لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم مثالاً
فريداً يحتذى به في كل شيء ، ولقد صدق الله تعالى عندما قال للمسلمين (لقد كان لكم
في رسول الله أسوة حسنة) ، فكان نموذجاً رائعاً في كافة مناحي الحياة، فكان زوجاً رقيقاً،
وأباً حنوناً، وقائداً ناصحاً، وكان صلى الله عليه وسلم يمتثل لأمر الله في كل شيء
، وحينماً أمره الله تعالى أن يشاور أصحابه، كان ذلك من تمام خُلقه الشريف الذي كانت
بدايته الرحمة، ونهايته التوكل على الله تعالى.
قال عز وجل ( فبما رحمة من الله لنت لهم
ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا
عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين) ، ومن هنا خرج مبدأ الشورى الذي امتدح
الله عز وجل به المسلمين الأوائل وقال في وصفهم (وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون)
، ولقد قال في هذه الخصلة أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه “ما رأيت أحداً أكثر مشاورة
لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم”.
ولمبدأ «الشورى» في الإسلام أهمية عظيمة،
ومكانة كبيرة، فقد سمى الله سبحانه وتعالى صورة باسمها، ولقد ضرب الرسول صلى الله عليه
وسلم في تطبيقها أروع الأمثال، فكان لا يستأثر برأيه، بل إنه ورد عنه صلوات الله وسلامه
عليه أنه كان يقول “ أشيروا عليَّ أيها الناس”، ولذلك كانت صور التطبيق العملي في هذا
المبدأ متعددة، ومنها ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر، لتبرز في هذه
الغزوة ثلاث صور للشورى، الأولى هي مشاورة الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه في أمر
الخروج، هل يخرج أم يجلس في المدينة، فأشاروا عليه بالخروج، بل إنه كان شديد الحرص
في هذا الموقف أن يجمع الآراء كلها من المهاجرين والأنصار أوسًا وخزرجًا، وحينما أجمعوا
أمرهم على الخروج، ليكون ذلك هو المثال الأول، نزل الرسول صلى الله عليه وسلم في مكان
بالقرب من وادي بدر، وهنا يبرز المثال الثاني، عندما يأتي إليه الحباب بن المنذر رضي
الله عنه وأرضاه ليقول له يا رسول الله أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلك الله إياه
ليس لنا أن نتقدمه أو نتأخر عنه، أم الرأي والحرب والمكيدة، فقال للحباب غير مستبد
برأيه، بل الرأي والحرب والمكيدة، فقال له الحباب: يا رسول الله إن هذا ليس بمنزل فانهض
بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم – أي المشركين - فننزله ونغور (نخرب) ما وراءه من
الآبار، ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماءً ثم نقاتلهم، فنشرب ولا يشربون، فقال له الرسول
صلى الله عليه وسلم “لقد أشرت بالرأي”، لينزل على رأي الحباب بن المنذر، غير متشبث
برأيه، كونه رسول الله، وكونه القائد، أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم برأي الحباب ومشورته،
فتحرك بالجيش حتى أقرب ماء من تمركز الأعداء، فصنعوا الحوض، وغوروا ما عداها من الآبار.
ثم يكون أمر الأسرى في نهاية المعركة، ليجلس
الرسول صلى الله عليه وسلم بين أصحابه ليستشيرهم في مصير الأسرى، فيبرز رأيان لرجلين
من كبار الصحابة الأكارم، هما الصديق وعمر بن الخطاب، ليسأل الرسول أصحابه ماذا نصنع
مع هؤلاء الأسرى، فيقول الصديق يا رسول الله، هم أهلك أعمامك وبنو أعمامك وأخوالك وبنو
أخوالك، أرى أن نتركهم ويفتدي كل منهم نفسه، ويقول عمر يا رسول الله لقد آذوك وأخرجوك
من دارك، وأرادوا قتلك، فلنقتلهم يا رسول الله، فشبه الرسول الصديق وعمر بإبراهيم ونوح،
فقال إن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال “فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك رءوف
رحيم”، وإن مثلك يا عمر مثل نوح قال: “رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً إنك
إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً”، ولكن الرسول نزل على رأي الصديق
ليعاتبه الله عز وجل بعد ذلك، كونه لم يأخذ برأي عمر الملهم فينزل قرآناً في ذلك، في
قوله تعالى ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله
يريد الآخرة) .
