الإثنين 6 مايو 2024

السياسة العثمانية تجاه الاحتلال البريطاني لمصر

فن1-11-2020 | 20:31

اتسم موقف الدولة العثمانية تجاه الثورة العرابية بالسلبية وعدم التدخل إلا لصالحها فقد كان من أهداف الدولة العثمانية الانتقاص قدر الإمكان من الامتيازات التى استطاع ولاة مصر من أسرة محمد علي الحصول عليها من الدولة فى مؤتمر لندن 1840 وما بعده، وتطبيقا لهذه السياسة العثمانية رفض السلطان عبد الحميد إرسال قوات عثمانية لمساعدة الخديو توفيق الذى كان قد أرسل إليه، أثناء أحداث التاسع من سبتمبر 1881 يصف الحالة السيئة التى وصلت إليها الأحداث ومحاصرة عرابي وجنوده لقصر الخديو، ثم طلب من السلطان عبد الحميد الثانى إرسال عشرين "طابور" من الجنود العثمانيين لتكون تحت قيادته ليقضى بها على الثورة ، وكان في مقدور السلطان أن يرسل ما يريد من جنود الدولة العثمانية إلى مصر تلبية لطلب الخديو توفيق، إلا أنه لم يفعل ذلك لأنه كان يطمع فى أن تؤدى هذه الأحداث إلى وضع مصر فى موضع يسمح له بفسخ الامتيازات عنها وإعادتها إلى ما كانت عليه ولاية عثمانية عادية، بالإضافة إلى أنه لم يتضح بعد للسلطان أهداف هذه الثورة واتجاهتها ومطالبها لأنها لا تزال فى بداية أمرها، فحال ذلك دون إرسال السلطان جيشا عثمانيا للقضاء عليها.

وعلى أثر تطور الأحداث فى مصر، قرر السلطان إرسال وفد إلى مصر برئاسة على نظامي باشا ومعه على فؤاد بك معتمداً ثانيا وعضوية أحمد راتب باشا وقدرى أفندى وهما ياورا السلطان نفسه، للتحقيق فى أسباب الثورة وأهدافها.

وصل الوفد العثماني إلى القاهرة فى 6 اكتوبر 1881 وتعددت الأقوال بشأن أهداف تلك البعثة، فالبعض يذكر أن الهدف الأساسي من إرسال هذا الوفد وأعضائه إعادة السلطة العثمانية على مصر واسترداد ما فُقد منها فى معاهدة لندن 1840، ولتحقيق هذا الهدف اتبع رئيس الوفد عدة أساليب:

حاول اجتذاب الخديو إلى جانبه بحجة التصدي سويا لأكبر مشكلتين تواجهان المصالح العثمانية والخديو توفيق، وهما تدخل الأجانب فى شؤون مصر، وظهور فكرة الوطنية المصرية.

وفى الوقت نفسه كان الهدف من البعثة أيضا الوقوف على وجهات النظر والاتصال بـ عرابى لكى يتخذه السلطان مخلب قط ويتخلص من الخديو توفيق، وقد طلب الوفد العثمانى أن يتقابل مع كبار رجال مصر وأعيانها وعلمائها وبعض رجال الشعب المصرى، ولبى الخديو طلب أعضاء الوفد الذى توجه برئاسة علي نظامى باشا لزيارة الآلاى الثانى الكائن بقصر النيل وصحبه فى هذه الزيارة ناظر الحربية محمود سامى البارودى، وألقى علي نظامى خطابا فى العساكر المصرية أكد فيه على تبعية مصر للسلطان وأن الخديو هو نائب السلطان في مصر، ورد عليه طلبة بك عصمت قائد الآلاى بخطاب أعلن فيه عن خضوع الضباط والجنود للسلطان والخديو توفيق.

وإلى جانب هذه اللقاءات والاتصالات العلنية تمت بعض اللقاءات السرية التى لم يُعلن عنها مع الخديو وبعض الأعيان ويقال إن الوفد العثمانى قد حاول فى هذه الاتصالات السرية الإيقاع بين الخديو وقادة الثورة وذلك عندما نصحوا الخديو برفض الموافقة على الدستور الذى طالب به زعماء الثورة بحجة أنه لا يمكن الموافقة على صدور دستور في مصر يخالف النظم السارية في بقية أجزاء الدولة العثمانية، وفى المقابل طلب الوفد من الأعيان أن يعلنوا حماسهم لتقسيم مصر إلى ثلاث ولايات أو مقاطعات متميزة، وهو المشروع الذى كان السلطان متحمسا له ويفكر فى تنفيذه على مسؤوليته الخاصة لأنه يؤدى إلى إضعاف مصر وذلك بتفتيتها، وقابل الأعيان هذا المشروع بـ"برود" ولم يستجب له إلا عدد قليل من بعض الضباط والعلماء ومشايخ البلد.

