الأربعاء 29 مايو 2024

القهاوي ... من تحريم القهوة إلي النضال ضد الاستعمار

6-11-2020 | 19:26

للمقاهي تاريخ طويل منذ مئات السنين ،شاهده علي احداث كثيرة ، ويرجع الاصل اللغوي للقهوة أنه مشتق من أصل حبشي ،عرفت فيه ثمرة القهوة كشراب منبه ، وقيل ان اللفظة تعود لاصل عربي ، وتعني ذلك المشروب الذي يمنع الاحساس بالجوع "اقهي" ، وقد عرفت المجالس التي يقدم فيها مشروب القهوة بالمقاهي او القهاوي ، وقد نقلها اليمنيون عن الاحباش الي مصر في القرن الخامس عشر ولم تكن بطبيعة الحال في صورتها الحالية ، وعليه يمكننا تعريف المقهي انها مكان يجلس فيه الناس ، ويشمل ركن لاعداد المشروبات وموقد ومقاعد ، وذلك يعبر عن علتها المادية والصورية اما علتها الفاعلة فهي متباينة تبعا لامرين ، اولهما الثقافة السائدة وثانيهما التطور التاريخي فلم تكن المقاهي في العصرين المملوكي والعثماني سوي مكان يتجمع في اصحاب الحرف والصنائع ليتسامروا فيه او يتفقوا مع شيوخهم فيما يخص امور المهنة وفنون الصنعة ، لذا نجد الاماكن الشعبية شاغلة بمقاهي النجارين والحدادين والنقاشين والفخرانية والساقين وغيرهم ، وكانت المقاهي تضم ايضا الغرباء الذين لا ماوي لهم في القاهرة والباحثين عن عمل ، وكذا الفتوات والمداحين ورواة السير  . وقد استحل الازهريون الجلوس عليها لتناول القرفة والزنجبيل ولاسيما المقاهي المجاورة لجامع الحسين والمتناثرة في احياء الغورية والموسكي وعليه تطورت العلة الفاعلة للمقهي واصبحت ملتقي للعوام والمعممين ومجالس التثقيف وتبادل الراي .


 وكان لكل مهمة في بيئة عمل المقهى عامل يختص بها، وكان كبير القهوجية يسمي القهوجي باشا وهو الذي يقدم المشروبات في المجالس الخاصة التي يمكن ان نطلق عليها مقاهي النخب ، والذي يتعامل مع الشيشة يسمى "التومباكشي" نسبةً إلى "التومباك" وهو نوع من التبغ كان مستخدماً قديمًا لكنه سقط بالتقادم من كافة المقاهي والأسواق، غير أنه لم يسقُط من اسم "القهوجي" المنوط بالشيشة ، أما "البارمان"، أو الرجل الجالس خلف "النصبة"، الذي يملك أسرار  جميع المشروبات، فهو "النصبجي" ، بينما "الجرار" هو المسؤول عن رفع الأكواب من على الطاولات بعد الانتهاء منها.


والغريب ان الـ"القهوة " ذاتها توقف عندها المشايخ كمشروب فاعتبروها حراما حينا من الزمن بداعي انها تغير حال الذهن اضافة لكون اسمها ذاته كان يطلقه العرب علي الخمر قديما ،واقتضي الامر من شاربي البن وبدعم من تجاره وجلابيه الي القيام بتمرد حاصروا خلاله المشايخ ممن افتوا بحرمه القهوة في مساجدهم لعدة ايام ، وكان تجار البن يدورون علي الساهرين منهم بجفان وفناجيل القهوة دون سكر لتشجيعهم وزيادة قدرتهم علي السهر حتي أقر المشايخ بإباحتها ، وتولد عن تلك الحكاية التي تتردد في كتب مؤرخي العصر الوسيط عادة شرب القهوة السادة في العزاء.


وضم كتاب "وصف مصر" الذى أعدته الحملة الفرنسية جزءا عن المقاهى فى زمن الحملة حيث يذكر الكتاب أن مدينة القاهرة كان بها حوالى 1200 مقهى بخلاف مقاهى مصر القديمة 500 مقهى فى بولاق ولا يوجد فى هذه المقاهى أثاثات على الإطلاق وليس بها ثمة مرايا أو ديكورات داخلية أو خارجية ولا يوجد سوى «دكك» مقاعد خشبية تشكل نوعا من المقاعد الدائرية بطول جدران المبنى ونجد ذلك فى يومنا هذا فى مقاهى القرى والنجوع بمصر.  كما اكدوا ان الاتراك هم الذين نقلوا صورة المقاهي المصرية الي الاستانة وليس العكس ، وان الانجليز والفرنسيين قد نقلوا ايضا صورة تلك المقاهي المصرية عن اليونانيين والايطاليين الذين كانوا يترددون عليها في شوارع القاهرة والاسكندرية ودمياط ورشيد والسويس .


ووصف المستشرق الإنجليزى "إدواردلين" المقاهى المصرية فى كتابه "المصريون المحدثون" وقال "لين" الذى زار القاهرة وعاش بها فى مطلع القرن التاسع عشر إن القاهرة بها أكثر من ألف مقهى والمقهى غرفة صغيرة ذات واجهة خشبية على شكل عقود تقوم على طول الواجهة ما عدا المدخل ويتردد على المقاهى أفراد الطبقة السفلى والتجار وتزدحم بهم عصرا ومساء وخاصة فى الأعياد الدينية.


