السبت 18 مايو 2024

مر الكلام .. أستاذ محفوظ عبد الرحمن.. سلامتك

6-11-2020 | 21:27

من زمن بعيد تقابلت مع ممدوح عبدالرحمن، صحفى كبير موهوب يعمل فى وكالة أنباء الشرق الأوسط وصاحب مكتب فى وسط البلد، وكنا صحفيين من الشارع، وعرض علينا أن يشترى موضوعات، وكان بصحبتى ثلاث صحفيات مجتهدات، أتذكر منهن الأستاذة انتصار دردير رئيس تحرير أخبار النجوم والأستاذة أمينة الشريف رئيس تحرير الكواكب، فى الأسبوع الأول رحنا للأستاذ ممدوح وقدمت كل صحفية من البنات موضوعين أو ثلاثة وأنا أتفرج، وفى الأسبوع الثانى تكرر المشهد، وفى الأسبوع الثالث لمحت أن الأستاذ ممدوح يكاد يضربني لأننى لم أقدم ولا ورقة.

بعدها كتبت موضوعات ثلاثة وتسللت فى غير مواعيده وتركتهم عند السكرتيرة ورحلت، بعدها بيومين اتصل وقال: "تعال". ذهبت واجما وأنا خائف أن يوبخنى، لكنه قال إنه معجب بالموضوعات وبطريقة الكتابة وبعد محادثات قليلة قال: "لا.. نحن يجب أن نكون أصدقاء.. ليس مهما أن تعمل معى أو لا تعمل.. المهم أن تسهر لتتحدث معى ونتكلم.. ولو أردت فلوس سأعطيك"

كان الأستاذ ممدوح متعاقد بشكل شخصى جدا مع الجارالله رئيس تحرير السياسة الكويتية.

أيامها كنا نجلس ليلا فى البالكون فى شقة باب اللوق عندما طرق بابنا فى الثانية عشرة ليلا أجنبى غريب قال: "أنا مولود فى هذا المكان وسوف أكون ممنونا لو سمحت لى برؤيته من الداخل"، سألت الأستاذ ممدوح فقال: "لا مانع" وجاء الزائر الغريب ومعه زوجته وابنته الصغيرة وطاف بالشقة غرفة غرفة ووقف بالبالكونات وأطل على الشوارع وكلما دخل غرفة تحتضنه زوجته ويبكي، وفى النهاية غادرنا على باب الشقة وهو يلهج بالشكر وقال إنه حكى لزوجته وابنته عن أيام طفولته فى مصر بتلك الشقة.

قبل أن ينزل السلم عاد وقال إنه يرفض أن يخدعنا وهو يهودى مصرى يعيش فى إسرائيل.

وتركنا مذهولين.

آخر مرة تقابلت مع الأستاذ ممدوح – رحمه الله – كانت فى افتتاح مهرجان القاهرة السينمائى، تحدث معى طويلا وقال إنه مريض جدا، وربما سيموت خلال أيام كان مصابا بحالة متأخرة من دوالى المريء. وأجبته كالأبله: "لا.. لا بد أن تتعالج.. وتشفى.. "كان فى الخمسينات ولم أكن أدرك أن بعض أمراض الدنيا بلا علاج وأن البعض قادر على مواجهة الموت بشجاعة.

كنت دائما أتذكر وجهه وملامحه النبيلة. ويزداد الألم عندما أرى شقيقه الموهوب الأستاذ محفوظ عبدالرحمن، وكنت لا أعرفه وكلما أتقابل معه أقول فى بلاهة: "أنا صديق الأستاذ ممدوح" فينظر نحوى فى حذر معتقدا أننى مجنون. 

تكرر هذا كثيرا إلى أن تقابلت معه فى انتخابات جمعية النقاد وأعطيته نسخة من المجموعة القصصية "البابا مات" ورددت همهمة عن صداقتى بالأستاذ ممدوح ونسيت ما جرى.