ويذكر بعض المؤرخين أن عرابي قد استلم رسالة من الشيخ محمد ظافر شيخ السادة الشاذلية وشيخ الحضرة السلطانية من السلطان عبد الحميد، ويتضح من هذه الرسالة أن عرابي قد أرسل رسالتين للسلطان، وأنه راضٍ عنه وعن إخلاصه، وأنه لا يعوّل على إسماعيل ولا حليم ولا توفيق، بل على الرجل الذى يفكر في مستقبل مصر ويثبت الروابط التي تربطها بالخلافة.

ومما يؤكد اتصال السلطان عبد الحميد الثاني بـ عرابي ما رواه إسماعيل باشا فاضل، أحد مرافقي السلطان عبد الحميد، لأحمد شفيق باشا:

فأخبره أن السلطان كان على اتصال خفيّ مع العرابيين بواسطة الشيخ ظافر الذى كان يحبه السلطان ويأتمنه على أسراره، وكان المُشاع أن الشيخ المذكور دائما ما كان يُحذّر السلطان من أن يجاهر بعداوته للعرابيين و يحاربهم وهو خليفة للمسلمين، وروى أيضا أنه عندما ثار عرابي على الخديو توفيق كانت الدولة العثمانية عزمت على إرسال حملة لإخماد الثورة، وصدرت الأوامر باستعداد عساكرها التي كانت في كريت للسفر إلى مصر، وأمرت فرقة من الأستانة بالذهاب إلى كريت لتخلفها، إلا أن يوسف رضا باشا، رئيس لجنة سكان المهاجرين، رفع تقريرا إلى السلطان يحذره من إخلاء العاصمة من الجنود لئلا يخلعه الشعب كما خلع السلطان عبد العزيز، فخاف على نفسه واستعاض عن الحملة العسكرية بإرسال درويش باشا سعيا للوفاق بين العرابيين والخديو توفيق.

مهمة درويش باشا: 

في 7 يونيو 1882، وصل إلى الإسكندرية المشير درويش باشا على رأس وفد وحاشية كبيرة ويضم، الشيخ أحمد أسعد، أحد رجال السلطان عبد الحميد، وبمجرد وصول بعثة درويش باشا هذه، نشطت دعاية العرابيين ومساعيهم للتأثير على رئيس البعثة، فنظم محمود سامي البارودي الوفود لمقابلة درويش باشا تحمل إليه العرائض التى تؤيد الوطنيين وزعمائهم؛ واعتقد الخديو من جانبه أن بوسعه بـ"الرشاوى والهدايا" استمالة رئيس البعثة إلى تأييده، ولكن أغراض بعثة درويش كانت متعددة ومتناقضة، فقد كان الغرض الحقيقى من إرسال البعثة مجرد التظاهر بتثبيت مسند الخديوية، والعمل الجدي فى الواقع لاستعادة سلطة الباب العالى فى مصر وذلك بإلغاء مجلس النواب واستدعاء جنود عثمانيين إذا لزم الأمر إلى مصر، ثم التخلص من العسكريين باستدراج عرابي وزملائه إذا أمكن للنزهة على شواطئ البسفور الجميلة – أي القضاء عليهم في لغة ذلك العهد – وثمة غرض آخر لهذه البعثة هو إطالة أمد المباحثات وإدخال الطمأنينة إلى قلب المراقبة الثنائية والخديو توفيق لكسب الوقت حتى يتم للباب العالي على يد البعثة تنفيذ مآربه.