وتنطلق قافلة المواقف التي يستشير فيها
الرسول أصحابه لنقف عند موقف جديد، وهو استشارته لأصحابه في غزوة أحد، وكان رأيه الشخصي
صلوات الله وسلامه عليه أن يجلسوا في المدينة متحصنين بها، لكن بعض الصحابة ممن لم
يشهدوا بدراً أصروا على الخروج، فنزل الرسول صلى الله عليه وسلم على رغبتهم، واستجاب
لمشورتهم وخرج، وبالرغم مما حل بالمسلمين في هذه الغزوة؛ إلا أن الله تعالى قد أمر
نبيه أن يستمر في مشورة أصحابه بقوله تعالى له (وشاورهم في الأمر) ، ثم تأتي الأحزاب
وتتكاتف قوى الشرك للنيل من المسلمين والقضاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتكون
هذه الغزوة التي سميت بالأحزاب أو الخندق، فيستشير أصحابه وهو في موقف، قمة في الصعوبة،
من تحالف للأحزاب وظهور للمنافقين، فيشير عليه سلمان الفارسي بحفر الخندق، وكان أمراً
غير مألوف عند العرب في فنون القتال، فيستجيب الرسول صلى الله عليه وسلم لمشورته، ويبدأ
المسلمون في حفر الخندق، والرسول يحفر معهم، يده بأيديهم، الكل يتعاون ويتكاتف في ذلك.
كما تبرز جوانب أخرى في فتح مكة تبين مدى
حرص الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في الأخذ بمشورة أصحابه، فيأتي إليه العباس بن
عبد المطلب ويقول يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئاً – أي يفتخر
به - فقال صلى الله عليه وسلم نزولاً على مشورة العباس بن عبدالمطلب، “من دخل المسجد
فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن”، وقد كان ذلك
كله في أمر المعارك والغزوات، ومنها أيضاً ما حدث في غزوة تبوك، عندما وصل الرسول صلى
الله عليه وسلم إليها وأقام بها عشرين ليلة، ولم يلق جيش الروم، فاستشار أصحابه في
أن يتقدم شمالا من تبوك فأشار عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، بعدم التقدم
خشية الاصطدام بالروم وحلفائهم، مؤكداً له أن الغرض قد حصل من دنوا الرسول صلى الله
عليه وسلم، وإفزاعه للروم فأخذ الرسول بمشورة عمر ولم يتقدم تجاه الروم.
بل إننا وجدنا الرسول صلى الله عليه وسلم
كان يتشاور مع أصحابه أيضًا في كافة الأمور، فقد ورد أنه استشار علي بن أبي طالب، وأسامة
بن زيد رضي الله عنهما في حادثة الإفك، بل إنه شاور الصحابة الكرام في كيفية التصرف
والتعامل مع من آذاه ونال من عرضه الشريف، في اتهام الطاهرة المطهرة أم المؤمنين السيدة
عائشة، فقال له أسامة بن زيد يا رسول الله أهلك لا نعلم عنهم والله إلا خيراً. وقال
علي يا رسول الله لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وسل الجارية تصدقك، فدعا
الرسول الجارية بريرة وسألها هل رأيت في عائشة شيئا يريبك، فقالت له: لا والذي بعثك
بالحق. إن الشورى سياسة نبوية، رسخها القرآن الكريم، ورسخها الرسول صلى الله عليه وسلم
في كافة تعاملاته، وخاصة في تلك الأمور التي تخص المسلمين، وتهم أمرهم، فليكن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قدوة وأسوة في ذكرى مولده الشريف، ولنستعد تعاليمه، ونتبع
هديه ومنهجه، ليكون بحق قدوة وأسوة حسنة، وختاماً أختم بقول الله سبحانه وتعالى (إن
الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً».