السبت 18 مايو 2024

لم يعد يفهم أى شىء... لماذا؟!

4-11-2020 | 14:47

من فترة إلى أخرى، يطفو على السطح ما يُشير إلى بقاء تأثير الاختلافات الثقافية على الساحة الدولية، رغم ما أفرزته ظاهرة العولمة من تقاربات وقواسم مُشتركة، تظل فى النهاية مظهرية ولا تعبر عن محتوى ثقافى متناغم ومُتسق، رغم ما يدور بين مكونات النظام العالمى من تبادل كثيف.

من ذلك، الأحداث المُثيرة الأخيرة التى اندلعت جراء عرض مدرس تاريخ فرنسى على طلابه رسومًا كاريكاتورية لتعليمهم طرق التفكير النقدى ومدى احترام حرية الآخرين فى الرأى والتعبير؛ إذ كانت هذه الرسوم مما يعتبره المسلمون تُسىء إلى رسولنا الكريم محمد عليه الصلاة والسلام، ما دفع إلى ذبحه على يد شاب مُسلم صغير، لاجئ إلى فرنسا، ١٨ عامًا، قيل أنه داعشى!

والحال، أن أحداث عنف وقعت، وتصريحات رسمية طارت هنا وهناك، ثم لن تلبث الأوضاع إلا أن تستقر، مُضيفة صفحة جديدة إلى هذا الكتاب الردىء الحافل بمساوئ اختلاف الثقافات بين الشعوب التى ضمتها العولمة عنوة، بضغط المصالح والجاذبية، دون أن تتأسس شراكتهم فى الحياة وفى المجتمعات على قواعد مأمونة تُعلى من منظومة القيم العالمية، التى أراها فى حاجة إلى إعادة ترتيب أولوياتها، وفى هذا أقول وبإيجاز:

ـ لا يمكن استغلال مثل هذه الأحداث فى ترهيب كل فكر مختلف؛ إذ ليس بالضرورة أن تتطابق الآراء داخل كل جانب. ولو فشل كل جانب فى احتواء ما بداخله من اختلافات وتباينات، ما حق له أن يتحدث عن رغبته فى التوافق مع الجانب الآخر، بينما هو يضيق ببعض توجهات جزء من مكوناته. يعنى ذلك أن المسلمين لا يمكن أن يكونوا جميعًا على رأى واحد، إلا فى القواعد الأساسية للشريعة الإسلامية.

ـ مَن يقف ضد عملية ذبح المدرس ليس متهاونًا فى حق دينه، وتمسك بمبادئ ديننا الإسلامى الحنيف، علينا أن نرفض أشكال العنف كافة، ولا نُبرر مُطلقًا عمليات الذبح والقتل والترويع فى حق الآمنين؛ ومن ثم فلتسقط كل الدعاوى المُطالبة بمواجهات عنيفة فى مثل هذه الأحداث التى تطعن بقوة فى الصورة الذهنية الجميلة التى نريدها للإسلام، والتى تزيد من تفاقم ظاهرة الإسلاموفوبيا التى فشل العالم الإسلامى إلى الآن فى محوها.

ـ أتصور أن ميثاقًا أمميًا يضع نُصب عينيه مثل هذه الأحداث، عليه أن يُعيد ترتيب أولويات منظومة القيم العالمية، أخذًا فى الاعتبار تعدد الثقافات، واستحالة توحيدها، وصعوبة استمرار ما بينها من فجوات واسعة. ولست أتصور إلا أن الخلافات الجذرية بين الدول الإسلامية تُعيق مثل هذا الأمر، وتدفع باستمرار الفرص متاحة أمام مثل هذه الأحداث، طمعًا فى اقتناص ما بها من فرص يمكن أن تُضيف إلى مصالحها. وليس أدل على ذلك من تركيا أردوغان، التى حاولت بانتهازية شديدة قيادة موقف إسلامى ضد الغرب عمومًا، داعية إلى مُقاطعة البضائع الفرنسية، وهو ما يصب فى صالح السلع التركية، فضلًا عن استمرار أردوغان فى مشاكساته مع أوربا الرافضة منحه عضوية الاتحاد الأوربى منذ سنوات بعيدة، بل إنه لا يمكن استبعاد أثر الخلافات الفرنسية ـ التركية من الانغماس فى هذه المسألة؛ إذ يدعو ماكرون الاتحاد الأوربى إلى اتخاذ موقف جماعى مُتشدد تجاه تركيا، حتى إن ماكرون أكد أن “تركيا لم تعد شريكًا فى شرق المتوسط”؛ ومن ثم تراه تركيا مُحرضًا ضدها؛ فإذا ما ظهرت الأزمة الأخيرة تمسك بها أردوغان لطعن ماكرون، وعلى ذلك فإن تسييس مثل هذا الملف أمر بالغ الخطورة ويدفع باتجاه صراعات لا تنتهى.

