الأربعاء 15 مايو 2024

الاحتلال العثماني لمصر: بداية النهاية لحداثة لم تجد طريقها بعد

فن1-11-2020 | 20:53

لم تعد تخلو الساحة السياسية يومياً من معارك كلامية تفتعلها تركيا الأردوغانية، تجاه العديد من دول المنطقة، وبالأخص مصر، التي تتحدث عنها بلغة يشوبها الحقد والضغينة، ظاهره الغضب التركي من الدفاع الاستراتيجي الذي تنتهجه القاهرة دفاعاً عن أمنها القومي المهدد من قبل الأتراك في ليبيا غرب البلاد، وباطنه ضغائن تاريخية على أهم مستعمرات العثمانيين التاريخية، التي كانت كبقرة سمينة يمتص العثماني خيراتها حتى جفّت، لكنه استفاق يوماً ليجد أن بقرته التي اعتقد أنّه سلبها كل وسائل التمرد، قد انفلتت من بين أصابعه قبل أن يُسلم المنطقة بأكملها إلى استعمار أوروبي مزق البلاد والعباد، تتجرع المنطقة ويلاته إلى اليوم.


من أضعَف المماليك؟: 

لثلاثة قرون حكم المماليك مصر، واستطاعوا خلق سلالة من السلاطين، بعد أن كانوا عبيداً مجندين لهزيمة الصليبيين والمغول، وبالرغم من أصوات المؤرخين التي أشادت بفترة حكم المماليك مقابل حكم العثمانيين، من أجل نصب العداء فقط للعثمانيين، إلّا أنّ هذا العداء في مكانه غير الصحيح، فلولا تهاوي حكم المماليك من الداخل، وشيوع الفوضى السياسية والاقتصادية، ما استطاع العثمانيون هزيمتهم شر هزيمة، وهم خير جند، قاتلوا جيوش وأساطيل أوروبا وآسيا، لكنه الجشع السياسي الذي أصابهم، حين استتب لهم الحكم، فصاروا على نهج أسلافهم بني العباس، الذين أشاعوا مظاهر الترف والبذخ في قصورهم، فجاع الشعب وضربته الأوبئة المتعاقبة دون أن يهتز جفن للحاكم المملوكي، ويحكي الدكتور والمؤرخ المصري قاسم عبده قاسم، في كتابه "مصر في عهد سلاطين المماليك"، كيف أنّ الولاة المماليك قد انصرفوا عن هموم الشعب إلى الإنفاق على ما نسميه اليوم "مؤسسات الحكم من الجند والحرس والحجبة والشعراء والوزراء"، ظناً أنّ هذا ما يثبّت أركان حكمهم؛ لكن تأتيهم الرياح بما لم تشتهِهِ سفنهم يوماً، فالأوبئة والأمراض والمجاعات التي ضربت مصر في عهدهم على التوالي، كشفت عوار تلك النظرة القاصرة، إذ عاشت مصر مائتي عام من حكم المماليك، أسيرة لأكثر من خمسين موجة وباء ومجاعة، ما بين الكوليرا والطاعون وجفاف النيل، لقي فيها أكثر من نصف الشعب مصرعهم.

 ويرى الكاتب والباحث ووزير الثقافة السابق الدكتور عماد أبوغازي، أنّ الوباء الكبير الذي حلّ على مصر، في القرن التاسع الهجري، وأرخّه المؤرخ المصري الكبير تقي الدين المقريزي في كتابه"إغاثة الأمّة بكشف الغمّة"، حين حصد الطاعون أرواح أكثر من ثلث المصريين، كان بمثابة الضربة القاضية لحكم المماليك، الذين فضلوا الهرب من الوباء إلى صحراء سيناء ومنطقة سرياقوس، بدلاً من ينتهجوا سياسات طبية واقتصادية تخفف من وطأة الكارثة على الشعب المكلوم، وبما أنّ الداخل قد تقطعت أوصاله لهذه الدرجة، كانت الفرصة سانحة لبني عثمان أن يشنوا حملاتهم العسكرية على مصر تباعاً، لينالوا الغنيمة الكبيرة بعد أن تمكنوا من أرض الشام وقضوا على نفوذ الفرس. 


أسطورة الفتوحات: 

كعادة أبناء التيار الإسلامي الذين يعزفون على وتر العاطفة الدينية، ويطلقون على المسمع أنشودة الخلافة العثمانية، إلّا أنّ التساؤل الذي يجب أن يطرح عليهم هو: هل كان المصريون يدينون بغير الإسلام حتى يصبح الغزو العثماني لهم فتحاً؟ ومن دخل الإسلام أولاً المصريون الشعب الأقدم، أم الأتراك من القبائل ذات الأعراق المتباينة والمتناحرة فيما بينها؟ لكن يظل العقل الإسلاموي المهزوم أمام استعمار الرجل الأبيض في حاجة لأن ينكر خطاياه، ويعلقها بأسباب تُملى عليه من مرشديه في الجماعة.

