السبت 23 نوفمبر 2024

فن

أول مايجيك الموت .. افتح!

  • 2-11-2020 | 19:49

طباعة

وتطلي في عين الواحد يا ولداه ع الغربة عارفه يا مرتي الراجل في الغربه يشبه إيه .. ؟ عود درة وحداني .. في غيط كمون حسيت بالخوف ناشع في عروقي زي البرد قضينا الليلة الأولانيه في أي مكان . العين مشقوقة.. والبال .. زي الغلة اللي بتسرسب من يد الكيال وندهت عليكي قلت : أنا بنده. سامعاني ؟

سامعيني يا عيال ؟. النبي لولا الخوف واللومة من الرجالة. لاركبت القطر وعدت. قبل ما أروح لموظف. قبل ما أرد سؤال. وقعدت أعقل نفسي وأقول : يا حراجي يا بوي: أمال جيت ليه ؟. الخايف من الغربة ما يجيش اتحمل علشان كسوة عيد .. ورغيف العيش لكإنك ياخي رحت ( الديش ) من خوفي يا مرتي قعدت أهدي الرجاله.

الغُربة شعور طبيعي- جارح للجنوبي ( الأسطى حراجي القط – عبد الرحمن الأبنودي)، أينما كان، ومتى حلّ. الغربة نبتة تولد في أرض الروح، وتكبر مع الأيام، بعض الجنوبيين، يهربون منها، والبعض الآخر  (المسكون بجنيّة الإبداع) يستظلون بها، من حرّ  الأيام. آلمني جدًا، الحديث الذي جرى بيني وبين أخي، الصحفي رجب آدم، مراسل جريدة الوطن، في محافظة قنا، مسقط رأسه، ومسقط رأس عبد الرحمن الأبنودي. قال لي إن الناس في قريته، التي يسكنها الجهل، وفقر الأرواح والابدان، لا يحسّون بالأبنودي، ولم يحزنوا كثيرًا لوفاته. سألته: وده طبيعي؟. قال لي: يعني هوّ سؤالك اللي طبيعي؟. استغربت إجابته، وقال لي على طول: يا خيّي بلادنا معاندة.

بعد هذه المكالمة التليفونية، قلبت في الجواب رقم 13 للأسطى حراجي القط، فوجدت أن هناك فرعًا كان يكبر في شجرة غربة الأبنودي، فرع كان يكبر يومًا بعد يوم، فيحجب عنه شمس العودة إلى قريته الصغيرة، وفرشته في سقيفة الدار. من فوق إحدى صخور السد العالي، يقول الأسطى حراجي لزوجته المصونة فاطمة أحمد عبد الغفار:

 وكتير في الجوابات بتقولي يا فاطنة الغربة الغربة الغربة إيه هي الغربة يا فاطنة ؟ ؟ وميتى يبقى الواحد منينا ف غربة؟ ؟ ؟ لما يسيب بلده ؟ الواحد منينا بلده الحتة اللي بيغواها بيته الفرشة اللي عينه تنعس جواها مش يامنة أب قنديل متجوزة حسني العطار ؟ مش دي حكاية يا فاطنة قارياها أنتي وحافضاها ؟ مش قاسمين لا الفرش ولا اللقمة مش دايقين أيامهم بلسانهم وجنوبهم في الليل بتبات تتقلب أهي دي الغربة يا فاطنة جبلاية الفار بلده وبلد جده ودا بيت والده لكن متغرب فيه وأنا هنا عال في سوان لولا القلب اللي أما افتكرك زي حمامة مدبوحة يرفرف كنت ما أفكرشي ف مطرح تاني ومفيش في الدنيا غير جبلاية الفار اللي معانداني علشان فيها عيد وعزيزة وفطاني جبلاية الفار بيكم فاكراني وتقولي ميتى حاتاجي يا حراجي وأرد ورا الشوق الرامح ع البيت صحيح ! ميتى يا حراجي رح تاجي ؟ ؟ ؟ أنا متشوق صح يا فاطنة لكن دلوقتي سيبيني زي اللي ف قلبي حتة مسلوخة مش عاوز أطولها المية قبل ما تبرد وتطيب وما تضايقيش مني يا فاطنة لو قلتلك حتى لو إدوني أجازة مش رح آجي وسلامي وشوق الـ مش طايق ناره زوجـــــك الأســـطى حــــراجي.

لملم الأبنودي، جنوبه، في حقيبته، ورحل إلى القاهرة، شابًا. عاش الجنوب داخل روح الأبنودي، ولم يبخل عليه، في غربته الاختيارية. في منديل من القطن، ربطت له الأم فاطمة قنديل، منديل حكايات لا ينضب. حكايات عن الناس، والشجر، والغيطان، وتعاويذ جنوبية، نفخت فيها جدته "ست أبوها" من روحها. ركب قطار الصعيد، والتقى برفاقه السمر: الشاعر أمل دنقل، والقاص يحي الطاهر عبد الله.

بوفاة الخال، خلت مقاعد الجنوبيين الثلاثة، المعذبين بالإبداع. انفرط العقد، بوفاة القاص الكبير يحيى الطاهر عبد الله( 1981) ثم أمل دنقل في( 1983) ثم عبد الرحمن الأبنودي (2015). أكثر من ثلاثين عامًا عاشها الأبنودي، من دون رفاقه، تعمق خلالها شعوره بجرح الغربة. ماتت أمه أيضًا، فاطمة قنديل، فرثاها يقول:  أمى.. والليل مليل  طعم الزاد القليل  بترفرف.. قبل ترحل  جناح بريشات حزاني وسددت ديونها، وشرت كفن الدفانة  تقف للموت يومياتى مجاش ابن الجبانة.  

