الأربعاء 5 يونيو 2024

عِنْدَما يُطِلُّ الحُب خَائِفاً مُتَوَارِياً

فن2-11-2020 | 17:44

استهلال رواية الحب في المنفى لبهاء طاهر، يكشف برفق قلب العمل الذي سَنَدْلِف إليه، ويعطينا مؤشراً عن علاقة ستدور بين الراوي وبين بريجيت، الفتاة الصغيرة والجميلة، هو أب ومُطَلَّق، وفي ذات الوقت لم يطرأ على بَاله الحب، ولم يفكر فيه بصورة جديَّة، لم تتطرَّق إلى ذهنه هذه العلاقة، وحين جاءته العلاقة لم يُعَبِّر عن اشتهائه لهذه الصغيرة، لم يَبُح لها بما يدور في أعماقه، لكن بريجيت قالت له فيما بَعْد عن حبه لها؛ ذلك لأنها قرأتْ ما كان يهمس به قلبه، وما يَجُول داخله من مشاعر، قالت: "كان يُطِلُّ من عينيك".


 فقط يُطِلُّ، ولا يظهر بوضوح جَلي، يُطِلُّ على استحياء وكأنَّ أحداً يمنعه من الكشف والتَّكشُّف الصريح، يُطِلُّ مختبئاً متوارياً خَلْف مشاعر محبوسة وأحاسيس مكبوتة، يُطِلُّ مُرْغَماً عنه، فلم يستطع التحكُّم في إخفائه، ولم يقدر على مداراته، كان الاشتهاء غير قادر على الكُمون داخل الروح، فطلَّ من عينيه وقالتها له بصراحة: "كان يُطِلُّ من عينيك". 


بدأت علاقته مع بريجيت ساعة ظهيرة، في فسحة الغذاء التي تتخلَّل عمله كمراسل لصحيفة في القاهرة، كان الحديث يأتي بينهما ناعماً رَقْرَاقاً، وهما يشربان القهوة، تتحدَّث إليه عن نفسها، ويتكلَّم عن نفسه، أحياناً يأتي الصمت اللذيذ يملأ الفراغ بينهما عبر زجاج المقهى، عابراً الجبل المستطيل المتعرِّج، هذا الصمت الجميل بدأ يُحْدِث داخل أعماقه ثرثرة لذيذة فصار يتكلَّم، وسَقَطَ جدار الصمت. ثرثرة كحصن، يريد أن لا يكشف ولا يوَّضح ما يَجُول داخل أعماقه، الكلمات تَتَدَافَع مسليَّة ومتتابعة، مثل شرنقة دودة عَرَّاها جنون الغَزَل. وفي ذات الوقت لم يكن يدري أنه بتلك الكلمات يلِّف حولها شِبَاكاً من الحب والدِّفء، والرغبة، ربَّما كان يَحْدُث هذا في أعماقه وهو لا يدركه، ويحاول أن يخفيه داخله، لكنه كان يُطِلُّ من عينيه.



كأننا رأينا العلاقة في استهلال الرواية، بدأت وانتهت، عرفنا القصة، بين العجوز الراوي والفتاة بريجيت الجميلة الرائعة، لكن ماذا حدث داخل هذه العلاقة؟ ما أسبابها؟ وأسباب وشوك تمزُّقه؟ هذا ما يدفعنا إليه بهاء طاهر لنستمر في متابعة الرواية، عبر قصة معروفة لنا سَلَفاً، لكننا نود الاستمرار. 


يتركنا الكاتب نتخيَّل بيرجيت وعلاقته بها، وإذ بنا ندخل معه أول علاقة نسائيَّة، منار، تبدو علاقته بمنار غير واضحة، على الرغم من أنه تزوَّجها، لا تقوم العلاقة على الحب الصادق، ولا تعرف المشاعر الجميلة، نفتقد فيها رفرفة القلب التي مَهَّد لها الراوي منذ طلَّة الرواية، حين علمنا أن الحب كان يُطِلُّ من عينيه، علاقته بمنار، علاقة بلا بدايات، بلا نظرة عميقة تجعل القلب يخفق، بلا لمسة ترعد الروح، فقط، وَجَدَ نفسه على علاقة بها (كل ما أذكُره أني أحببتها وأنها قالت لي إنها تحبني، أقصد لابد أنها أحبتني فعلاً في وقت ما، وإلا فلِمَ تزوجنا؟ ص9) علاقة زواج عادي، كأي زواج تقليدي، ربَّما يظن أن الزواج كان ناتجاً عن الحب، لكنه لا يتذكَّر أي علامة لهذا الحب، لا يذكُر أي تفصيلة عن اهتزاز القلب، فقط وجهها بشوش وابتسامتها الدائمة وطريقتها الصريحة في الكلام، هذا لم يعجبه وحده، بل كان يعجب كل من يتعامل معها، لكن أين الشيء الخاص في الحب، أين وَخْزة الغرام؟