ولئن كان للغزو العثماني شرٌ أكبر من فتكه بالمنطقة، فهو قيام تيارات الإسلام السياسي على جثة الخلافة المزعومة، واستكمال مسيرة فتكها بالمنطقة إلى نهاية لا يعلم أحد مداها، بينما كان قيام هذا المارد العثماني حتمية تاريخية توفرت شروطها في مأزق المشرق العربي والذي بحسب وصف أبوغازي له: "لحظة اصطدام الدولة العثمانية بدولة المماليك لحظة استنفدت فيها منطقة المشرق العربي كل قدراتها على المقاومة الإيجابية بعد أربعة قرون من المواجهات العنيفة مع الغزوات الخارجية"، ولم يكن هذا التوغل العثماني أمراً مفاجئاً للمصريين والمماليك، بل بدأ العثمانيون في منتصف القرن التاسع من الهجرة وبعد جلاء الوباء الكبير عن مصر، في إظهار العداء للدولة الصديقة والحليفة التي انقلب عليها بني عثمان في اللحظة الأكثر ضعفاً، حتى بلغ النزاع حد الصدام والمواجهة العسكرية المباشرة في عهد السلطان قايتباي، حتى بعد أن استطاع قايتباي درء شر العثمانيين عن البلاد، فإنّ اكتمال عوامل الانحلال الذي حدث فيما بعد هو ما مكنّ بني عثمان من السيطرة على زمام مصر، بيد أنّ فقدان المماليك لسبب وجودهم التاريخي كان أهم معاول هدم حكمهم، فالدولة التي قامت في الأساس على عاتق مجموعة من الجند، كان تميزهم الرئيسي في القدرة العسكرية، وذلك لاحتياج المجتمع المصري لهم في هذه المرحلة لردع الصليبيين والمغول، فأصبح هذا التميز عقبة في طريق تطور المجتمع وخروجه من أزمته التاريخية، ولأنّ الخطر آنذاك كان من داخل الإطار الحضاري نفسه، أصبح مسيطراً بالفعل. 


الالتهام الحضاري: 

كانت أولى علامات التقهقر الحضاري في مصر الناتجة عن استيلاء بني عثمان على أراضيها، عودة مصر إلى مجرد ولاية محكومة من قبل الباب العالي في الأناضول، بعدما عاشت لقرون كدولة مستقلة، وقلعة ثقافية علمية بعدما انطفأت أضواء بغداد العباسية على أيدي الغزو الصليبي، وبحسب ادعاءات أعلام تيار الإسلام السياسي فإنّ الغزو العثماني كان أحد أدوات بناء مصر بعد تمزيقها من قبل دولة المماليك، وهو ما يرد عليه أبو غازي في كتابه: "1517 الاحتلال العثماني لمصر وسقوط دولة المماليك"، بأنّه حقيقة في البداية، إذ عملت الدولة المحتلّة الجديدة على ترتيب الأوضاع ومكافحة الأوبئة المستشرية وتخفيف وطأة الجوع، لكن سرعان ما تلاشى هذا وعادت الأوضاع أسوأ مما كانت عليه، إذ حال انتماء الدولة العثمانية إلى العصور الوسيطة بنظامها السياسي والاجتماعي والاقتصادي وفكرها وحضارتها، دون تطور هذا الازدهار المؤقت، فلم يعمل هذا الازدهار الظاهري السطحي على تغيير جوهري في العلاقات السائدة على الصعيد الزراعي كأهم عماد اقتصادي في مصر الزراعية، ولا حتى على مستوى علاقات الإنتاج في المجتمع، التي صارت أكثر تأزماً عما حدث في عصر المماليك. 

وينتقد أبوغازي الفكرة المروجّة للازدهار التجاري في عهد العثمانيين، إذ لم ينعكس على التجارة الداخلية، ولا الصناعات المحليّة، لذلك سرعان ما عادت الأزمة المالية، فأدت لإرهاق المصريين بالضرائب وتخفيض قيمة العملة، والتضخم الذي أدى لموجات عارمة من الغلاء والجوع، وفرض على المصريين أشكالاً من التقشف كانت أكثر حدّة مما كانت عليه في دولة المماليك، هذه الاضطرابات الاقتصادية كانت طريقاً نحو اضطرابات سياسية أدخلت البلاد في مأزق بدأ مع محاولة الوالي العثماني أحمد باشا الملقب بالخائن الاستقلال بحكم مصر، ما أزعج الباب العالي الذي أمر بإعدامه وتعليق رأسه على باب زويلة، وهو ما فتح على العثمانيين باباً آخر من التمردات التي قام بها الجند الحامية العثمانية والتي استمرت لعقود، تزامنت مع الصراع والانقسام الذي حدث بين فلول المماليك المنقسمين إلى القاسمية والفقارية، واشتعلت الحروب فيما بينهم وهو ما أضر أكثر بوضع البلاد الاقتصادي، لكنها كانت موضع ترحيب من الوالي العثماني الذي رأى في صراعات المماليك مع بعضهم البعض ملهاة مناسبة للانفراد بالحكم.


