الصعبة، منذ مجموعتها القصصية الأولى "زينات فى جنازة الرئيس"، فى أعمالها الأولى كانت مهتمة بقضايا المرأة فى المقام الأول، خاصة بنات الفئات الاجتماعية المهمشة والمظلومة أو المسحوقين اجتماعيا وإنسانياً.
إلى جوار ذلك تغوص سلوى بكر فى بعض المناطق الشائكة تاريخياً وإنسانياً وربما المجهولة أيضاً، وهذا هو طابع رواياتها الأخيرة ، مثل رواية «كوكو سودان كباش» وتتناول فيها الحملة المصرية فى المكسيك وحال الجنود المصريين الذين ظلوا فى المكسيك، ونسيهم الجميع فى مصر ، صدرت هذه الرواية سنة 2004 وصدر منها عدة طبعات ، وكانت الرواية الأولى - فيما أعلم - التى تتناول فيها هذه الحملة، ورواية «البشمورى» فى جزءين ، وتناولت فيها حملة الخليفة العباسى المأمون على المصريين الأقباط والتى انتهت بإبادة البشموريين جميعا، خاصة فى الفيوم.. وقبل ثورة يناير مباشرة أصدرت روايتها القصيرة والبديعة «الألماس» والتى دارت حول شخصية زينب البكرية «التى روى حكايتها الجبرتى وهى ابنة الشيخ خليل البكرى التى أعجب بها نابليون بونابرت ، وقتلت بعد خروج الحملة من مصر سنة 1801، وكان عمرها 16 عاماً.
وقبل أسبوعين أصدرت سلوى بكر رواية جديدة، هى «شوق المستهام» وتقع فى 180 صفحة، صدرت من مؤسسة الأهرام ، وتدخل بهذه الرواية مرحلة ثقافية وتاريخية مسكوتا عنها، الرواية تدور أحداثها بعد الفتح العربى لمصر بحوالى مائة عام، حيث لم تكن اللغة العربية انتشرت تماما بين المصريين وكان لا يزال للغة القبطية حضور واضح.
بطل الرواية راهب فى دير مريوط، الراهب هو «أمونيوس» وذات يوم يصل إليه فى الدير خبر مرض والدته الشديد، فيغادر الدير بإذن خاص ليرى الوالدة قبل وفاتها، فيصل إلى بلدته «قنبيط» بعد وفاة الوالدة ودفنها، وهكذا كان عليه أن يعود إلى الدير ثانية، لم يكن قد زار بلدته لمدة ست سنوات، منذ أن نذره والده الفلاح الفقير للدير، وفى القرية وجد مرض «الجدرى» يفتك بأهلها، حتى أن حبيبة صباه التى تزوجت بغيره قبل أن يترهبن ماتت من جراء هذا المرض، فقرر أن يؤجل عودته للدير عدة أيام، على أن يذهب إلى بعض المعابد القديمة، يسميها معابد الوثنية، والمقصود بها المعابد المصرية القديمة، ليبحث فيها عن بعض الوصفات العلاجية، التى تشفى من هذه الأمراض، وهكذا تقوده خطاه نحو بعض المعابد الفرعونية ، فيذهب إلى «منف» العاصمة المصرية القديمة حيث الأهرامات المصرية، وقبلها يذهب إلى منطقة الحرانية ، وآخر رحلته تكون إلى معبد «دندرة» الذى يقع فى محافظة قنا.
طوال هذه الرحلة تضعنا الرواية وجهاً لوجه مع مسار الحضارة المصرية القديمة وما تعرضت له فى العصرين القبطى والعربى.
خلال هذه المرحلة نعرف أن المسيحيين المصريين فى عصر الاضطهاد الرومانى هربوا إلى المعابد الفرعونية، وأقاموا سنوات فى سراديبها، ولما انتهى عصر الاضطهاد والشهداء، إذا بالرهبان ورجال الكنيسة يتعاملون مع هذه المعابد باعتبارها معابد للكفر وللوثنية، ويوصون بإحراق ما فيها من لفائف مكتوبة، برديات وغيرها ، لأن ما تضمه هذه البرديات ليس إلا كفريات.
