الجمعة 27 سبتمبر 2024

مراد حسن عباس يكتب: شعراء سكندريون (1)

فن7-11-2020 | 16:21

في زمن ما كان الشعر يتسكع في الطرقات ويمتدح والسوقة والدهماء والملوك؛ في زمن ما كان الشعر يقتات على كل الموائد؛ ويأكل الخبز بالجبن؛ في زمن ما كان الشاعر مطربا شعبيا وظيفته أن يطرب السلطان؛ وكان يرتدي ثياب المهرج ويضحك القادة أو يتغنى بانتصاراتهم الزائفة؛ وهناك في هذا الزمان كنا نجد الشعراء يتوزعون بين الذات والآخرين؛ ومن لا يطرب الآخرين؛ ومن يقف شامخا بشعره يعيد بناء الحياة؛ ويحدث أصحابه عن سرها المكنون؛ وينحت تمثاله من رخام الكلام.

هذا الزمان هنا؛ هذا الزمان الآن.

كان يمكن أن يكون حديثي عن شعراء الإسكندرية حديثا تاريخيا يرصد الشعراء؛ ويسرد أخبارهم ثم يتخير شيئا من أشعارهم في المديح "وإن اختلفت ألوانه" والرثاء والهجاء؛ ولكنني أردت أن أقف على النموذج الإنساني في شعر بعض شعراء الإسكندرية؛ والنموذج الإنساني فكرة ملحة أو حالة مفردة من حالات النفس البشرية وهذه الحالة لا تقبل نقيضها؛ وهذه الحالة سبب تشكل الشعر؛ وسبب مأساة صاحبها؛ وإذا أردنا أن نضرب مثلا على هذه الحالة الإنسانية لتخيرنا "هاملت" و"عطيل" إنهما يمثلان شخصيتين متناقضتين تماما؛ أولهما يمثل الشك والتردد؛ والآخر يمثل اليقين والتهور؛ ففي حين يظهر شبح الأب لهاملت ليقول له إن عمك هو الذي قتلني بالاشتراك مع أمك بأن وضع السم في أذني؛ وقد فعلا ذلك للاستيلاء على ملكي وملكك؛ ظل هاملت مترددا في الأخذ بالثأر؛ وبالتالي استمر في مأساته؛ وفي المقابل حين قيل لعطيل إن ديدمونة قد خانتك قتلها؛ ثم اكتشف أنها لم تخن؛ وبالتالي استمر عطيل في مأساته. وإذا أردنا أن نتبين الفرق بينهما فلنضع عطيل مكان هاملت وهاملت مكان عطيل ولنفرض أن الشبح قد ظهر لعطيل وقال له إن الذي قتلني عمك؛ فإننا لن نجد من عطيل ترددا في قتل العم والاستيلاء على العرش وبالتالي تنتهي المأساة؛ وفي المقابل حين يقال لهاملت إن ديدمونة قد خانتك فسوف يتردد في قتلها حتى يكتشف أنها لم تخن؛ وبالتالي تنتهي المأساة أيضا؛ إن مأساة هؤلاء أن الصفة الإنسانية المركبة فيهم وضعتها الظروف حيث تكون أفعالهم موجهة إليهم؛ أو إلى أن يطعنوا أنفسهم بصفة مركبة في شخصياتهم؛ هكذا تتشكل المأساة ببساطة مقولة سفوكليس الأولى "إن ما يحيط بالإنسان أقوى من الإنسان".

وهكذا تتشكل مأساة الشاعر في عصرنا أيضا؛ فالشاعر كما يقول شيلي لديه "شهوة إصلاح العالم"؛ إنه نصف نبي؛ لذا يظل يتغنى بأفكاره الملحة فإما أن تغلبه هذه الأفكار الملحة فيعيش في عالم من صنعه؛ أو أن يغلب هذه الفكرة فيتعايش مع الواقع؛ وإما أن يظل موزعا بينهما إلى أبد الآبدين.

هكذا نستطيع أن ندلف إلى شعراء الإسكندرية من خلال قصيدة واحدة لكل شاعر تتمثل فيها حالة إنسانية عاش من أجلها الشاعر.


