د. إبراهيم نجم
يحتفل الكون كله في هذه الأيام المباركة بميلاد
أشرف الخلق سيد ولد آدم الذى أشرقت أنواره فعمت جميع الوجود، وسرت أسرارُه في رُوح
كل موجود، الذى أرسلُه ربه رحمةً للعالمين، وهدايةً للناس أجمعين، إنه رسولُ العنايةِ
الربانية، ومنقذُ الأرواح الإنسانية، إنها ذكرى ميلادِ مولانا وشفيعنا وقدوتنا سيدنا
محمدٍ صلى الله عليه وسلم، نسألُ الله عز وجل أن تَعُمَّ هذه الذكرى العطرة بالخيرِ
واليُمن والبركات على جميع الإنسانية، ونسألُ الله تعالى أن يعمنا بالخيرِ والسلامِ
والرخاءِ وأن يُجملَنا بأخلاقِ وسجايا المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.
ونحن نحتفل بهذه
الذكرى الكريمة العَطرة. نريد أن نتعلمَ من سيرةِ المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأن
نتخلقَ بأخلاقِه الشريفة، وأن نبعثَ في البشريةِ من جديدٍ معانى الخيرِ والعدلِ والسلامِ
والأمنِ والسكينةِ والرحمةِ التي أرساها المصطفى صلى الله عليه وسلم وبُعثَ بها وبذَلها
لجميعِ العوالمِ والكائناتِ حتَّى جمع اللهُ جميعَ مقاصدِ رسالتِهِ الغراءِ فى قوله
تعالى (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).
فمنذ أن منَّ الله
سبحانه وتعالى على البشرية ببعثة النبي المصطفى، وعلى مدى ما يزيد على أربعة عشر قرنًا
من الزمان، مثَّلت السيرة النبوية الشريفة لأمة الإسلام معالم الرحمة الإلهية المهداة
إلى البشر، وقد تجسَّد فى هذه السيرة الكريمة المثال الأسمى لمعاني الكمال البشرى المتصل
بالوحى الإلهي، والذى تجلى فى شخص النبي ﷺ بأقواله وأفعاله وأحواله وشمائله الشريفة.
ولقد كانت سيرة
المصطفى بمعانيها وأحداثها ووقائعها منهج حياة متكامل للمسلمين، ونبراسًا يضيء الطريق
ويهدى القلوب الحائرة، وينتشل العقول الضالة، يلمح فيه الناظر نموذج حياة المسلمين
فى مكة أوائل الدعوة النبوية، ونموذج هجرتهم الأولى إلى الحبشة وحياتهم فيها، ثم بعد
ذلك هجرة النبي ﷺ والصحابة الكرام
رضى الله عنهم للمدينة واستقرارهم وجهادهم، واكتمال أمر الدين ورسوخ الأحكام الشرعية.
وبالنظر لهذه النماذج
الحياتية من السيرة نجد أنها احتوت على مناهج متعددة، تتناول السياسية الداخلية والخارجية،
وإدارة النواحي العسكرية، وعلاج المشكلات وإدارة الأزمات على المستوى الفردي والجماعي،
حيث استوعبت هذه النماذج المشرقة من السيرة النبوية معالم الدين الإسلامي وشريعته وكيفية
تطبيقه على جميع المستويات.
وقد استمرت الأمة
على مرِّ القرون تنهل من هذا المورد العذب، وتستنبط من نماذج السيرة معانى معرفة الله
وتوحيده وعلاقة الإنسان بربه، ومبادئ تزكية النفوس وتربيتها وتطهير القلوب، وعلاج أمراض
النفوس والمجتمعات، وبناء العقلية المسلمة الواعية، وتستخرج منها المبادئ العامة للقيم
والأخلاق والأحكام الشرعية التى تقوم عليها الحياة المستقيمة والمجتمعات المستقرة والعلاقات
الإنسانية بين البشر.