لم يكد يمضى على حضور درويش باشا إلى مصر بضعة أيام حتى وقعت مذبحة الإسكندرية في 11 يونيو 1882، وفى وجوده أيضا استمر الموقف في التأزم وضربت الإسكندرية بمدافع الأسطول الإنجليزي، وزاد موقف الدولة العثمانية تجاه القضية المصرية تخبطا امتناعها في بادئ الأمر عن الاشتراك في مؤتمر الأستانة الذى عقد في عاصمتها في 15 يوليو  1882 بغرض الحفاظ على الأوضاع الحالية في مصر وتأييد سلطة الخديو، ورفض السلطان عبد الحميد الاشتراك في المؤتمر، وأصر على رفضه رغم المناشدات المتعددة التى وجهها إليه المؤتمرون، رافضا أن يتدخل  فى حماية الدول الأوروبية فى ظل شروط لا تكفل له استرداد سلطته على مصر وحين تدهور الموقف، فتزايدت الأعمال العسكرية وأصدر الأميرال سيمور قائد الأسطول البريطانى إنذاره النهائى بضرب الإسكندرية فاضطر السلطان للموافقة على الاشتراك فى أعمال المؤتمر وعرض – بعد ضرب الإسكندرية- اقتراحا بعزل الخديو توفيق وتولية الأمير حليم مكانه باعتبار أن هذا الأمير أفضل من يصلح لمركز الخديوية وأن تعيينه يحول دون إراقة الدماء؛ رفضت إنجلترا الاقتراح، فاضطر السلطان إلى الموافقة على إرسال قواته إلى مصر، ووافق أيضا على القيود التي وُضعت من قبل على إرسال هذه القوات بأن تكون تحت مراقبة الدول الأوروبية.

وتمثلت محاولة السلطان الأخيرة للمقاومة فى طلبه ألا تتدخل الدول الأوروبية عسكريا طالما أنه سيتدخل بجنوده فى مصر، كما أنه كان لا يرى ضرورة لإصدار منشور بعصيان عرابى، ولكن تقدم القوات البريطانية واحتلالها الإسكندرية وموقف أوروبا المؤيد لها فتّ فى عضد السلطان، وحاول أن يساوم على إصدار منشور عصيان عرابى، فأعلن أنه على استعداد لإصداره مقابل توقف الجيش البريطاني عن التقدم فى مصر وبقائه عند الحد الذى بلغه بالإسكندرية وضواحيها على ألا يتعداه وألا يمكث فى الإسكندرية أكثر من ثلاثة أشهر، فرفضت بريطانيا شروطه وطالبته بإصدار منشور العصيان فورا، فعرض أن يصدر منشورا يطلب من عرابى فيه الكف عن المقاومة أولا فإذا لم يستجب يصدر منشور العصيان، وكانت بريطانيا تدرك أهمية منشور العصيان، إذ كان سيلعب دورا فى تصفية مقاومة الثورة العرابية فى الداخل للغزو البريطانى؛ ومن هنا ضغطت بأقصى طاقتها فى سبيل استصداره وأخيرا – ومع تصفية أعمال المؤتمر – وقع السلطان منشور العصيان، وقبيل توقيع الاتفاق العسكرى النهائي لتنظيم التدخل التركي، وقعت هزيمة التل الكبير وأشير على السفير البريطانى فى الأستانة أن يلمح للسلطان إلى أن تدخله فى مصر عسكريا أصبح غير ذي موضوع، فقد تم قمع الثورة بواسطة جنود صاحبة الجلالة البريطانية، وهكذا شارك السلطان العثماني فى هزيمة عرابى، ولم يحصل على أى مكسب مباشر أو غير مباشر كما كان يأمل.

منشور العصيان:

استطاعت إنجلترا تغيير موازين المعركة لا حربيا فقط بل وسياسيا أيضا، إذ استطاعت، نتيجة للمحادثات المكثفة بينها وبين الدولة العثمانية ونتيجة لجهود اللورد دوفرين مندوبها فى الأستانة، الضغط على السلطان حتى أصدر منشورا بعصيان عرابي، مما قلب ميزان الحماس الشعبى وأضاع التأثير الإسلامى والعربي للثورة.

وكان لذلك المنشور أكبر الأثر فى إبعاد الكثيرين من الشعب والجنود عن المُضي مع عرابي وهو في محنته يواجه المعارك ويحمل أعباء الحكومة، فما أن أعلن حتى قام رجال الخديو بتوزيع قرار العصيان ومنشور الخديو بمساعدة الإنجليز على ضباط الجيش المصري.

وذكر محمود فهمي المهندس، رئيس أركان الجيش المصري في عهد أحمد عرابي، في كتابه "البحر الزاخر" أثر هذا المنشور على الجنود:

" فلما رأت ضباط الجهادية والأمة المصرية هذا الإعلان نفرت قلوبهم، وازدادوا فى عدم الميل مع عرابي إلا بعضٌ من ضباط الجراكسة الذين كانوا من أشد أعدائه فإنهم صاروا معه قلبا وقالبا".