ـ لابد من توضيح الصورة أمام الأنظمة الأوربية، لتدرك كم ساهمت فى تغذية الجماعات الإسلامية المتطرفة، سواء السياسية أو المُسلحة، فكلتاهما عملة واحدة رديئة، حين احتضنتها بعض الدول، وما زالت، واتخذت منها سهامًا تهدد بها وحدة وتماسك مجتمعاتها الأصلية، وهو الأمر الذى حدث بالتوازى مع استخدم الإرهاب كإحدى الأدوات الفاعلة فى السياسة الدولية فى عهد النظام العالمى الأحادى بزعامة الولايات المتحدة، بعد انهيار الاتحاد السوفيتى السابق فى مطلع التسعينيات من القرن الماضى.

ألا تدفعنا مثل هذه الأحداث المتكررة إلى مراجعة خطواتنا فى ملف تجديد الخطاب الدينى، وسُبل نشر صحيح مبادئ الدين الإسلامى الحنيف. ألا نكتفى بهذا القدر من الفتاوى المتعلقة بغرائب ما لها أى مبرر لتحتل أولوية فى اهتمامات الناس؟! ألا يكفينا كل الوقت الذى أضعناه فى فتاوى بعينها على مدى عشرات السنين، وهى لا تعبر إلا عن فراغ فكرى يشغل مجتمعاتنا الإسلامية، منها على سبيل المثال الفتاوى المتعلقة بمدى شرعية فوائد البنوك التى تربت أجيال وهى تُطالعها دون أى تغيير!، ودون أن تتحول إلى ثقافة عامة راسخة!. ناهيك عن طول الجلباب، وإباحة تناول لحوم الجن، وإرضاع الكبير، ومضاجعة الوداع، ونكاح الزوجة المتوفاة، وغير ذلك من الفتاوى التى تخدش الحياء، وتُفسد الذوق العام، وتُضحك غيرنا علينا، وتُهيل التراب على كل نواحى العلم فى حياة المسلمين، والمثير للدهشة أن بعض أصحاب هذه الفتاوى الساذجة ينتمون إلى مؤسسات تحظى بكثير من الاحترام والتقدير، بل إن زملاء لهم منوط بهم تجديد الخطاب الديني!!

ـ أما بالنسبة لتصريحات الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، فقد انطلقت من ثقافته الغربية، ولم يحالفه التوفيق فيها، ثم إنه إلى حد كبير تراجع عنها، وأكد أنها أُخرجت من سياقها المقصود، وأكد أنه يتفهم مشاعر المسلمين تجاه الرسوم المٌسيئة للرسول، مُشددًا على أن حكومته لا تقف وراء هذه الرسوم، وإنما هى صادرة من صحف حرة ومستقلة وغير تابعة للحكومة الفرنسية. وواقع الأمر أن مثل هذه التصريحات التى حاول ماكرون التخفيف من تبعاتها خصمت الكثير من تقدير قدرته على صياغة خطاب مسؤول يعبر عن موقعه المهم فى القارة الأوربية، خاصة أن علاقات بلاده بالمسلمين بالغة القوة، اقتصاديًا وسياسيًا، بل إن بلاده تحتضن نحو ثمانية ملايين مسلم من أصل أكثر من خمسين مليون مسلم فى القارة الأوربية.

هى ازدواجية المعايير ولا أكثر، تلك التى ينظر بها الغرب إلى قضايا تتطلب حكمة غائبة، وإصرارًا تائهًا، وفهمًا مغلوطًا؛ لا يفضحه أكثر من وزير خارجية فنلندا حين قال: “لم أعد أفهم أى شىء، عندما نسخر من السود نسمى ذلك عنصرية، وعندما نسخر من اليهود نسمى ذلك معاداة للسامية، وعندما نسخر من النساء نسمى ذلك تمييزًا جنسيًا، وعندما نسخر من المسلمين نسمى ذلك حرية تعبير”.