ثم حدث بعد ذلك
أن ابتليت الأمة الإسلامية ببعض الطوائف الضالة والجماعات والتيارات المنحرفة، التى
انحرفت بمعانى هذه النماذج المشرقة من السيرة النبوية فكونت بفهمها المغلوط أيديولوجية
فكرية منحرفة ذات مراحل وأهداف، وهى فى هذا كله تنسب ضلالتها لسيرة النبي، فبدلت المعاني
حيث عملت على إسقاط أحداث السيرة المطهرة ووقائعها على أهدافها وآليات عملها الباطل،
واستنطقت أحداث السيرة النبوية بما لم تقله ولا تدل عليه، وقامت باجتزاء بعض أحداث
السيرة من سياقها لتجعل منها دليلًا على منهجها الضال، فأنزلت المعاني السامية في قوالب
فكرية منحرفة يتم استدعائها وقتما تشاء.
ونتيجة لذلك الانحراف
تحوَّلت معانى السيرة النبوية وأحداثها على يد هذه الجماعات من منهج حياة متكامل متصل
بالوحى الإلهي إلى منهج حركي بشري، يخضع للأهواء والأفكار المنحرفة ويهدف إلى تحقيق
أهداف دنيوية باسم الدين.
كيف نفهم سيرة
النبي ومراحلها المختلفة؟
الجواب الجامع
لهذا السؤال هو أن ما أجمعت عليه الأمة الإسلامية من المعاني الثابتة المستنبطة من
السيرة النبوية وعملت على تطبيقه هو ما يجب الأخذ به، وهو الحق الذى لا ريب فيه، وذلك
مصداقًا لحديث النبي الذى قال فيه: «إِنَّ الله لَا يَجْمَعُ أُمَّتِي- أَوْ قَالَ-
أُمَّةَ مُحَمَّدٍ على ضلالةٍ، ويدُ الله مع الجماعةِ، ومَنْ شَذَّ شَذَّ إلى النَّارِ»
والذى يوضح أن ما عليه عامة الأمة هو الصحيح.
وبناء على هذا
فعلى المسلم ألا يستقل بالنظر إلى بعض أحداث السيرة النبوية ويقوم باستنباط الأحكام
من تلقاء نفسه أو يبتدع مناهج بناء على فهمه.
ولا يفهم مما سبق
أن بعض مراحل السيرة النبوية ليس لها تفعيل أو تطبيق بل يؤخذ بها ويعمل بما تقتضيه؛
على أن يكون هذا من خلال فتاوى أهل العلم المتخصصين فقط، ومثال ذلك التطبيق تلك الحالات
التى يكون فيها المسلمون أقلية يعيشون ظروفًا صعبة توجب استدعاء بعض مراحل السيرة النبوية
وإجراء أحكامها عليهم، حتى يستطيعوا المحافظة على دينهم وعقيدتهم، وقد مرَّ المسلمون
بمثل هذا من قبل وذلك بعد سقوط الأندلس حيث أرسل بعض علماء المغرب للمسلمين هناك فتوى
يوضح لهم فيها الكيفية التي يتمكنون بها من إقامة شعائر دينهم فى ظل ظروف الاضطهاد
والمطاردة والتخفي بدينهم.
وهكذا نجد أن الاستنباط
من النماذج الحياتية في السيرة النبوية كان على مدار التاريخ الإسلامي إنما يصدر من
أهل العلم المتخصصين فى حدود معينة وفق الظروف التي يمر بها المسلمون.
بيد أن هناك فهما
آخر للرسالة المحمدية وهو فهم المتشددين والمتنطعين والإرهابيين لسيرة وسنة المصطفى
صلى الله عليه وسلم، فهذه الفئات الضالة قد ارتكبت كل شر وكل خبيث باسم الإسلام وبزعم
نصرة الإسلام وتحت دعوى إقامة الخلافة الإسلامية والتمكين لدين الله ودينُ الله منهم
بريء كل البراءة، فلقد شوهوا سمعة الإسلام وأصبحوا أكبرَ سببٍ وأعظمَ عاملٍ من عوامل
التشكيكِ فى الإسلامِ وصدِّ الناسِ عن سبيل الله .