تم نشر مرسوم العصيان بجريدة الجوائب التي كانت تصدر باللغة العربية في الأستانة، وطبعوا منها الألوف وأرسلوها إلى مصر والهند وسائر البلاد الإسلامية، وكان العربان يدسونها بين العساكر المصرية ويحملونها إلى داخل البلاد، وطبع الإعلان على أوراق صغيرة كانت تلقى على الآكام فيحملها الهواء إلى الأماكن القريبة، وكان لها أثر فعال في نفوس الناس.

أما لماذا لم يتدخل السلطان عبد الحميد في مصر :

فذكر السلطان عبد الحميد فى مذكراته الأسباب التى دفعته لعدم التدخل عسكريا فى الأزمة المصرية فقال: "حملني الصدر الأعظم سعيد باشا فى مذكراته مسؤولية التقصير في مشكلتيّ تونس ومصر، لم أكن أتصور اتخاذ الحرب وسيلة لكل مسألة من المسألتين، فأنا دائما ضد الحرب ولو كنت أندفع للمقاومة فى تونس، فربما تسببت في ضياع سوريا ولو وقفت بعناد فى مصر لكنت بالتأكيد فقدت فلسطين والعراق، لا يجوز أن أضع الحاكمية الحقيقية في الخطر وأندفع للمحافظة على الحاكمية اللفظية".

كان السلطان عبد الحميد يدرك جيدا أن مصر خارجة عن نطاق النفوذ الفعلي للدولة العثمانية منذ معاهدة 1840، لذا كان يرى أن تشدده في المسألة المصرية قد يفقده ولايات أخرى تابعة له بشكل فعلى وتحت سيطرته. كذلك اِعتقد عبد الحميد أن العرابيين سيقاومون أي محاولة من طرفه لإرسال قوات عثمانية أو استعادة النفوذ العثماني في مصر من جديد، فقد قال عبد الحميد في مذكراته:

" كانت الأخبار السرية الموثوق بها في تلك الآونة تفيد بأن أنصار عرابي يمسكون المصاحف في أيديهم وعليه، فإن الجنود العثمانيين لن يستطيعوا إطلاق النار ضد هؤلاء، وكانت هذه حيلة إنجليزية ماكرة، وإذا لم يحدث هذا فإنه لن يتسنى إرسال أكثر من أربعة آلاف جندي إلى مصر، وحتى لو فرض أنه تم إطلاق النار على جند عرابى فإنه من البديهى أن النصر لجيش عرابى الذى يزيد على عشرين ألف جندي، وفى هذه الحالة، فإن إرسال الدولة العثمانية أربعة آلاف جندي إلى مصر سيكون سببا في تحطميهم وكسر شوكتهم ولن يتمخض عنه فائدة مرجوة، كما أن ارسال قوة الدولة إلى مصر سيعرضها إلى التلف والضياع، فالأهداف السياسية للإنجليز تتمثل في نقل القوات البحرية البرية من الدولة العلية إلى مصر، رغبة من إنجلترا في إضعاف مركز الدولة العثمانية وفتح الباب أمام ثورة كبرى لا يدرى أحد عواقبها الوخيمة".

وإرسال الجنود العثمانيين القادمين من إسطنبول من أجل عرابى كان بمثابة فتنة سياسية تهدف إلى تحطيم كلا العدوين معا، ومن المحتمل أن يؤدى كذلك إلى انهيار القوة العسكرية للدولة العثمانية مما يجعلها تضطر إلى طلب العون والمساعدة من إنجلترا.

وقدم الصدر الأعظم كامل باشا المعاصر لأحداث الثورة العرابية في مذكراته تفسيرا لسلوك السلطان عبد الحميد الثاني المتردد تجاه المسألة المصرية فقد ذكر:

"إن عرابي هدد بإلغاء الخديوية ما لم يَحُل الخديو دون التدخل الأجنبي، ويبدو أن تصميمه هذا جاء على هوى السلطان الذى كان يفضل أن يرى عرابي وقد نفذ تهديده، وبدلا من أن يستجلب عشرة أو خمسة عشر "طابور" من الروميلى (أراضي الدولة العثمانية الواقعة في أوروبا)، ليرسلهم إلى مصر تعزيزا لظهر الخديو استمع إلى مماطلة مستشاريه وأصدقائه، ولابد أنه كان يعتقد أن الفرصة مواتية لتحقيق انتصار عظيم لإبطال الامتيازات المصرية والعودة بها إلى ولاية مثل بقية الولايات السلطانية لتعود وارداتها الكبيرة إلى خزينة المالية العثمانية، بيد أن إنجلترا التي كانت على علم بمجريات الأمور لم تكن لتسمح للسلطان أن يخطو خطوة واحدة على حساب مصالحها، ومن ثم بادرت باحتلال البلاد وقامت بنفي عرابى إلى جزيرة سيلان، وهكذا ظل درويش باشا مجرد متفرج خلال المعارك ولم يجد نفعا، وعاد إلى دار السعادة خجلا متأسفا دون أن يحقق أى شيء".