بعد ستة أشهر دق الهاتف فى الساعة الواحدة والنصف ليلا وقال المتصل أنا محفوظ عبدالرحمن، قلت: "أهلا" قال: "أريد أن أعرف منذ متى وأنا أخذت منك تلك المصيبة التى قرأتها ثلاث مرات وحرمتنى من النوم؟" قلت منذ ستة أشهر تقريبا. قال: "أنا ألقيتها بجوار المكتب فعلا". وقال: "هل سبق أن التقيت معك؟" فقلت على الفور: "أنا كنت صديق الأستاذ ممدوح". فقهقه ضاحكا وهو يقول: "تذكرتك.. تذكرتك.. أنت الذى كنت أعتقد أنه مجنون".

حكيت له عن ممدوح وشعورى بالوحشة لافتقاده فأوقفنى قائلا رحمه الله: "دعك من هذا الكلام نحن لابد أن نكون أصدقاء ودعنى أحدثك عن هذه المجموعة الصاخبة" وأسمعنى كلاما أصبحت بعده قادرا على الطيران.

هذا هو محفوظ عبدالرحمن الإنسان الذي صار بعدها يتابع كل إصدارات مركز التراث وما أكتب وأسعد بدعواته الكريمة فى بيته، وما أجمل الدنيا عندما تتعامل مع موهوب.

محفوظ عبدالرحمن الآن بين يدي الله نطلب له الرحمة والمغفرة وأن يهبه الله الصحة ليعود بيننا وفى النهاية هو بين يدي أرحم الراحمين.

على جهاز التنفس الصناعى. لا ينطق ولا يرى أحدًا. وغير مسموح بزيارته. وكل ما فى استطاعتنا أن نراه من بعيد.

لكنه سيظل فى قلوبنا. بإطلالته الرقيقة. وعكازه, وملامحه الطيبة. وسرحان عقله عندما يسمع منك ما يهمه ويبتسم.

محفوظ عبدالرحمن أسعد الناس جميعا ببوابة الحلوانى ومسلسل أم كلثوم وناصر 56 وغيرهم من عشرات المسلسلات والمسرحيات والمجموعات القصصية والروايات.

لكنه يظل ندبة فى القلب، لأنه كان صديقى، مثل شقيقه ممدوح، ويرتاح معى عندما يفضفض بكواليس أعماله الخالدة. والمسكوت عنه فى حياتنا. فيقول إن أم كلثوم كانت بخيلة وتزوجت من عشرة وإن شقيقتها هددته بالقتل. ونتناقش فى قيمة عبدالناصر وتقييم حياته. وزمن المماليك وما جرى على المصريين من مظالم.

كان يتمنى أن يكتب مسلسلا عن سعد زغلول ويردد فى حسرة أن خطوطا حمراء كثيرة منعته، فقد اعترف الزعيم بنبل الكبار حين قال: "أنا كنت بالعب قمار وزوجتى كانت تتشاجر معى".

خشيت أن أكتب هذا فيفهمه الناس بطريق الخطأ.

كان محفوظ يرى أنه لا أمل فى مصر إلا بالتعليم. وأن التعليم قبل التنمية والإنتاج. وكان معلما واسع الأفق. ترتاح عند رؤية عينيه. وهو يتحدث عن خبث نجيب محفوظ وحماقة يوسف أدريس. وجنون نجيب سرور. ليرسم أمام عينيك صورا حقيقية من البشر وهم يصنعون المجد بعيدا عن الافتعالات وصنع الأصنام.

بعض الناس فى حياتى غابوا، لكننى أتعامل معهم وكأنهم مازالوا على قيد الحياة. لأننى لا أقدر على تحمل فكرة غيابهم.

يوجع القلب كثيرا أن أفتقد لسماع صوت صديق مثل هذا.

لكننى لا أمتلك إلا أن أردد: 

"أستاذ محفوظ سلامتك".