في الرواية نرى علاقة عادية، بلا مشاعر، حَتَّى إنها قالت بفخر إن والدتها تحبه، وإنها توافق عليه، وكأنَّ مربط العلاقة هي موافقة الوالدة، لا مشاعر جيَّاشة من جانبها تشعرك أنها تحبه بجد أوأنها يمكن أن ترتبط به رغم كل الظروف والمعوِّقات، لا شيء من هذا، علاقة رتيبة، تنكشف على مدار الرواية وتوضح عدم التوافق بين الراوي وبين منار، فهو حين يتذكَّرها يَعْرِض ذهنه جَفَاف مشاعرها نحوه، ربَّما يظن أنها تحبه، لكنه لم يقل إنه يحبها بشغف، فقد كانت تحتفظ في مكان غريب من عقلها بأشياء صغيرة يمكنها مثلاً أن تسأله سؤلاً بسيطاً (هل جئتَ حضرتك إلى أوربا قبل ذلك من ورائي؟ ص 9) فقط لأنها لاحظتْ أنه يتعامل بلُطْف وتهذيب مع عمال الفندق والمطعم والمحلات ومع الناس عموماً ثم تتبع ذلك بمشاكسة، أنت عندك عُقدة خواجة، ربَّما كانت تُخْفِي ما كانت تعانيه من علاقة سيئة بين والدتها ووالدها، هذا الذي كان ينزل إلى الشارع بالجلباب بعد أن كان موظفاً كبيراً تفخر به. الآن تقول وسط دموعها: "حرام عليك يا بابا، سُمْعَتنا". إنها تنظر للأمور بطريقة ماديَّة، لكنه مقتنع بتفسير صديقه عن سبب هذه الخلافات بينه وبين منار (ربَّما كنتما أنت ومنار تبحثان عن حب كامل ومستحيل في هذه الدنيا، لهذا كنتما تتشاجران لأتفه خيبة أمل تبعدكما عن هذا الكمال المستحيل. ص 26)


 ثم بدأت العلاقة تتكشَّف على حقيقتها، بدأ جَبَل الثلج يظهر ويَتَّضِح، ظهر ما كانا خافياً من عُمْق العلاقة الرديئة، كان الظاهر مُخَالِفاً للباطن، لم يكن أبداً حُبَّاً، لم يكن الزواج سِوى استمرار لروتين حياة، وظهرت الصحراء القاحلة بينهما، صحراء من الصمـت والبرودة، امتدت لشهور وشهور، لا تلتقي العيون، بل تتجنَّب اللِّقاء وتهرب بعيداً (كنا محاربين استسلما للعدو لا يجرؤ أحدهما أن يرفع عينه في وجه الآخر من الخزي. ص 39)



 يبدو أمامنا البطل يعاني من فَقْدٍ، لا يظهر أنه أحب ولم يَعش قصة حب، وصلت العلاقة لحائط صلد، لا يمكن أن تمر من خلاله، حَتَّى لو تَدَخَّل الابن، وأخبره أنها تغيرَّت، وأنها تابت وانصلح حالها، وأنه يمكن أن يكون لديها رغبة في الصُّلْح، لكن الراوي كان يرفض مُجَرَّد التفكير في العودة لعلاقة خاوية، بعدما اكتشف إنه يمكنه أن يلمس قلبه وهو يدقّ مع امرأة أخرى، كان يُطِلُّ من عينيه حين يراها.


