الصحابة، لكن هذا لا يمنعنا نحن من الاحتفال والاحتفاء
بالذكرى العطرة، ذلك أن تذكر النبي مستحب طوال الوقت، وكل يوم، ليس فقط فى بعض المناسبات.
ذكرى المولد النبوى
تدعونا إلى التفكير والتساؤل، التفكير فيما قدمه لنا رسول الله من قواعد للتعامل وأسس
فى الحياة، نجح من خلالها أن يؤسس مجتمعا جديدا، وأن ينشر ما كلفه الله به، أى دين
الإسلام، ونحن نستاء ونحزن لإساءة الآخرين، أقصد فى أوربا لنبى الإسلام، حين يصرون
على اعتباره المسئول عن الإرهاب والعنف الذى تمارسه جماعات وتنظيمات إرهابية يزعم أمراؤها
أنهم يقتدون بنبى الله، وهو براء من ذلك تمامًا.
ومن يتأمل السيرة
النبوية ويدقق فى حياة رسول الله يجد أنه قدم لنا العديد من القواعد التى لو أعملناها
فى حياتنا ولو نبهنا إليها، ما وجدنا إرهابيا يجرؤ على أن ينسب نفسه إلى نبى الله وإلى
دينه الحنيف.. ومع الأسف أن بعض هذه القواعد باتت مهجورة، ولم نحاول الالتزام بها وتقديمها
باعتبارها ميراثا نبويا، والأمرّ من ذلك أن بعضنا التزم بقواعد مناقضة لما أرساه النبي
فى حياته وسيرته بين أصحابه ومع خصومه وأعدائه، ويمكننا أن نشير إلى بعض تلك القواعد
المهجورة على النحو التالي:
أولًا: تأليف القلوب
أو خلق « المؤلفة قلوبهم» ، سواء من غير المسلمين، تحديدًا الكفار والمشركين أو أولئك
الذين أسلموا وهناك استشعار أنهم لم يتماهوا بعد بقيم وروح ذلك الدين العظيم.
والذى حدث أن سيدنا
محمدا بعد غزوة حنين أعطى من فيئها بكرم لعدد من أبناء قريش شاركوا فى القتال إلى جوار
جيش المسلمين، كانت مشاركتهم لأن الأعداء من ثقيف كانوا بصدد غزو مكة، بعد أن فتحها
النبي، فقد تخوفوا من أن اجتماع المدينة ومكة معًا تحت قيادة النبي يهدد وجودهم، وبعد
الانتصار أعطاهم النبي من الفئ، مما أشعر بعض المسلمين، من الأنصار تحديدًا بالعتاب،
وشرح لهم نبى الله أنه أراد أن « يؤلف قلوبهم» وقال الفقهاء إن الهدف من تأليف القلوب،
هو منع المشرك من أن يفكر فى فعل أى شر تجاه المسلمين، وإن كان مسلمًا مذبذبًا زاد
الإيمان فى قلبه، واقتنع الأنصار وغيرهم بوجهة نظر النبي، وأخذوا بها، لكن فى معركة
حنين، راح البعض يعيرون معاوية بن أبى سفيان بأن والده أبو سفيان بن حرب كان من المؤلفة
قلوبهم، وهذا صحيح، وهكذا تحولت قاعدة تأليف القلوب التى نزل فيها قرآن كريم يدعمها
إلى ورقة فى صراعات سياسية، وتم هجرها.
ولنا أن نتخيل
الآن، لو أن الدولة العثمانية وغيرها من الدول فى التاريخ الإسلامي تعاملت مع غير المسلم
فى المجتمع وفق ألفة القلوب، هل كنا نجد أزمات أقليات وعداوات لا مبرر لها فى المجتمع
أدت فى النهاية إلى تمزق المجتمع وانهيار الدولة، فضلًا عن التدخلات الأجنبية وحين
نرى من يصرون على رفض غير المسلم أو حمل العداء نحوه فهل هؤلاء فعلا - ملتزمون بما
ورد عن سيدنا رسول الله صلى الله على وسلم؟.وحين نتأمل مجتمعنا المصري فإننا نجد أن
الدولة المصرية منذ سنة ٢٠١٤، وتحديدًا مع الرئيس عبدالفتاح السيسى فحاول إحياء قاعدة
ألفة القلوب مع غير المسلمين ومع المختلفين فى المجتمع المصري، بأن يعاملوا كمواطنين
بلا تمييز وبلا تفرقة، محاولة لتذويب المشاعر السلبية ولا أقول « احن» قديمة، لبناء
مجتمع مؤتلف، يقبل الاختلاف بماهية حقيقية واعتراف بكافة حقوقه.