لقد لعبت المقاهي دورا كبيرا في تثقيف الراي العام الامر الذي جعل منها احد منابر التوعية والارشاد التي تنطلق منها الدعوات وتتأسس فيها الجماعات وتعقد فيها الاحزاب وتلقي فيها الخطب وتشتعل من جنباتها الثورات والانتفاضات، وخرجت المقاهي من دائرة تجمع لشرب القهوة والشاي الي ساحة للتظاهر والنضال والتثقيف ليفوح منها عبق التاريخ، ، ووسيلة لتوجيه العامة وتعبئة المواطنين .


وأكتسبت بعض المقاهي قيمتها التاريخية من شهرة مرتاديها في مجالات الفن والأدب والسياسة. فقد شهد مقهى "متاتيا" الخطاب الأول للمصلح الأكبر جمال الدين الأفغاني وفيه جرى تأسيس أول حزب مصري، "الحزب الوطني الحر"، وارتاده الشيخ محمد عبده وسعد زغلول وعبد الله النديم وأحمد شوقي وعباس العقاد والمازني ، وكان مقهى (جروبى) بميدان طلعت حرب ملتقى للأدباء والسياسيين وكذلك أبناء الطبقة الأرستقراطية الذين تعلموا في أوربا، كما شهد مقهى ( ريش ) الكائن في طلعت حرب بوسط البلد كثيرًا من السجالات السياسية، حيث تم اكتشاف مطبعة سرية لتنظيم (1919).


وكما احتضنت قهوة متاتيا رواد السياسة الذين خططوا للثورة العرابية، فقد كان مقهى "الفيشاوي" الواقع في الحسين، ملتقى رواد الفن والثقافة مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده. واستعان هذا المقهى الذي يعود تاريخ إنشائه إلى عام 1797، بكوكبة من العازفين على الناي والعود لإمتاع الرواد بالموسيقى العربية الأصيلة، فضلاً عن أنه كان معقل الأدباء والشعراء والفنانين والمثقفين، أمثال نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس ويوسف السباعي ويوسف إدريس... والفنانين مثل كمال الشناوي وعزت العلايلي وكمال الطويل ومحمد الموجي والمطرب محمد عبد المطلب والمنشد الديني الشيخ محمد الكحلاوي. وقد زاره الرئيسان الجزائري عبد العزيز بوتفليقة واليمني علي عبد الله صالح.


بالقرب من مقهى الفيشاوي في الحسين، يقع مقهى "الزهراء" الذي أطلق عليه مجازاً "قهوة المشايخ" نسبة إلى مرتاديه من القراء والمنشدين المبتهلين أمثال النقشبندي ونصر الدين طوبار والشيخ محمود طنطاوي وتلميذه الشيخ المعصراوي وتوفيق عبد الحكم، حسبما قال المهندس عبد الرؤوف حسين، 53 عاماً، مدير المقهى، مضيفاً أن المقهى أنشئ في ثلاثينيات القرن الماضي.


ويعتبر مقهى "الحرية" الذي أنشئ عام 1936 مكان منزل الزعيم أحمد عرابي في شارع البستان في باب اللوق، أحد المقاهي التي اتخذت من أجوائها اسماً لها، إذ كان مكاناً يجمع كل أبناء الطبقات من الخاصة والمشاهير والعامة.


كان مقهى ريش الواقع في شارع طلعت حرب في وسط البلد، ويعود تاريخ إنشائه إلى عام 1908، شاهداً على أن دور المقاهي لم يقتصر على التوجيه والتنظير فقط، بل تعداهما إلى تفجير ثورة 1919 حين كان ملتقى زعمائها، كما تؤكد الوثائق التاريخية التي عثر عليها الورثة أثناء ترميم المقهى من آثار زلزال 1992.


وفي شارع متفرع من رمسيس تشدو "الست" في مقهى "أم كلثوم" صباحاً ومساءً بروائعها الجميلة. وفيه ستجد لوحة سجل عليها تاريخ أم كلثوم وأشهر أغانيها والمحطات المهمة في حياتها، ولوحة جدارية لها وهي تمسك بمنديلها الوردي. وهناك أيضاً ركن لصورها النادرة مع أقطاب الفن أمثال فريد الأطرش وصباح وفيروز وعبد الحليم حافظ ومحمد عبد الوهاب.


ومن المقاهي الحديثة التي لعبت دوراً بارزاً في ثورة 25 يناير، "مقهى البورصة" ، وكان معقلاً للشباب والمثقفين والحركات الثورية والاشتراكية، وكان عبارة عن مجموعة من المقاهي المجاورة لمبنى البورصة المصرية في وسط البلد، وتمتد حتى ميدان التحرير. ومن المقاهي الجديدة في وسط البلد مقهى "التكعيبة" الذي استطاع جذب فئة معينة من الرواد مثل المخرجين والفنانين التشكيليين الذين يرتادونه بسبب موقعه القريب من قاعات الفن التشكيلي .