تعرضت الحضارة المصرية - طبقا للرواية - إلى عدة نزوات وعمليات نهب منظمة ، أخطرها ما قام به الرومان ثم الفرس الذين غزوا مصر، قبل الفتح العربى، الرومان سرقوا اللفائف والكتب العلمية، وأضاف إليهم الفرس أنهم أخذوا علماء مصر ومهندسيها وكهانها معهم إلى بلادهم، وهكذا فرغت مصر من نخبتها العلمية والهندسية والفكرية، يضاف إلى ذلك ما قام به بعض رجال الدين المسيحى، وما سرقه الأهالى من هذا التراث للاستفادة به أو الاتجار فيه.
تنكشف براجماتية رجال الدين فى موقف الراهب «أمونيوس» الذى ذهب إلى معبد منف والتقى حارسه بمساعدة مسيحى طيب، تاجر يتمتع بعلاقات جيدة مع الحارس، فيطلع على بعض اللفائف والمخطوطات ثم ينسخ منها ما يفيده فى علاج المرضى وتطبيبهم ، ثم يوصى الحارس بإحراق هذه اللفائف هى وغيرها مما يمكن أن يعثروا عليه لأنها تنطوى على هرطقات.
تسير أحداث الرواية فى تطور وتصاعد هادئ للأحداث ، وتبلغ ذروتها على السفينة المتجهة عبر النيل من الجيزة- منف - إلى قنا ، حيث معبد دندرة ، ورغم هدوء «أمنيوس» وتدينه الشديد، إلى درجة أنه يؤنب نفسه، كلما ذهب إلى معبد فرعون، لكنه فى اللحظات الأخيرة ينحاز إلى المعرفة والبحث عن جذور الحضارة المصرية، وتبلغ ذروة الأحداث على الباخرة النيلية حيث تجمع بين الراهب المصرى «آمونيوس» والمسلم الشهير، الكلداني فى الأصل، «ابن وحشية النبطى الباحث عن المعرفة والعلم فى الحضارة المصرية القديمة، وتأخذ سلوى بكر عنوان روايتها «شوق المستهام» من عنوان أحد كتب ابن وحشية «شوق المستهام فى معرفة رموز الأقلام»، يدور الحوار بينهما على الباخرة ثم يكملانه داخل المعبد، معبد دندرة.
بداية الحوار اندهاش الراهب من أن ابن وحشية وهو مسلم، يهتم بالعلوم القديمة، ومعلوماته أن المسلمين يرفضون هذه العلوم ويعتبرونها من رموز الوثنية أو الجاهلية بالتعبير الإسلامى لكن ابن وحشية يرفض ذلك التصور بالمرة قائلا.. إن كثيرا من علوم الأقدمين كانت نافعة و مفيدة ، ولكن أكثرها ضاع واندثر بسبب الأنانية والتعصب والرغبة فى الاستئثار ولقد ضاعت هذه العلوم بسبب ضياع الألسن القديمة، وقد عز يوماً بعد يوم من ينطق بها ويفهمها
لكن الراهب لا يقنعه هذا القول ولا يرضيه، فيرد عليه القول لكن العلوم والمعارف القديمة بجملتها إنما هى علوم وثنية يا سيدى، وأنت تعلم أنها تفتن الناس وخصوصا العوام منهم وتحرفهم عن الديانة الصحيحة.
ويرفض ابن وحشية منه ذلك القول «.. ما يحرف العامة هو أن يعاملهم أهل الديانة والعلم وكأن الله خلقهم بلا عقول ، فيلقنونهم النصوص المقدسة، دون أن يفهموها لهم، ويخيفونهم بالنار وعذابها ويهيئون لهم جنة لا مثيل لها على الأرض، ويلغون عندهم أشرف ما خلق الله فى الإنسان وهو العقل ويواصل ابن وحشية القول لا يا سيدى إن العلوم لا تفتن العامة، لكنها تجعلهم يتدبرون فى خلق الله ، ويفكرون فى مظاهر نعمته التى جعلها لأجل البشر، وبذلك يدركون عظمة الخالق ويشكرونه على نعمته التى أنعمها عليهم.