كانت الدنيا تقوم
وتقعد فى مصرنا بسبب بناء أو عدم بناء كنيسة، أى دار عبادة للمواطن المسيحى، فإذا الدولة
تيسر هذا الأمر، بل وجدنا الدولة هى التى تبادر إلى إنشاء كاتدرائية للمسيحيين فى العاصمة
الإدارية، وتتولى القوات المسلحة إصلاح وتجديد أكثر من ٥٥ كنيسة ودور عبادة تخص المسيحيين
المصريين، قام إرهابيو الجماعة بإحراقها أغسطس ٢٠١٣، إنه الحفاظ على المواطنة وإحياء
قاعدة تأليف القلوب التى استنها سيدنا رسول الله.
ويمكن أن نتفهم
عدم الاهتمام لألفة القلوب من البعض، لكن ما لا يمكن أن نغتفره هو قيام جماعة الإخوان
بوضع نظرية معادية تماما لما استنه رسول الله؛ فقد أعتمد الإخوان نظرية اسمها الاستعلاء؛
صاغها سيد قطب فى كتابه «معالم فى الطريق» الاستعلاء عنده يكون من الطليعة المؤمنة
تجاه غيرها أو من هم خارجها؛ قال سيد قطب: إن الاستعلاء يكون فى موقف القوة وفى موقف
الضعف، ويكون كذلك والمؤمنون قلة أو كثرة؛ الاستعلاء مع الجميع وطوال الوقت؛ وإذا رجعنا
إلى سيرة الرسول وإلى كتاب الله لوجدناهما ضد الاستعلاء؛ القرآن الكريم طالبنا بالتواضع؛
وعدم الفظاظة ورفض غلظة القلب؛ لكن سيد قطب وجماعته يطالبون بالاستعلاء؛ وقد مارسوا
ذلك بالفعل معنا كمصريين وكمسلمين. كانت الجماعة خلال عام من حكم مصر نموذجا للاستعلاء
على الجميع، الاستعلاء الفظ والغليظ؛ دعك الآن من أن ذلك كان فشلا سياسيا ذريعا لهم؛
لكنه -دينيا وإسلاميا- يعنى أنهم لا يلتزمون بما قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛
سواء حين هاجر إلى المدينة المنورة أو بعد فتح مكة المكرمة ثم فى غزوة حنين وبقية حياته
العظيمة.
نحن نأسى لأن بعض
الأوربيين يسيئون عن عمد محمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولكن فى النهاية سنقول
إنهم لم يدرسوا حياته وسيرته صلى الله عليه وسلم من مصادرها الأولى، فماذا عن تلك الجماعة
التى تضاد رسول الله فعلًا وقولًا.. عملًا وتنظيرًا. تعامل الإخوان مع القوى المدنية
فى المجتمع المصري اتسم بالاستعلاء والغرور، تعاملهم مع النائب العام المستشار عبد
المجيد محمود ورجال القضاء كان هو الاستعلاء ذاته؛ تعاملهم مع مؤسسات الدولة ومع غير
المسلمين فى مصر هو الاستعلاء البغيض؛ ومرة أخرى إسلاميا كان ذلك يعنى الوقوف ضد ما
طالبنا به رسول الله من ضرورة ائتلاف القلوب والبعد عن الغرور والفظاظة، قال الله لنبيه
الكريم «ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك» .