ومن المؤكد أن الأوهام التي استولت على ذهن السلطان عبد الحميد سهلت على بريطانيا تحقيق أمانيها المتعلقة بمصر تسهيلا كبيراً، حتى عندما درات مفاوضات بين إنجلترا والدولة العثمانية لعقد اتفاقية للجلاء عن مصر، نجد أن السلطان قام بدور شديد السلبية، فعندما عقد أول اجتماع فى الباب العالى بين ممثل إنجلترا السير دروموند وولف وسعيد باشا وزير الخارجية، طرح المندوب الإنجليزي سؤالا "هل سيرسل الباب العالي طابورين من الجنود ( ثماني فرق) للوقوف إلى جانب الخديو لحفظ الأمن في مصر بعد أن تسحب إنجلترا قواتها من هناك؟ أخبره وزير الخارجية العثمانى بأنه لابد من الحصول على موافقة السلطان؛ وعندما عرض الأمر على السلطان قال: " آه ليس من المناسب وجود عساكر أتراك فى مصر بشكل دائم إذ أن ذلك سوف يستلزم استبدال الجنود من فترة لأخرى، معنى ذلك أن الذين سيعودون إلى تركيا لن يألفوها بعد أن يكونوا قد اعتادوا على مصر والحياة المصرية وتربيتها، وسيصفون مصر ويحكون عنها لمواطنيهم، وبالتالي سيميل سائر الأهالي إلى مصر".

لم يكن عبد الحميد مُصرّا على التشبث تجاه ضياع بعض ممتلكاته مثل مصر وتونس وشرق الروملى، ويرجع ذلك لأنه كان يعتقد أن حكمه وسلطانه لا يزالان نافذين فى هذه الولايات جميعا، وأن استمرار التشبث والإصرار على هذه البلاد سالفة الذكر يمكن أن يؤدى إلى ضياع أماكن أخرى فى معيتها، وإلى جانب هذا فقد أصر السلطان عبد الحميد على الاحتفاظ بمنطقتي كريت وشرق الأناضول حتى أنه أفصح عن هذا بقوله: " إنني أضحى برأسي فداء لشرق الأناضول، فلن أفرط فيه أبداً".

لذلك كان إعلان الإنجليز بأن احتلالهم لمصر شيء مؤقت بمثابة راحة وطمأنينة للسلطان عبد الحميد.

وفى الثاني والعشرين من مايو 1887 انتهت المفاوضات البريطانية العثمانية التي كانت عرضة للتوقف فترات طويلة بإبرام معاهدة تعهدت فيها بريطانيا أن تجلو عن مصر بعد ثلاث سنوات مشترطة لنفسها حق إرسال جنود إلى مصر وإعادة احتلالها إذا اضطرب الأمن والنظام، مع تخويل الدولة العثمانية نفس هذا الحق، لكن السلطان عبد الحميد الثاني لم يشأ التصديق على هذه المعاهدة، وأضاع بذلك فرصة ذهبية لإجلاء القوات البريطانية عن مصر.

وهكذا اتخذت بريطانيا من فترة المفاوضات المطولة فرصة لتكريس احتلالها لمصر، وتقليص روابطها بدولة الخلافة، إلا أن حكومة لندن لم تشأ أن تقدم على إعلان استقلال مصر الكامل عن الدولة العثمانية خشية إثارة معارضة دولية ضدها، ولمجاراة مبدأها الكامل التقليدي القائل بضرورة الحفاظ على سلامة أراضى الدولة العثمانية، ومن ثم فقد أبقت على الروابط الشكلية لمصر مع الدولة العثمانية مثل حق السيادة والاستمرار في دفع المبالغ السنوية المقررة لأسطنبول، وظلت تحكم مصر تحت ستار الاحتلال المؤقت حتى نشوب الحرب العالمية الأولى ودخول الدولة العثمانية في الحرب المذكورة بجانب ألمانيا.

وهكذا لم تعلن بريطانيا انتهاء السيادة العثمانية على مصر إلا عند قيام حالة الحرب بينها وبين الدولة العثمانية سنة 1914.


    Egypt Air