الإثنين 27 مايو 2024

صفحات مجهولة من التاريخ الحديث: كيف أرادت تركيا أن تحتل مصر بواسطة السكك الحديدية الحجازية؟

فن2-11-2020 | 19:41

 بين اللورد كرومر ونعوم باشا وأيوب كميد 

التأم أخيرا فى حيفا مؤتمر يمثل الحكومة الحجازية والبريطانية والفرنسية للنظر فى مشكلة سكة حديد الحجاز على نحو ما جاء فى الصحف اليومية، فرأينا بهذه المناسبة أن نبين هنا صفحة تاريخية لأزمة سياسية، نشأت من مشروع إنشاء تلك السكة الحديدية، ولا يعرف تفصيلها إلا أفراد قلائل فى هذا القطر. 

فى أواخر القرن الماضى كان متصرف لبنان يدعى نعوم باشا، وكان رجلا متعلما متنورا يستأنس بآراء أولى العلم والفضل ويجالسهم فى مكان القربى منه، وكان له وحيد لم تكن له فى الحياة بهجة غيره، فيسمع يوما أن فى بيروت شابا من أبناء البلاد ضرب بسهم وافر فى أصول اللغة الفرنسية وآدابها فغدا يتكلمها ويكتب بها كخيرة كتابها وكان ذلك الشاب يدعى ( أيوب كميد) فدعاه نعوم باشا إلى مقابلته. 

 وبعد حديث دام بينهما ساعة اقتنع المتصرف بما كان قد بلغه عن ذكاء زائره ومواهبه فعرض عليه أن يعينه معلما لابنه عاهدا إليه فى تثقيف عقله فقابل العرض شاكرا له حسن ثقته 

وبعد سنة أو سنتين من ذلك التاريخ شد نعوم باشا رحاله إلى الاستانة ليجدد مدة ولايته على لبنان فاستصحب معه نجله الوحيد لأنه كان لا يقوى على فراقه واستصحب معه أيضا معلمه كى لا ينقطع عن درسه ورأى أيوب كميد من جهته أن هذه الرحلة ستكون فرصة حسنة يزور فيها عاصمة السلطة العثمانية وكعبة الخلافة الإسلامية، فرضى أن يصحب نعوم باشا ونجله فى سفرهما. 

وحدث فى أثناء إقامة نعوم باشا فى الاستانة أن زار يوما وزارة (النافعة) أى الأشغال لقضاء مهمة له، فيها وكان يرافقه في هذه الزيارة أيوب كميد، الذى رافقه يومئذ مصادفة لأن تلميذه كان منحرف الصحة لا يستطيع تلقى درسه كعادته.

ولما وصل نعوم باشا إلى دار وزارة النافعة ودخل الديوان الذى كان قاصد إليه أبصر على المكاتب الموضوعة فى وسط القاعة  مجموعة من الخرائط الدقيقة للأقطار السورية والفلسطينية والحجازية فسأل بعض الموظفين عما يفعلونه بهذه الخرائط فأجابوا أنهم يشتغلون بوضع رسوم خط سكة حديدية للحجاز يمتد من دمشق إلى المدينة المنورة، وأن ولاة الأمور (الترك)  يفكرون فى تسييره بجوار (العقبة) أو إنشاء فرع يمتد منه إلى  (العقبة) كى يكونوا على مقربة من حدود مصر حتى إذا آن الأوان لاحتلالها ساعدهم ذالك الخط على نقل جيوشهم إليها. 

 وكان أيوب كميد واقفا فى تلك الساعة بجوار نعوم باشا فالتقطت أذناه كل كلمة قالها له موظفو المكتب، ولكن أيوب كميد لم يعبأ يومئذ بما جاهر به الموظفون للمتصرف ولم يخطر له قط أنه سوف يحل يوم تكون فيه هذه الكلمات عاملا من أكبر العوامل فى استحكام أزمة سياسية خطرة كان من المحتمل جدا أن تتحول إلى حرب كبيرة. 

 ولم تمضِ على تلك الحوادث مدة قصيرة حتى هاجر أيوب إلى مصر كما هاجر إليها كثيرون من الشبان السوريين المتعلمين فرارا، مما كانوا يلقونه من اضطهاد الحكام العثمانيين، وشاءت المقادير يومئذ أن تجمعه باللورد كرومر العميد البريطانى فى القطر المصرى، فعجب بإجادته التامة للغة الإنجليزية وبمقدرته العظيمة على تقليد الإنجليز فى التخاطب بلغتهم الأصلية، فقربه من مجلسه وشمله بعطفه. 