ثانيًا: روي عن
أم المؤمنين السيدة عائشة رضى الله عنها أنها قالت «ما خُيّر رسول الله بين أمرين إلا
اختار أيسرهما»، وفى حديث عن رسول الله أن الدين يسر لا عسر؛ وفى التراث الإسلامي عموما
الكثير من النصائح والوصايا التى تطالب بالتيسير والبعد عن التشدد والحدة، والميل نحو
التوسط والاعتدال؛ ومن يراجع كتابات ابن مسكويه فى الأخلاق يجد أنها تقوم على الاعتدال
والوسطية؛ لكننا ابتلينا بأناس تشددوا وبالغوا فى التشدد متصورين أنهم بذلك يقومون
بإحياء الدين؛ وبناء المجتمع؛ فكان أن قسموا المجتمع إلى متشددين ومعتدلين، وهم فى
تشددهم بادروا إلى عداء قطاعات كبيرة من المجتمع؛ وكشفوا عن عدوانية حادة لديهم ومشاعر
كراهية متأصلة داخلهم؛ والمؤسف أنهم يزعمون ويسندون كراهيتهم للآخرين وعدوانيتهم تجاه
الحياة هى من صميم الدين؛ يرفضون الابتسام ويختارون التجهم يهجرون الألفة ويتجهون إلى
النفور وبناء العداء مع الآخرين ومع العصر كله؛ فكان أن خلقوا تجاه الآخرين خوفا من
الإسلام وظهر ما بات يعرف باسم « الإسلاموفوبيا»، الخوف دائما بداية الكراهية وبابها؛
وهم أخافوا الكثيرين وتحول الأمر ببعض الخائفين إلى الخوف من الدين ذاته؛ فكان ذلك
سببا رئيسا لزيادة موجة الإلحاد فى بعض المجتمعات؛ نعم هو ليس إلحادا عقائديا؛ لكنه
إلحاد قائم على المخاوف والرعب الذى أثاره المتشددون؛ لذا تسهل مواجهته؛ لكن المهم
أن يتراجع ذلك التشدد والتزمت.
وتحاول مصر منذ
سنوات مواجهة التشدد والمتشددين، الشعب فعل ذلك فى ٣٠ يونيه سنة ٢٠١٣؛ حين هب عشرات
الملايين يرفضون حكم الإخوان المتشدد ويرفضون كل أشكال التشدد، ولم يقف الأمر عند يوم
٣٠ يونيه بملايينه الثلاثين، لكن امتد إلى القرارات التى اتخذت يوم ٣ يوليو ٢٠١٣ برسم
خريطة طريق جديدة لمصر وللمصريين، واكتمل الأمر حين طلب القائد العام للقوات المسلحة
من المصريين فى يوليو ٢٠١٣ النزول إلى الشارع لتفويض القوات المسلحة لمواجهة الإرهابيين
والمتشددين، هب عشرات الملايين وقدموا التفويض، ونجحت مصر فى مواجهة المتشددين ودفعهم
بعيدا عنا، ولذا فإن دعوة السيد الرئيس السيسى سنة ٢٠١٤ إلى تجديد الخطاب الديني، لم
تكن إلا استكمالا للمشروع الوطني المصري الذى بدأ يوم ٣٠ يونيه بمحاربة التشدد والمتشددين،
والعودة إلى ما طالبنا به رسول الله من التيسير وعدم مشادة الدين والانحياز إلى الوسط
والوسطية، وقد قطعنا شوطا كبيرا فى هذا المجال بفضل تضافر مؤسسات الدولة من الأزهر
الشريف إلى دار الإفتاء إلى وزارة الأوقاف، مرورا بوزارة التعليم والثقافة والشباب
وغيرها.
ثالثا: موقف رسول
الله من الحروب، كان قائما على تجنب الحرب قدر الإمكان واللجوء إليها فى حالة الدفاع
فقط، وبعد أن تكون كافة الطرق والبدائل الأخرى استنفدت، وبهذه الطريقة فإن رسول الله
أنهى غزوة الخندق، دون قتال ودون إراقة دماء، وفتح مكة سلمًا دون قتال، وفتح الطائف
دون قتال، وفى كل ما تم من هذه الحالات كانت مبررات ودوافع الحرب أقوى وقائمة، فى الخندق،
جاء القرشيون وغيرهم يهاجمون النبى والمسلمين فى المدينة، أى داخل بيته وداره، فأقام
الخندق حولها لمنعهم من الوصول إلى الداخل، وكان مقاتلو الأنصار أشداء وعددهم كبير،
بالإضافة إلى المهاجرين ومع ذلك تحمل النبى الحصار فترة ورفض الدفع بالمقاتلين وآثر
تجنب القتال، وبعد أن يئس القرشيون ومن معهم من إمكانية اقتحام المدينة انسحبوا، أثناء
ذلك كله كان النبي أرسل إلى بعض قادتهم وأقنعهم بالانسحاب.