القربان 

قراءة في ديوان قرابين للشاعر عبد المنعم الأنصاري "1929 – 1990"

ارتبط تاريخ الإنسان بالتقرب من الآلهة في صورة تقديم القرابين؛ تلك القرابين التي تنزل الغيث وتنبت الرزع وتشفي المرضى؛ ومن عجب أن الإنسان اهتدى إلى الطريقة التي يقدم بها القربان فيكون سببًا في تحقيق الهدف الذي من أجله قدمه؛ هكذا نستطيع أن ننظر إلى قول أمية بن أبي الصلت:

ويسوقون باقر السهل للطو          د مهــازيل خشــية أن تبــورا.

عاقدين النيران في بكر الأذ          ناب منها، لكي تهيج النحورا.

وفي ذلك يقول صاحب نهاية الأرب:

"كانت الجاهلية الأولى ، إذا تتابعت عليهم الأزمات، واشتد الجدب، واحتاجوا إلى الأمطار. يجمعون لها بقراً، في أذنابها وعراقيبها السلع والعشر، ويصعدون بها إلى جبل وعر، ويشعلون فيها النار، ويضجون بالدعاء والتضرع. وكانوا يرون ذلك من الأسباب المتوصل بها إلى نزول الغيث."

ولا شك أننا كنا نتصور أن هذه الطريقة لا تؤتي ثمارها؛ ولا تفلح في إنزال المطر؛ ولكن الشاعر وغيره يؤكدون أنها كانت صالحة لهذا الغرض في كل مرة؛ وفي الواقع فإن هؤلاء في اللحظة التي يظنون فيها أنهم قريبون من الآلهة في السماء يكونون قريبين من السحاب الذي "يثقل" بفعل احتراق هذه الأبقار "أصوافها وجلودها" وما تثيره من الرمال؛ فيبدأ هذا السحاب بالتكثيف؛ ويبدأ في إنزال المطر؛ ذلك مانسميه اليوم بالمطر الصناعي حين نحقن السحاب بنترات الفضة فيثقل ويبدأ في التكثيف؛ ففي اللحظة التي يظن هؤلاء أن الآلهة قد رضت عنهم وقدمت لهم الماء يكونون قد قاموا بطقس بدائي من شأنه أن يكون سببا في ذلك.

ويعود الشاعر الحديث إلى "القرابين"؛ ليستكمل مسيرة الأجداد؛ لكنه اليوم يعي أن نتاج القرابين محصلة ما تقدم يده، يقول الأنصاري:

أسعى إليك وقدامي قرابيني… على طريق إلى مغناك يدنيني

لكنني كلــما أفلـت من شبح…  يلوح لي شبح أعتى فيقصيني

فالشاعر يقدم لقصيدته بما هو أشبه بالحكايا الخرافية؛ حين يحاول البطل أن يصل إلى مبتغاه لكنه يقابل في طريقه الأهوال والأشباح.

ثم يتهيأ الشاعر ليصف حاله التي تحتم عليه أن يجد في مسعاه؛ وأن يصل إلى ما يريد؛ يقول:

جوعان.. من لي سواك الآن يطعمني  … ظمآن من لي سواك الآن يسقيني

وليـــــس إلا إزار منـــــك يســـترني …   إذا ريـــاح الأسى هبــت تعريني

هذه حال الشاعر التي قد تفضي به إلى طريق من طريقين في هذه الرحلة المهيبة إما طريق السلامة أو طريق الندامة أو طريق الموت (ذلك الطريق الذي لا رجعة منه)؛ وكل تلك الطرق كانت أمامه في هذه الرحلة؛ وربما تحير الشاعر في سلوك الطريق السليم؛ وربما ركن حينا من الدهر إلى طريق الندامة؛ لكنه لم يكن في سلام مع نفسه في تلك الطريق التي لا تهب له العصمة من أمواج الروح المتلهفة إلى الحق

ثم انتهيت بأحزاني إلى جبل … وليس يعصمني مما يلاقيني

حين ارتحلت وأغوتني شياطين … وكاد جوعي إلى نعماك يرديني

أكلت من خبز أعدائي فأورثني … جبن العبيد وإقدام المجانين

ورحت أختال في قيدي ويلعنني … والعار ينشرني جهرا ويطويني

حتى هتفت وأوزاري على كتفي … من أي منعطف يا موت تأتيني؟

في غربة الروح لا يتمتع الجسد؛ في غربة الروح حين يأكل المرء من خبز أعدائه يفقد العقل صوابه؛ ويقع الإنسان في جبن العبودية.

