أرسل الله عز وجلّ
رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للخلائق عامة مؤمنهم وكافرهم، إنسهم وجنهم، وجعله
رؤوفاً رحيماً بالمؤمنين، فمن قبل هذه الرحمة وشكر هذه النعمة سعد فى الدنيا والآخرة،
ومن ردها وجحدها خسر الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}.
وقال تبارك اسمه: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين
رؤوف رحيم}. وقد وصف الله رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: {فبما رحمة من الله لنت
لهم ولو كُنت فظّاً غليظ القلب لانفضوا من حولك...}، فالنبي صلى الله عليه وسلم وصفه
الله بأنه يلين لقومه، وهذا اللين صادر عن منحة من الرحمة منحه الله إياها، فلو كان
فظّاً وهو الكريه الذى لا تستريح إليه النفوس، وكان {غليظ القلب} وهو كناية عن عدم
رقته ورحمته، لكرهه الناس وتفرقوا عنه، وقال سبحانه: {واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين}.
ولم تكن هذه الرحمة
وذاك البر خاصاً بالمؤمنين فقط؛ بل رحمته صلى الله عليه وسلم وسعت الناس جميعاً، وكان
بره يصل إلى المؤمنين وغير المؤمنين؛ ولذا كان على جانب من الرحمة والبر لا يدانيه
فيه أحد. فرحمته وبره صلى الله عليه وسلم وسعتا العدو والصديق، والقوى والضعيف، والحر
والعبد والحيوان، وفاض بها قلبه الكبير؛ فكانت فى فمه بشراً وفى عينه دمعاً وفى يده
جوداً.
تلك السماحة والرحمة
التي وسعت الجميع هي أبرز صفات رسولنا صلى الله عليه وسلم، فكان المثل الكامل والقدوة
العظمى وحقاً لما قال ربنا: {وما أرسلناك إِلَّا رحمة للعالمين} وكلمة العالمين بمدلولها
الواسع واستغراقها الشامل. وفى سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم أمثله كثيرة لسماحته
ورحمته صلى الله عليه وسلم بالناس، بل وشريعة الإسلام مبنية على الرحمة فى أصولها وفروعها.
سماحة النبى مع
غير المسلمين: رحمة النبي صلى الله عليه وسلم وعفوه وصفحه عمن أسرفوا فى إيذائه هو
الخلق الكريم الذى أدبه به القرآن، قال تعالى: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}.
فكان صلى الله عليه وسلم يعفو عمن ظلمه ويعطى من حرمه، ويصل من قطعه، ولن تجد فى تاريخ
البشرية كلها مثل سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ظافراً ناجحاً مؤيداً، يعطى من
حرمه ويعفو عمن ظلمه. ففي الحديث المتفق عليه: «الراحمون يرحمهم اللَّه ارحموا أهل
الأرض يرحمكم أهل السماء...». وموقف النبي صلى الله عليه وسلم مع ثمامة بن أثال سيد
أهل اليمامة خير دليل على ذلك، وموقفه صلى الله عليه وسلم مع الأعرابي الذى أراد قتله،
وموقفه صلى الله عليه وسلم مع اليهودي زيد بن سعنة أحد أحبار اليهود.
فكان صلى الله
عليه وسلم يعفو عند القدرة ويحلم عند الغضب، ويحسن إلى المسيء، وقد كانت هذه الأخلاق
العالية من أعظم الأسباب في إجابة دعوته والإيمان به واجتماع القلوب عليه. روى البخاري
ومسلم من حديث أبى هريرة رضى الله عنه قال: قدم طفيل بن عمرو الدوسي وأصحابه، على النبي
صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول اللَّه، إن دوساً عصت وأبت، فادْع اللَّه عليها،
فقيل: هلكت دوس، قال: «اللَّهم اهد دوساً وأت بهم». ورحمة وسماحة الرسول صلى الله عليه
وسلم فى يوم الحديبية والفتح الأعظم كانت واضحة، وكان التطبيق العملي هو خير دليل على
ذلك واستطاع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يصدر العفو العام عن أهل مكة لما جمعهم وقال
لهم: «ما ترون أَنى صانع بكم؟». قالوا: خيراً، أَخٌ كريم وابن أَخٍ كريم. قال: «اذهبوا
فأنتم الطلقاء».
سماحة النبى مع
الضعفاء والخدم: لقد اعتنى النبى صلى الله عليه وسلم بالفقراء والمساكين، وكانوا أقرب
الناس إلى قلبه الكبير، وعطفه الشامل، فكان يرحمهم ويعلمهم ويعيش مأساتهم وجوعهم وظمأهم،
ويرفع من شأنهم، وكان كل ما فى بيته ويده لهم، وبلغ من حبه لهم أن دعا الله أن يبقى
فيهم حياً وميتاً. وروى الترمذي عن سيدنا أنس بن مالك رضى الله عنه وابن ماجه عن أبى
سعيد الخدري رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم أحينى مسكيناً،
وأمتنى مسكيناً، واحشرنى فى زُمرة المساكين...»، قال الإمام البيهقى: ووجهه عندي أنه
صلى الله عليه وسلم لم يسأل المسكنة التى يرجع معناها إلى القلة، وإنما سأل المسكنة
التي يرجع معناها إلى التواضع. وقد حثه الله -عز وجل - على العطف على الفقراء والمساكين،
قال سبحانه: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى...}. وقال تعالى: {واصبر نفسك
مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه ولا تعد عيناك...}. وكان رسولنا صلى
الله عليه وسلم رحيماً بالخدم والعمال، وقد لازمته هذه الرحمة طوال حياته، فكان يحسن
إليهم ويعاملهم بالرفق والرقة والشفقة طوال حياته، وقال ـصلى الله عليه وسلم: فمن كان
أخوه تحت يده أي: فى خدمته، فليطعمه ممَّا يأكل، وليلبسه ممَّا يلبس، وَلا تُكلفوهم
ما يغلبهم، فَإن كلفتموهم فَأَعينوهم». ومن تكريم النبي صلى الله عليه وسلم للخدم أن
عبر عنهم «من كان أخوه...»، وكان صلى الله عليه وسلم يغضب إذا وقع الظلم على الخدم.
رحمة النبي صلى
الله عليه وسلم بالنساء والأطفال: وكان صلى الله عليه وسلم يوصى بالنساء خيراً، ففى
الحديث المتفق عليه من رواية أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله ـ صلى الله
عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فإِذا شهد أَمراً فليتكلم بخير أو ليسكت،
واستوصوا بالنساء، فإن المرأة خلقت من ضلع، وإِن أعوج شيء فى الضلع أعلاه، إن ذهبت
تقيمه كسرته، وإن تَركته لم يزل أعوج، استوصوا بالنساء خيراً»،«...ألا وحقهن عَليكم
أَن تحسنوا إِليهن فى كسوتهن وطعامهن». وروى الترمذي عن أبى هريرة رضى الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخيركم خيركم
لنسائهم». وقد لازمته صلى الله عليه وسلم فضيلة الرحمة مع الأطفال فكان صلى الله عليه
وسلم إذا مر بالصبية يقرئهم السلام ويحملهم بين ذراعيه غالباً؛ بل إن رأى صبية يتسابقون
فجرى معهم. ويقول سيدنا أسامة بن زيد رضى الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يأخذني فيُقعدنى على فخذه ويُقعد الحسن على فخذه الأخرى ثم يضمهما ثم يقول: «اللهم
ارحمهما فإنى أرحمهما». وفى الحديث المتفق عليه عن سيدنا أنس رضى الله عنه أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: «إنى لأدخل فى الصلاة وأنا أريد إِطالتها، فأسمع بكاء الصبى،
فأتجوز فى صلاتي مما أعلم من شدة وجد أُمه من بكائه». قال سيدنا أنس رضى الله عنه:
«ما رأيت أحداً كان أَرحم بالعيال من رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلم». وهذه الرحمة
بالكبير والصغير لم تكن خاصة بأتباعه المؤمنين؛ بل كانت شاملة لأعدائه المشركين من
أهل الملل الأخرى. وكان صلى الله عليه وسلم يعامل العصاة برفق ولين ورحمة وسماحة، ويدعو
لهم بالهداية ويقول: «لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم»، «..... ولكن قولوا: اللهم
اغفر له، اللَّهم ارحمه»، «.... اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه، وحصن فرجه...»، «... مهلاً
يا عائشة، إِن اللَّه يحب الرفق فى الأمر كُله...»، «إن الرفق لا يكون فى شيء إِلَّا
زانه، ولا ينزع من شيء إلَّا شانه».. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد.
كان صلى الله عليه
وسلم يعفو عمن ظلمه ويعطى من حرمه، ويصل من قطعه، ولن تجد في تاريخ البشرية كلها مثل
سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ظافراً ناجحاً مؤيداً، يعطى من حرمه ويعفو عمن ظلمه.
ففي الحديث المتفق عليه: «الراحمون يرحمهم اللَّه ارحموا أهل الأرض يرحمكم أهل السماء