ابن وحشية لا يدافع عن العلوم القديمة فقط ، لكنه يدافع كذلك وبنفس الحماس عن مصر القديمة، إن كل من يبحث عن العلم والحقيقة لابد أن يأتى إلى مصر، لقد تم ذلك عبر الزمان ومنذ الزمن العتيق، كل الفلاسفة المرموقين يا عزيزى كانوا يحجون إلى عين شمس ومنف ليتشربوا من علمائها وحكمائها، فيثاغورث عاش بها مدة اثنين وعشرين عاما ، وأفلاطون تسعة عشر عاما، وكذلك أرسطو وغيرهم كثيرون ، حتى الأنبياء جاءوا إليها، إبراهيم ويعقوب ويوسف، ومخلصكم عيسى بن مريم ، لقد هبط الجميع إلى مصر، وها أنا أهبط إليها بعد كل هذه الدهور باحثا عن العلم والمعرفة فيها.
ظلت المعابد الفرعونية مفتوحة حتى سنة 531 ميلادية، وبعدها أغلقت وزادت عمليات النهب، وبعد مائة عام من الفتح العربى لمصر، كانت هذه المعابد لا تزال ممتلئة بالبرديات وكنوز المعرفة، وكان هناك من يعرف اللسان القديم، أى اللغة المصرية القديمة ، تحملت هذه الحضارة عوادي الزمن والأيام، وتعلم منها الجميع، حتى وقت زيارة ابن وحشية لمصر.
أهم ما فى الرواية هو التطور الصاعد لشخصية الراهب، الذى بدأ متزمتا، ثم مع الأحداث يتفتح، حتى نجده فى نهاية الرواية ، يتحول إلى شخص آخر تماما ، قبل زيارته لدندرة، مر بأسرة بسيطة لديهم فتاة أصابها مرض نفسى، من جراء صدمة غرق خطيبها وحبيبها فى النيل، ، وتعامل معاملة المجنونة، يحبسها أهلها فى حظيرة، فيبدأ الراهب فى إدراك أزمتها ، ويتذكر حبيبته الأولى ، ويجلس معها ، ويدخل فى حوار إنسانى ينتهى إلى أن يضعها على بداية الشفاء وتجاوز الأزمة ، وفى معبد دندرة، بعد أن يكتشف عظمة المصريين وقوة نظرياتهم العلمية والكونية ، نراه فى اللحظة الأخيرة بعد أن تنتهى مهمته بالمعبد، يرفض أن يغادره ويعود ثانية للدير، فضل البقاء مع ابن وحشية لمزيد من الدراسة والتأمل ، تأمل الحضارة التى كان يعتبرها وثنية.
وتنتهى الرواية بأن الراهب المسيحى والعالم المسلم يبقيان فى المعبد الفرعونى، ينهلان مما فيه من علم ومعرفة.
قدمت سلوى بكر عملها باقتدار أدبى وفنى رفيع ، طوال الرواية تشعر أنها تسير على حبل من الأشواك أو الألغام، ومكنتها حرفيتها العالية وسعة الأفق الإنسانى من أن تتجاوز هذه الألغام، تتحدث عن المعابد الفرعونية والكنائس التى نهبت فى العصر العربى لمصر، وتؤكد على أن الحكام المسلمين لم يكونوا مسئولين عن ذلك ، ولم يفعل ذلك المسلمون الأوائل بل فعلها المصريون الذين تحولوا إلى الإسلام ، فكانوا يأخذون مواد البناء من تلك المعابد لإقامة بيوتهم ونهبوا بعض الكنائس بعد أن لم يعد هناك حاجة لاستعمالها ، وأخذوا أعمدتها وما بها من حجارة للبناء.. وتذكر الرواية أن العملية أقرب إلى المتوالية، ما فعله المسيحيون مع المبانى الفرعونية تكرر معهم.
«شوق المستهام» رواية تاريخية ، وحرصت الكاتبة على أن ترصد فى نهاية العمل أسماء المؤرخين والأعمال التى اعتمدت عليها فى مادتها التاريخية، أما الأسلوب والفن الروائى فهو لها، ورغم أننا بإزاء رواية تاريخية ، لكن الصياغة والأحداث التى اختارتها تقول إنها أيضاً رواية فى قلب اللحظة الحاضرة، حيث الاضطراب الثقافي واللغط حول هوية مصر والمصريين.
نقلا عن مجلة المصور