في الرواية علاقة عاطفيَّة بين شادية وابراهيم صديق الراوي، علاقة حب رائعة تشي بأن السعادة ترفرف بين قلبين صغيرين، لكن فَوْر خروج إبراهيم من المُعْتَقَل، انقطعت العلاقة بينهما، ولم يُفَسِّرا سبب الانقطاع، ضاع الحب فجأة، بعد اعتقال إبراهيم (فاجأتنا شادية بأنها تزوَّجت بعم عبد اللطيف، صراف الصحيفة، بعدها ترهَّلت ولم تعد تهتم بمظهرها بالمَرَّة. ص 34)


كأنَّ روحها قد فارقتها، صارت امرأة مترهِّلة، بلا مقوِّمات أنوثة، كانت تضحك في وجوه الناس وقلبها يقطر حُزناً، وجاء السؤال لإبراهيم واضحاً (لماذا انفصلتما أنت وشادية؟ لماذا تركتها؟ أو لماذا تركتك هي؟ ص35) اعترف إبراهيم أنه يحبها كما لم يحب أحداً من قَبْل، لكنه كَتَبَ لها من السجن (إذا أرادت انتظاري فهي حُرَّة في أن تسلي نفسها بالخروج مع من تشاء من الرجال. ص 35)


ظل نادماً طوال حياته على كتابة تلك العبارة، ربَّما السجن كَتَمَ روحه، ونزع الحب وأفْقَدَه ذاته، ففي السجن تنطفئ العواطف المشتعلة داخل السجين ويستسلم لركود الروح، نحن ندمر أنفسنا.

وتتَّضِح شخصيَّة إبراهيم الممزَّقة أصلاً، فهذا لم يحدث له مع شادية فقط، ما حدث معها تكرَّر مع غيرها، لم ينجح في الارتباط بأيَّة امرأة أخرى.


هذا حب آخر في الرواية لم يبلغ مُرَاده من الدِّفء و السكينة، حب مستحيل لم يكتمل، ولم يستمر، تماماً كما حدث مع الراوي ومنار، هل الظروف المجتمعيَّة المحيطة من الكَبْت والحَبْسة وعدم وجود الحريَّات، والتربية العقيمة كانت السبب؟ربَّما، لكنها في النهاية شخصيات متأزِّمة، ينقصها شيء ما لتحيا حياة البشر الطبيعيَّة، في السكينة والهدوء، شخصيات فارغة من الصدق في الحب، وعدم القدرة على المصارحة بهذا الحب والاحتفاظ به، شخصيات غير مكتملة نفسياً. فالرواية تَذْكُر أن الظروف المجتمعيَّة التي يعيشها شخصيات العمل يحيطها القسوة والعنف، مجتمع مُشَوَّه لا إنساني، يمارس القسوة والعنف على الضعفاء، لا وجود للحب في هذا المجتمع وينقلنا للإحالة مُتَمَثِّلة في صور التعذيب في سجون شيلي (أكثرها شيوعاً في شيلي الصدمات الكهربائيَّة، عن طريق الشواية، أي وضع أقطاب كهربائيَّة متحرِّكة على جسم المجني عليه وهو مُقَيَّد إلى سرير حديدي ومُغَطَّى بالمشمع، تُحْدِث الصدمات آلاماً قاسية، في العضلات والأعصاب تستمر آثارها لسنين. ص 12) ثم ينقل لنا بعضاً من صور شراسة العالم عندما تدخل الكاميرا لأول مَرَّة إلى مخيم صابرا بعد المذابح ضد الفلسطينيين، العالم بشع، حَتَّىإن بريجيت تتأثَّر بشدَّة (ارتمت على صدري وهى تكرِّر كلمتها: أرأيت؟.. قتلوا كل أطفال العالم؟ أرأيت؟ وكان جسمها كله ينتفض وهى تتكئ على كتفي، وكنت أنا أيضاً أنتفض. ص 212)


إذا تتبعنا تاريخ طفولة الراوي وجدنا المجتمع يكسر طفولته، ويكاد يُشوِّه أَجْمَل ما فيه، براءته، فهناك انكساراً منذ طفولته، فهو كطفل كان يُمَارس مع والده، فراش المدرسة، بكل براءة، أعمال النظافة وهو سعيد، يحمل له جَرْدَل الماء، يمر على الفصول كلها، في المدرسة التي هو أحد تلاميذها، بعد أن يخرج التلاميذ، يمسح والده الأرض بخرقة مبلَّلة، متى بدأ يشعر بالعار؟ (عندما شخط في وجهي أحد المدرسين وهو ينظر في ساعته قائلا: لماذا لم يضرب أبوك المسطول الجرس يا ولد؟ اخرج صحيه. ص65) انكسار روحي مُبَكِّر، فكل التلاميذ يَتَطَوَّعُون عندما يسأل أحد عن عمل والده " كان فراش المدرسة" هل يمكن أن تنجو روح كسرها المجتمع وأهانها؟! هل يمكن أن تكون روح مُحِبَّة؟! كان هو يلاحظ أن والده فراش المدرسة قَتَّر على نفسه القروش والملاليم ليُعَلِّمه في الجامعة، مجتمع مريض، يتعامل مع أفراده بطريقة مريضة، يكسر فيه كل اجتهاد ورغبة في السمو الروحي، فقط لأن والده فراشاً، حَتَّىإنه فيما بعد صار يتلذَّذ بتعذيب نفسه، لقد حاول أشياء كثيرة غير أن يكون فَرِحاً داخل جلده، دائماً يجلد ذاته: مَنْ أنا؟ نائب رئيس التحرير!! ابن الفراش؟! كَسَرَه المجتمع حَتَّى النهاية، فلم يُكْمِل علاقته مع منار، ولم يعش العِشْق كاملاً مع بريجيت.


