إذا كانت القيادة هي ما يمتلكه الفرد القائد
من قدرة على التأثير في الآخرين لتحفيزهم وتشجيعهم على إنجاز الأهداف المنشودة، فلقد
كان رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم أعظم قائد أثر في أتباعه ومن جاء بعدهم إلى
يوم الناس هذا. وإذا كانت القيادة تعني خبرة القائد بمواهب مرؤوسيه وحسن توظيفه لقدراتهم
ومواهبهم فلقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر الناس بالناس، وأعظم من أرسى
مبدأ عامل الكفاءة والموهبة في تولى الوظائف العامة قبل أي اعتبار آخر. وإذا كانت القيادة
تعني قدرة القائد على تأليف القلوب وجمع الناس على التحاب والتواد فهذا رسول الله محمد
صلى الله عليه وسلم لم يعرف له مثيل في تاريخ البشرية في تأليف القلوب وغرس بذور المحبة
بين أبناء المجتمع.
أولاً: قيادة النبي صلى الله عليه وسلم..
منذ نشأته في كنف جده عبد المطلب وأمارات القيادة تظهر عليه صلى الله عليه وسلم، فقد
كان يوضع لجده عبد المطلب سرير بجنب الكعبة، فيُدفع عنه كل الصبيان، حتى يجيء رسول
الله عليه الصلاة والسلام، فيحاولون دفعه، فيمنعهم جده عبد المطلب قائلا: (دعوا ابني
هذا فإنه سيكون له شأن). وتتمثل صفاته القيادية من قبل بعثته في استشعاره المسؤولية
عن ذويه ومجتمعه وتقديمه للتضحيات في سبيل إسعادهم، يتضح ذلك من موقف أم المؤمنين خديجة
رضي الله عنها عندما جاءه جبريل لأول مرة وعاد من حراء مرتجفا خائفاً يقول لزوجه خديجة
رضي الله عنها (لقد خشيت على نفسي، فقالت: كلا والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل
الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق). ومع مرور الأيام
ومن قبل بعثته تظهر فيه صلى الله عليه وسلم أعظم صفات القيادة وهي الصدق والأمانة،
والشجاعة، وقد اعترف بها المشركون، ولقبوه قبل البعثة (بالصادق الأمين) وقد شهد بذلك
أعداؤه فها هو أبو سفيان بن حرب وهو لا يزال مشركا يسأله هرقل قيصر الروم: هل كُنتُم
تتهمونه بالكذب؟. فقال: لا، فقلت أي هرقل: ما كان ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله.
وأما أمانته صلى الله عليه وسلم فمشهورة، وقد كان أهل مكة يضعون عنده أماناتهم، وقد
أمر علي بن أبي طالب رضي الله عنه بردها إليهم بعد هجرته. وأما شجاعته صلى الله عليه
وسلم فيعبر عنها ما رواه الإمام أحمد في مسنده من قول علي رضي الله عنه “كنا إذا احمر
البأس ولقي القوم القوم اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون منا أحد أدنى
من القوم منه”.
ومن صفاته القيادية أنه صلى الله عليه وسلم
كان يتروى في اتخاذ القرارات ومن المواقف الدالة على ذلك أن الأنصار لما انتهوا من
عقد بيعة العقبة الثانية قالوا: “يا رسول الله، إن شئت لنميلنّ على أهل منى غداً بأسيافنا”.
فقال صلى الله عليه وسلم: (لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم). ومن صفاته القيادية
أيضا أنه صلى الله عليه وسلم كان يستشير أصحابه في كثير من المواقف ويقول: (أشيروا
علي أيها الناس)، فاستشارهم في بدر وأحد والخندق وفي مواقف كثيرة يعلمها من له إلمام
بالسيرة النبوية. أخرج الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (ما رأيت
أحدًا قط، كان أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم).
كما كان يفتح باب الحوار والمراجعة كما في اختيار موضع بدر، وحكم الأسرى، وعاد إلى
رأي الحُباب بن المنذر رضي الله عنه: إن هذا ليس بمنزل!. وإذا كان بعد النظر والوعي
بالمآلات من صفات القادة فانظر إلى بُعد نظره العجيب، كما صنع في (صلح الحديبية) من
الصبر وقبول غبن الصلح ومضضه، ليتفرغ للدعوة وإظهار سماحة الإسلام، وفضح غرور القرشيين
وعدم صلاحيتهم للإشراف على مكة وحرمها، وكذلك تركه لقتل المنافقين برغم استحقاقهم
(لئلا يتحدث العرب أن محمدا يقتل أصحابه) كما في الصحيحين. ومن صفاته القيادية الثبات
على مبادئه ودعوته، فقد أرسلت قريش عتبة بن ربيعة ليقول له: “يا ابن أخي إن كنت إنما
تريد بما جئت به من هذا الأمر، مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن
كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك...”، فما زاد رسول الله على الإنصات
وتلاوة صدر سورة فصلت حتى قال عتبة حسبك يا محمد ورجع إلى القوم ليخبرهم بما رأى وسمع.
ومن صفاته القيادية خدمة الناس ومشاركتهم الأعمال فقد شارك في بناء المسجد وحفر الخندق
برغم المتاعب والجوع.
ثانياً: قدرة النبي على فهم الشخصيات واستثمار
الطاقات.. كان صلى الله عليه وسلم يعلم من خلال معايشته لأصحابه كل شيء عنهم، يعرف
مواهب وكفاءة كل واحد منهم، ويعرف مستوياتهم الإيمانية والعقلية والنفسية، ويعرف قدراتهم
وحظوظهم في المجالات التربوية والقيادية والمالية والدعوية والعسكرية، ويتحدث مع كل
بما يناسبه، ويكلف كلاً منهم وفق خصائصه وقدراته. أخرج ابن ماجة عن أنس بن مالك رضي
الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في
دين الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقضاهم علي بن أبي طالب، وأقرؤهم لكتاب الله أُبي
بن كعب، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، ألا وإن لكل أمة
أميناً وأمين هذه الأمة أبو عبيدة ابن الجراح.