وقد خدعت هذه الجماعات
والتيارات الضالة جموعًا من الشباب فأوهمتهم أنهم يعملون فى إطارهم الحركى من خلال
معانى السنة النبوية المطهرة ومراحلها، وأنهم بذلك على هدى النبى ﷺ، والأمثلة على ذلك الانحراف الشرعى الفكرى كثيرة
ومتنوعة؛ فقد ابتدعت هذه الجماعات مصطلحات كثيرة ألبستها ثوب الشرعية، وانحرفت بمصطلحات
شرعية عن معانيها الصحيحة، فمن ذلك مصطلح الجماعة المؤمنة أو جماعة المؤمنين وما يلحق
به من مسميات كالملتزمين وما شابهه، والتي يتوهمون من خلالها أنهم ممثلون لجماعة المسلمين
وسط مجتمع الكفار أو مجتمع الجاهلية، ظنًّا منهم أنهم يطبقون المرحلة المكية من السيرة
النبوية، والتي تقتضى بحسب زعمهم السرية والتخفي والانضمام إلى تجمعات خاصة منعزلة
عن المجتمع ماديًا أو معنويًّا، تعمل من خلال آليات معينة على تحصيل ما يسمى بالتمكين،
والذى هو فى الحقيقة وواقع الأمر تمكين لجماعتهم يحققون تحت ستار الدعوة والدين مصالحهم
دنيوية.
والمضحك فى الأمر
أنهم يشبهون عملهم السرى واجتماعاتهم هذا بتجمع المسلمين فى دار الأرقم بن أبى الأرقم
فى مكة، وأنهم يمثلون بذلك مرحلة سرية الدعوة، والتي يتم فيها تكوين الطائفة المؤمنة
التى سوف تنطلق بعد ذلك لتحقيق التمكين للدين.
وقد صاحب هذا التوهم
العديد من الأفكار التكفيرية من القول بجاهلية المجتمع وعدم تحقيق الناس للتوحيد، والقول
بالعزلة عن المجتمع والتحضير للمفاصلة معه، وتحريف مفهوم الولاء والبراء وشيوع التقية
واستحلال الكذب، بل إن بعضهم لا يرى وجوب صلاة الجمعة ولا مشروعية صلاة الجماعة تحت
زعم أنه يعيش فى مرحلة الدعوة المكية، وبذلك حرفوا المعاني العظيمة من سيرة النبي ﷺ فى المرحلة المكية، وحولوا الدين وتطبيقه إلى
عمل سرى باطني حركي ظاهره مخالف لباطنه.
وإذا انتقلنا إلى
وجه أخر من وجوه ضلال هذه الجماعات فى فهمهم وتطبيقهم للسيرة النبوية وتوصيفهم لها
وجدناهم يقولون بوجوب الهجرة والتجمع فى مناطق خاصة بهم، وتكوين القوة التى تمكن للدين
عن طريق الصدام والقتال المسلح مع مجتمعات المسلمين، والتى يهدفون من ورائها إلى قيام
الدولة الإسلامية فى زعمهم، ويظهر ذلك جليًا فى الجماعات التى تدعى أنها تقوم بالجهاد
فى سبيل الله، فدمرت الأوطان وخربت بلاد المسلمين، واستحلت دماء الأبرياء، وهى تحسب
أنها تطبق المرحلة المدنية من السيرة النبوية التى شرع فيها الجهاد وقتال الكفار وهكذا
سلسلة من الأخطاء والجرائم بدأت بالحياد عما اعتمده الأسلاف والعلماء من منهجية فقهية
وأصولية إلى ابتداع منهج جديد فى الاستنباط أطلقوا عليه المنهج الحركى للسيرة النبوية.