ربَّما تكون العلاقة الغير حميمة بين الوالد و منار هي التي أَدَّت لتَحوُّل خالد لهذا الفكر الغريب، بيت لا يوجد فيه أنس ولا ونس، بيت لا يوجد فيه حب، وربَّما يكون المجتمع متشابك مع بيت خالد في إخراج شخص بهذا التشدُّد، الكل مريض، الكل به شوائب وانكسارات، الأبطال، والمجتمع، والأسرة، هناك ضياع.


حَتَّى بريجيت الفتاة الجميلة الرقيقة التي تتمحور حولها العلاقة الشفَّافة، و التي نقلت الحالة النفسيَّة والشاعريَّة للراوي وأخرجته من كتمة مشاعره القديمة، بريجيت أيضاً كانت تعاني انكساراً، الفتاة الأمل، كان في حياتها انكساراً خاصاً، لقد رأت والدتها تخون والدها مع الدكتور مولر، انكسرتْ روحها وطردته من البيت، لكنها لاحظت أن والدتها صارت تخرج كثيراً.


إبراهيم صديق الراوي، كانت نشأته وخلفيته الأسريَّة بها انكساراً، وتعقيداً، كان يعاني من أُمه التي تتحرَّك في البيت غير واثقة من نفسها، حَتَّى إنها لم تكن واثقة من الأوامر التي تصدرها للخدم، تكاد تعتذر عن وجودها، هل أمه هي التي سبَّبت له هذا الانكسار بانكسارها الشخصي، وانكار وجودها في الحياة كفاعلة مميزة؟ أَمْ والده الذي كشفه إبراهيم يوماً ما حين رآه هو ورجاله يسرقون الفلاحين، يغالطونهم في وزن القطن؟


كان ابراهيم متوتراً وقلقاً حَتَّى إنه احتقن عندما قالت له بريجيت بعفويَّة صادقة: (أيها الرجل كم أنت جميل ثم حين رأتْ تغيرُّه أخبرته أن كل الأوقات مناسبة لتقول المرأة للرجل أنه جميل. ص 91 بتصرُّف) روحه لا تتحمَّل دعابة رقيقة من امرأة جميلة.



مَارَسَ معها كل أشكال الحب وفق ما ترى، ووفق ما أرادت حَتَّى إنها قالت له في الجو الطَلْق (أرأيت؟ ها هي السماء تمارس الحب مع النهر وسيلدان أمواجاً جديدة. ص 175) هل كانت بريجيت تشعر بخطر الفراق، وكان هو يشعر بذلك؟ كانت تعطي من نفسها دون تردُّد، في لهفة محمومة، يحتضنها ويتحسَّس كل جزء من جسدها خوفاً من أن تتلاشى بين يديه، كان شيء ما ينبض في الخفاء، وبدأتْ مَرَّات العِشْق تتلاشى، وحَلَّقا معاً، مَرَّة أخرى، مَرَّة أخيرة.


 وحين أرادت أن تنهي حياتهما سوياً، معاً، يموتان إلى الأبد، ومدَّت يدها لمقود السيارة، لكنه تراجع وقالت (أرأيت ؟ أنتَ لستَ مستعداً بَعْد. ص 243) ورفضتْ أن يودِّعها، أخذت حقيبتها أمام المطار ورَجَتْه ألا يدخل معها فهي تكره مواقف الوداع (قَبِّلْتِني في وجنتي قُبْلة صديق لصديق عابر قبل أن تستدير وتَتَّجِه إلى الباب الزجاجي بسرعة. ص 244) انتهت وانتهى كل شيء، هو وبريجيت، هو وخالد، هو ومنار، ابراهيم وشادية، كل شيء انتهى.