من شواهد معرفة النبي صلى الله عليه وسلم
بمواهب أصحابه وحسن استثمارها ما رواه البخاري عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه زيد
بن ثابت قال: «أَمرني رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أَن أتعلم له كلمات من كتاب
يهود، قال: إني واللَّه ما آمن يهود على كتابي، قال: فما مر بي نصف شهر حتى تعلمته
له، قال: فلما تعلمته كان إذا كتب إلى يهود كتبت إليهم، وإذا كتبوا إليه قرأْت له كتابهم».
ولقد أبدى زيد بن ثابت رضي الله عنه مهارة عالية وأداءً متميزًا جدا، وسرعة في الإنجاز
حين تعلم اليهودية في نصف شهر، والسريانية في ١٧ يومًا، والفارسية في ١٨ يومًا كما
ذكر ابن حجر في الفتح، وهذا يثبت معرفة النبي صلى الله عليه وسلم بقدرات زيد العقلية
واستعداده لتعلم اللغات. ومن خلال معايشة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه أدرك من
هم أفضل قراء القرآن الكريم، روى البخاري في المناقب أنه صلى الله عليه وسلم قال:
“استقرئوا القرآن من أربعة؛ من عبدالله بن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، وأُبي بن كعب،
ومعاذ بن جبل”. وكان النبي عليه الصلاة والسلام قائداً حكيماً يعلم معادن الرجال وقدراتهم،
وحينما أتاه أبو ذر يطلب الإمارة اعتذر عن ذلك بقوله: (يا أبا ذر! إنك ضعيف. وإنها
أمانة. وإنها يوم القيامة، خزي وندامة). ومن خلال المعايشة أدرك من يصلح ليكون أمين
أسراره، وهو حذيفة بن اليمان رضي الله عنه .
حتى أنه صلى الله عليه وسلم سمى له المنافقين
في المدينة والذين تآمروا على النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك.
ومن خلال المعايشة اختار ثابت بن قيس رضي
الله عنه ليكون خطيبه والمتحدث الرسمي نيابة عنه، روى البخاري في المغازي أنه حين جاء
مسيلمة الكذاب إلى المدينة المنورة، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ثابت
بن قيس بن شماس، وهو الذي يقال له: خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي يد رسول
الله صلى الله عليه وسلم قضيب، فوقف عليه فكلمه، فقال له مسيلمة: إن شئت خليت بيننا
وبين الأمر، ثم جعلته لنا بعدك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “لو سألتني هذا القضيب
ما أعطيتكه، وإني لأراك الذي أريت فيه ما أُريت، وهذا ثابت بن قيس، وسيجيبك عني”.
هذا، والأمثلة كثيرة على خبرة الرسول صلى
الله عليه وسلم بكفاءات وقدرات أصحابه من خلال المعايشة والالتصاق بهم، مما مكنه صلى
الله عليه وسلم من توظيفهم على الوجه الأمثل.
ثالثاً: قدرته صلى الله عليه وسلم على تأليف
القلوب.. من أبرز الصفات القيادية في شخص النبي صلى الله عليه وسلم قدرته على مداواة
النفوس وتأليف القلوب وإزالة الشحناء من الصدور، حتى تبقى أمة الإسلام متماسكة قوية
مترابطة. يروي ابن إسحاق أن شاس بن قيس، وكان شديد الحسد للمسلمين، مر على نفر من أصحاب
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الأَوس والخزرج، فغاظه ما رأَى من أُلفتهم وجماعتهم،
بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فأمر فتى شابا من يهود كان معهم، فقال:
اعمد إليهم، فاجلس معهم، ثم اذكر يوم بعاث وما كان قبله وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا
فيه من الأَشعار. ففعل. فتكلم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من
الحيين على الركب، فتقاولا ثُم قَال أَحدهما لصاحبه: إن شئتم رددناها الآن جذعة، فغضب
الفريقان جميعاً، وقالوا: قد فعلنا، موعدكم الظاهرة- والظاهرة: الحرة- السلاح السلاح.
فخرجوا إليها. فبلغ ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه
المهاجرين حتى جاءهم، فقال: يا معشر المسلمين، اللَّه اللَّه، أبدعوى الجاهلية وأنا
بين أظهركم بعد أن هداكم اللَّه للإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم
به من الكفر، وأَلف به بين قلوبكم، فعرف القوم أَنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم،
فبكوا وعانق الرجال من الأَوس والخزرج بعضهم بعضًا، ثم انصرفوا مع رسول اللَّه سامعين
مطيعين، قد أطفأ اللَّهُ عنهم كيد عدو اللَّه شأْس بن قيس.
ويظهر من هذه الرواية حرص النبي صلى الله
عليه وسلم على تأليف القلوب حيث بين لأصحابه أن نزاع أبناء الأمة الواحدة ليس من الإسلام
فى شيء، فالإسلام ألفة وترابط وتماسك ووحدة. وختاماً.. فإن رسول الله محمداً صلى الله
عليه وسلم هو المثل الأعلى الذي قدم للبشرية نموذجاً لا مثيل له في التحلي بصفات القيادة،
وفي حكمته في توظيف الطاقات البشرية، وفي قدرته على تأليف القلوب ولم الشمل فصلى الله
عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.