 

حديث آخر، حول الغربة جمع الأبنودي، وأمه يامنه في قصيدته "يامنة" :

حبيبي انت يا عبد الرحمان والله حبيبي .. وتتحب. على قد ماسارقاك الغربة لكن ليك قلب. مش زي ولاد الكلب اللي نسيونا زمان حلوة مرتك وعويْلاتك والاّ شبهنا..؟ سميتهم إيه؟ قالولي : آية ونور. ماعارفشي تجيب لك حتة واد؟. والاّ أقولك : يعني اللي جبناهم.. نفعونا في الدنيا بإيه؟ غيرشي الانسان مغرور فاكر يامنة وفاكر الوش؟ إوعى تصدقها الدنيا.. غش ف غش.!! إذا جاك الموت يا وليدي موت على طول. اللي اتخطفوا فضلوا أحباب صاحيين في القلب كإن ماحدش غاب.   واللي ماتوا حتة حتة ونشفوا وهم حيين. حتى سلامو عليكم مش بتعدي من بره الأعتاب أول مايجيك الموت .. افتح.   أو ماينادي عليك .. إجلح.. إنت الكسبان ..إوعى تحسبها حساب! بلا واد .. بلا بت.. ده زمن يوم مايصدق .. كداب..!! سيبها لهم بالحال والمال وانفد إوعى تبص وراك ..الورث تراب وحيطان الأيام طين وعيالك بيك مش بيك عايشين.!

كما سرقت الغربة أمل ويحي الطاهر، سرقت الغربة قلب الأبنودي. الطفل السبعيني بأن يُدفن بعيدًا عن أبنود. بعيدًا عن الجسور، والغيطان، التي شكلت عظم تجربته. مات وأوصى أن يُدفن في جبل مريم، في الإسماعيلية، بعيدا عن بلاده. الغربة سيف يتربص بالجنوبي، يشعر معه بالمرارة وهو يتناول خبز النجاح، شعور بالوحدة، والتمزق، حتى لو كان مسافرا من قرية إلى قرية غير قريته، فما بالك بالقاهرة.

وجع يصفه الأبنودي بذكاء في ديوان "الزحمة"، عبر قصيدته "ارقص ع السلم": سلم قلوعك للغروب.. والغربة واعجن.. وكل واشرب بقَّية زادك .. ولا انت واصل بالقلوع.. لأوروبا ولا انت راجع بالقلوع لبلادك ف يا شاب يا معلَّم.. يا متعلِّم ارقص على السلِّم .. يا صهد.. يا شاوح .. ضلل على الرايح فى اليم ... من غير يمّ الجفن من غير عين والزند من غير دم .. ويا شاب يا مطفى العيون الماس راح الحماس .. و قعدت ف الضّلة كشفت عريك فى البلاد للناس

وتاجرت فى الأشعار و فى الفُعلا لا دين ولا مَّلــة لا وصلت ..لا رجعت لا منوّر و لا مضلِّم .. الحق قام والكره قام ... لا قمت تتكلم... و لا تسلِّم فارقص على السلم.

تغريبة الوطن، أحد الفروع الرئيسية في شجرة الغربة عند الأبنودي في حياته. روتها سنوات الانكسار، وخصوصا هزيمة 1967، كما روتها تجربته الذاتية في السجن، أيام عبد الناصر. يقول في قصيدته (المتهم) : عشب الربيع مهما اندهس بالقدم أو انتنى في الريح بيشب تاني لفوق يغني للخضره وطعم الألم حبيبتي وإن يسألوكي قولى مسافر بعيد رايح يقابل العيد على قلعة فوق الجبل واللا في سجن جديد. 

نفس المعنى يؤكد عليه في قصيدة الأحزان العادية: يا صاحب هذا المبنى الموروث ضل جدودك فى الجدران مغروس  انت السلطان وانا المملوك انت السجان وانا المهلوك انت المنصور وانا المسفوك انا الصعلوك وامتى الصعلوك يقدر يتجاسر على السلطان اللى فى ايده بدل البرهان مليون برهان رفع الهد ماهو برضه دول يفهموا فى الكدب أول ما اتلفت جه غارس الجزمة فى قورتى وجيت اقعد بركنى على الأسفلت ولقيت نفسى محاصر تانى وتحت الرجلين قلت لنفسى وبعدين راح تفضل كده لامتى يا غلبان ؟ ما لقتش الراحه فى الموت يمكن تلاقيها ورا القضبان.

الشاعر الكبير الذي حمل الجنوب داخله، لم تفارقه صورة أبنود، فبنى لنفسه بيتا صعيديا، ملحقا بمندرة، وجنينة ( أبنود صغيرة) في الإسماعيلية، حيث الهواء الصابح، والشمس الحامية، التي تشبه شمس قنا. رحل الأبنودي هازما الخوف من الموت. رحل الأبنودي، إلى غربة إجبارية، تاركا لنا وصية:

تتعسني فكرة إني هموت   قبل ما أشوف لو حتى دقيقة رجوع الدم لكل حقيقة.. وموت الموت قبل ما تصحى.. كل الكتب اللي قريت والمدن اللي ف أحلامي رأيت   والأحلام اللي بنيت والشهدا اللي هويت والجيل اللي هداني والجيل اللي هديت قبل ما أملس ع الآتي وأدفن كل بشاعة الماضي في بيت.

نقلا عن مجلة المصور

    الاكثر قراءة