التجمد الحضاري: 

خمسة قرون مرت على الكوكب، عاشتها أوروبا في مخاض كبير، أنجب تحولات اجتماعية واقتصادية كبيرة، وأنتج حراكاً اجتماعياً أخرج أوروبا من عصورها المظلمة بلا رجعة، وبقيّ الشرق غارقاً في غياهب الجهل والتخلف، بعد انكسار بوادر نهضته التي كانت في طور التشّكل، وشكلت عقبة في طريق التطور الحتمي للمجتمع، وهذا ما يدفع أصحاب المدرسة المؤيدة للاحتلال العثماني بإنكار تلك المساوئ إذا ما قورنت بحماية دول المنطقة من الغزو الأوروبي لقرون، وهذه في الحقيقة كذبة أخرى مردود عليها، فالغزو الأوروبي لم يرتدع أمام قوة العثمانيين، بل على العكس مما يراه أبوغازي، والذي يتفق في رؤيته مع رمزي زكي، في أنّ الاحتلال الأوروبي ترك المنطقة بأكلمها أمانة في أيدي العثمانيين حتّى يقسم الغنيمة فيما بينهم، فآل الشرق للإنجليز، والمغرب للفرنسيين والطليان، ثُمّ جاء ليتسلّم غنيمته وهي ذبيحة لا تقدر على المقاومة، محض بلدان مزقتها قرون من الصراع السياسي والتقشف الاقتصادي والتفريغ الثقافي، فآلت إليهم كل تلك الأراضي دون مقاومة تذكر، وهذا بفضل الدور الاستثنائي الذي قدّمه العثمانيون للغرب. لكن السؤال الأهم والواجب طرحه على أذناب الاحتلال العثماني المعاصرين هو: هل كانت أوروبا بحق تحتاج لاحتلال المنطقة في القرن السادس عشر؟ الإجابة بالطبع لا، إذ أنّ الغارات الأوربية لم تهدأ على سواحل المنطقة حتى بعد جلاء الغزو الصليبي، كل ما في الأمر أنّ القوى الغازية قد تغيّرت، فشهدت صعود البرتغال كقوة إمبريالية جديدة، تحاول تقاسم الكعكة، والتي كثيراً ما أغارت على مصر، لرغبتها في ضرب التحالف التجاري بين القاهرة والبندقية، وهو ما تحقق بالفعل، ولم يستطع العثمانيون منع سيطرة البرتغاليين والهولنديين والإنجليز على تجارة الشرق، ولا ردعهم عن بناء نقاط ارتكاز في البحار العربية ومنطقة الخليج، وهو ما تسبب في إنهاك مضاعف للمنطقة، التي تركها العثمانيون كلأً مباحاً للبرتغاليين، بل إنّ العثمانيين أنفسهم، كانوا سبباً في الهزائم التي لحقت بالمماليك أمام الغزو البرتغالي على البحر الأحمر، وهو ما يدفع بعض المؤرخين للقول إنّ العثمانيين ساهموا بشكل حقيقي في تسليم المنطقة إلى الغزو الأوروبي، ولم يكن تواجدهم في المنطقة سوى تحضير لاحتلال أكبر قادم ليأكل الأخضر واليابس. 

أطلق الأوروبيون على الدولة العثمانية في العصور الوسيطة مصطلح "رجل أوروبا المريض"، وهو ما دفعهم للإبقاء عليها في المنطقة، ولأطول فترة ممكنة، حتى يتسنى لها استلام الأراضي العربية كاملة في القرن التاسع عشر، لكن أمام المصريين وجد مشروعاً طموحاً، تمثًل في الحركة الوطنية بقيادة أحمد عرابي، الذي استجاب الخديو إسماعيل لمطالبه بتأسيس نظام دستوري يراقب فيه البرلمان أداء الحكومة، وهو مشروع كان سيخرج بمصر من "ديلمة" الاحتلال، خاصة بعد استجابة إسماعيل لكل مطالب الحركة الوطنية الصاعدة، لكن السلطان عبدالحميد الذي يتغنى إسلاميو تركيا بأمجاده، قطع الطريق على الحركة الوطنية المصرية، وطعن فيها وكفّر قياداتها، وأصدر فرمانه بعصيان عرابي، الفارس الذي ضُرب في مقتل من خيانة العثمانيين له، حتى يمهدوا الأرض لاستقبال الغزاة الجدد، لتخرج مصر من "ديلمة" احتلال بني عثمان، إلى الاحتلال الإنجليزي الذي استمّر 74 عاماً، بددت آخر آمال النهضة المتأخرة لقرون، بالتوازي مع ولادة جنين مشوه من رحم الخلافة المتوفاة، كان جماعة الإخوان الإرهابية، التي داعبت المشاعر الدينية للشعوب العربية، وقتلت أي بذور لمقاومة ونهضة حقيقية، وها هي تعاود الكرّة عبر فضائياتها المسمومة من إسطنبول.


 

    Dr.Radwa
    Egypt Air