وفى فتح مكة تتجلى
الصورة أوضح، ذهب رسول الله بأصحابه إلى مكة لزيارة الكعبة، وأراد القرشيون منعه، وكان
لديه عدد كبير من الفرسان، ومع ذلك استبعد القتال، وقبل صلح الحديبية كانت شروط الصلح
قاسية ومجحفة بحق النبي والمسلمين، ومع ذلك قبل بها تجنبًا للقتال، بين الصحابة كان
هناك الغاضبون لقبول تلك الشروط، التي وصفها المستشرق «مونتجمرى « بالمذلة، لكن النبي
لم يستفز وآثر الصبر والسلام، ولما انقضت مدة الصلح ولم يتم تجديده اتجه بجيشه، كان
قوام الجيش عشرة آلاف مقاتل، وأصاب الذعر أبا سفيان بن حرب على مستقبل مكة، ولكن النبي
آثر السلم، ودخلها فتحًا، كانت أوامر النبي لقادة الجيش، بعدم الدخول فى المعارك وتجنب
القتال، إلا إذا اضطروا لذلك، وفى المقابل قدم حوافز للخصوم لتجنب القتال، مثل من دخل
داره فهو آمن ومن دخل الكعبة فهو آمن ومن دخل دار أبى سفيان بن حرب فهو آمن، وهكذا
وسع نبي الله فرص الأمان، فكان الفتح سلمًا وبعد الفتح قال لهم مقولته الخالدة “اذهبوا
فأنتم الطلقاء” ورغم أن الفتح كان قويا ومنتصرا، لم يفرض عليهم اعتناق الإسلام، وترك
الأمر طواعية لهم.
ويجب القول أن
النبي حين تحرك بجيشه نحو مكة، كان هناك أحد القادة هو سعد بن عبادة يشعر بمرارة تجاه
القرشيين، ويود الانتقام والثأر للمعارك السابقة، خاصة أحد، وراح يتوعد أهل مكة، وما
إن علم رسول الله بذلك حتى عزله عن القيادة، فوجود قائد محمل بهذه المشاعر العدائية
يعنى أنه يمكن أن يمارس القتل للقتل، إلى هذه الدرجة كان حرصه على تجنب القتال، حتى
وهو فى أقصى درجات القوة والعدو فى غاية الضعف، وبرغم كل ما يمكن أن يكون صدر عن ذلك
العدو من إساءات بحق النبي شخصيا وبحق المسلمين، وهل هناك إساءة أكثر من محاولة قتل
النبي نفسه ؟!.
وفى الطائف اختبأ
فلول جيش «هوازن» من عزوة «حنين»، وحاصر النبي الطائف ولما وجد أن الحصار سيطول وأن
اختراق الحصن لن يتحقق إلا بضحايا وخسائر كبيرة، أمر الجيش بالانسحاب، وبعد حوالى عام
فتحت الطائف سلمًا وبالتفاوض.
هذا السلوك النبوي
يجعلنا نتأمل ما يقوم به دعاة الإرهاب من جماعات وتنظيمات، تتقدمها جماعة الإخوان الإرهابية،
ونتساءل ما علاقة ما يقومون به بالنبي وبالإسلام، أنهم يقسمون العالم إلى فئتين، فئة
مؤمنة أو الطليعة المؤمنة بتعبير سيد قطب والمجتمع الجاهلي، ويعلنون الحرب على هذا
المجتمع، وراحوا يقتلون ويدمرون، قتلوا المستشار أحمد الخازندار، ومن قبله رئيس الوزراء
أحمد ماهر ورئيس الوزراء محمود فهمى النقراشي، وحكمدار العاصمة سليم زكي، هؤلاء جميعا
قتلوا بأمر من حسن البنا، ثم واصلوا القتل، قتلوا وزير الأوقاف العالم الجليل الشيخ
محمد حسين الذهبي وحاولوا قتل العالم الجليل د. على جمعة وقتلوا د. فرج فودة وعشرات
الضباط والجنود من الشرطة والجيش، فضلا عن المواطنين المدنيين، هم اعتبروا هؤلاء كفارا
وقتلوهم، لكن رسول الله لم يقتل الكفار، وشهداؤنا لم يكونوا كفارًا كانوا مؤمنين، وموحدين
بالله، لكن لأنهم آمنوا بالله ورسوله ولم يؤمنوا بحسن البنا وسيد قطب قتلوهم.
ونحن نحتفل بذكرى
المولد النبوي الشريف نحتاج إلى التركيز على تلك القواعد النبوية التي هجرها بعضنا
وسار عكسها البعض الآخر، أقصد أولئك المتأسلمين الذين حاولوا تخريب الأوطان وتمزيق
المجتمعات واسقاط الدول، وهم فى سبيل ذلك أساءوا إلى نبي الهدى والرحمة والإنسانية.