 وفى ذات يوم وردت أنباء تلغرافية من الاستانة بأن ولاة الأمور الترك ينشطون فى إنجاز مشروعات سكة حديد الحجاز واتفق فى مساء ذلك اليوم أن كان أيوب كميد على موعد مع اللورد كرومر فدار بينهما الحديث على تلك المشروعات ومداها ومبلغ تأثيرها السياسى والاجتماعى والاقتصادى بعد تنفيذها،  ويظهر أن أيوب كميد قال للورد كرومر أن تلك السكة الحديدية ستكون عظيمة الأثر فى العلاقات السياسية بين مختلف الأقطار العربية التابعة للسلطنة العثمانية وأن الترك قد يستعملونها لبعض أغراضهم العسكرية، فهز اللورد كرومر كتفيه وقال إنه لا يعتقد أنها فى مثل هذه الخطورة وكأن أيوب شاء عندئذ أن يقيم البرهان على صحة نظريته فكررعلى مسمع من اللورد كرومر ما سمعه يوم زيارته لوزارة النافعة فى الاستانة من موظفيها الفنيين عن الغرض الخفى الذى يرمى إليه ولاة الأمور العثمانيون، وهو إيجاد خط حديدى يمكنهم فى الوقت الملائم من نقل جيوشهم إلى مصر، فرسخت هذه الأقوال فى ذهن العميد البريطانى وعلق عليها أعظم أهمية. 

 وكأن الأيام المقبلة شاءت أن تجىء مصدقا لرواية أيوب كميد فما هى إلا مدة قصيرة من الزمان حتى وقع حادث الحدود الشهير وخلاصته  أن رجال المخافر التركية القائمة على الحدود السورية المصرية نزعوا الحجارة الفاصلة بين حدود البلادين من مكانها الرسمى وتوغلوا فى الأراضى المصرية وأقاموا تلك الحجارة فى بقعة تبعد مسافة طويلة عن الحدود الأصلية بغية أن يضموا الشقة الجديدة التى استولوا عليها بهذه الكيفية إلى الاراضى السورية الخاضعة مباشرة للسلطنة العثمانية فلما اتصل  نبأ ما حدث بالحكومة  البريطانية أرسلت إنذارا إلى الحكومة التركية تطلب منها فيه أن تعيد حجارة الحدود إلى مكانها الأصلى وأن تسحب مخافرها من الشقة التى استولت عليها وضمتها إلى أراضيها، وختمت الحكومة البريطانية إنذارها بأن حددت عشرة أيام لتنفيذ شروطها، وإلا انتهجت تجاه الحكومة التركية الخطة التى يوجبها مسلكها العدائى. 

 وحاول السلطان عبد الحميد الثانى يومئذ أن يتخلص من الإنذار البريطانى بوسائل شتى، ولكن اللورد كرومر ألح على حكومته إلحاحا شديدا فى عدم التهاون مع الحكومة التركية، مما أدى إلى إصرار الحكومة البريطانية على مطالبها واضطرار السلطان عبد الحميد إلى الإذعان لها. 

 وقد كان الباعث للورد كرومر على هذا التشديد أنه ما كاد يعلم بحادث الحدود  حتى تذكر ما كان أيوب كميد قد قصه عليه عن نوايا الحكومة التركية الخفية من إنشاء فرع لسكة الحديد الحجازية فأبرق إلى حكومته فى لندن بفحوى حكاية زيارة نعوم باشا لوزارة النافعة فى الاستانة وبما سمعه أيوب كميد من موظفيها فى خلال تلك الزيارة فلم يقل اهتمام الحكومة البريطانية بها عن الاهتمام الذى علقه عليها اللورد كرومر،   ومما حمل الحكومة البريطانية  فى ذلك الحين على تصديق رواية أيوب كميد أيضا أنه كان قد سبق لها لما اطلعت على  (الفرمان) الذى أصدره عبد الحميد الثانى بتوليه عباس الثانى الأريكة المصرية خلفا لتوفيق باشا.

وفى اليوم العاشر من تاريخ إرسال الإنذار البريطانى إلى الحكومة التركية تلقت وزارة الخارجية البريطانية ردا رسميا من السلطان عبد الحميد بأن حكومته تسلم بمضمون ذلك الإنذار، وكان هياج الخواطر قد بلغ أشده فى مصر فى خلال تلك الأيام العشرة فحمد الناس ربهم على انتهاء الحادث بسلام 

 ومما هو جدير بالإشارة إليه هنا أنه فى الساعة التى تلقت فيها الحكومة البريطانية رد الحكومة التركية على إنذارها كان اللورد كرومر يلعب (التنس) فى حديقة داره بقصر الدوبارة، ومن ذلك اليوم توثقت عرى الصداقة بين اللورد كرومر وأيوب كميد، حتى إن أيوب كان من أكثر الناس ترددا على مائدة العميد الذى كثيرا ما كان يطلب منه أن يستصحب معه نجله الأكبر. 

 التوقيع (ك) 

 (مجلة كل شىء والعالم بتاريخ الاثنين 20 أغسطس 1928)