الشاعر هنا يقدم نفسه في صورة "دوريان جراي" ذلك الشخص الذي باع نفسه للشيطان؛ والذي كلما ظهر أجمل وأبهى في نظر الناس لما يتمتع به من هيئة جميلة في الثياب والمظهر والجاه والثراء العريض؛ كلما ظهر في عين مرآته أقبح؛ ورأى نفسه مشوها قبيحا؛ لأنه يعلم أن مظاهر الجاه هذه التي يتمتع بها الجسد كانت على حساب بيع روحه للشيطان؛ وهو يعلم أن مظاهر الجاه هذه هي القيد الذي يحبس روحه فهو "يختال في قيده" والقيد يلعنه؛ وهو أيضا يلعن قيده؛ حين تغترب الروح يفقد الإنسان السلام مع نفسه؛ ولذا يعود الشاعر ليطلب الطريق الذي آن له أن يسلكه .

أفديك يا حق .. لكن من سيفديني  … من قاتلي حين يأتي من سيحميني؟

في تجربة "فاوست" الذي يبيع نفسه للشيطان؛ لا يمكن الرجوع عن طريق الزيف؛ شهوة الجسد في مقابل بيع الروح إلى الأبد؛ والرجوع عن هذا العهد الذي لا يكتب إلا بالدم ليس له إلا الموت؛ إذن يفكر الشاعر في العودة إلى طريق الحق ليفتديه بنفسه؛ ولا أحد سيفتدي الشاعر من الموت المحقق في هذا الطريق؛ والخصم في هذه الحالة ذلك المجتمع الذي يتواطأ على المباهاة بالذل؛ حين يقف "شخص ضد العالم" كما يقول "ألبير كامو" عليه أن يتحمل نتائج هذه التضحية؛ إنه في حد ذاته "القربان" الذي يقدم من أجل تخليص هذا المجتمع من شروره وآثامه.

من حقكم أن تغالوا في مباذيكم   … وتفرحوا بقيود الذل والهون

من حقكم –لو أردتم– بيع أنفسكم … لمن تشاؤون هذا ليس يعنيني

لكن إذا عربدت في الأفق ملحمتي … وفجرت حولكم صمت البراكين

فليس من حقكم أن تقطعوا شفتي … وتمسحوا بتراب الأرض عرنيني

يتحسب الشاعر لهذه اللحظة التي يخرج فيها عن زيف مجتمعه الذي يبيع نفسه؛ ويسير متباهيا في قيود الذل؛ وثياب العار؛ تلك اللحظة التي تعري فيها ملحمة الكلمة جسد هذا المجتمع القميء؛ التي يتحول فيها الشاعر نفسه "بطل الملحمة" إلى قربان يقدمه المجتمع ليستر مباذيه. وفي هذه اللحظة على الشاعر أن يسير إلى نهايته المحتومة دون أن يفكر فيما إذا كان هذا القربان سيكون نجاة للآخرين من عدمه؛ فحسبه أنه قدم نفسه؛ وألقى الحجر في المياه الساكنة؛ وحاول أن يسرق شعاع الطهر من أجل هذا المجتمع.

تشابه الدرب في عيني دليني … فومضة من جبين الطهر تكفيني

حتى أميز ما بين الصقور وما … بين البغاث وبين الضعف واللين

وأستشف الذي وارته أقنعة … وما وراء احتراق النور في الطين

وأستعيدك من قاع المنون فإن … لم تستجيبي لصوتي .. لا تلوميني

رحم الله الأنصاري؛ فقد كان مخلصا لفنه؛ فارسا من فرسان القصيدة العمودية التي أخلص لها؛ وأخصلت له.