على عكس الفيلم السينمائي نجد المؤلف في رواية "الأرض" أعطى لكل شخصية من شخصيات الرواية مساحتها الكاملة لتعبر عمّا بها من شجون، أحزان وأفراح، وأن تكشف عمّا بداخلها من مخاوف وأمنيات. لتكشف عمّا تصبو نفسها إليه.
حيث نجح عبد الرحمن الشرقاوي، في عرض الهواجس داخل كل شخصية، وموقفها تجاه مجتمعها المتمثل في القرية، سواء من خلال حكي الراوي عن كل تفاصيلها الشخصية، مميزاتها وعيوبها، أو من خلال أفعال الشخصية وردودها خلال الحوار والذي يكشف عن حالتها التنافسية وصراعاتها الداخلية، والتي تتباين من موقف لأخر.
فمن خلال تواتر السرد تتكشف جوانب الشخصيات مع المواقف المختلفة، وهو الأمر الذي اختلف بعض الشيء في الفيلم السينمائي، الذي قدم الشخصيات أحادية الجانب لا سيما الشخصيات الرئيسية.
ومن هذه الشخصيات نستعرض شخصيتي "وصيفة وخضرة" وحُكم الظرف الإجتماعي:
عُرف عن وصيفة جرأتها، فهي ابنة محمد أبو سويلم شيخ الغفر -وهي الوظيفة التي لم يذكرها الفيلم"، أو ربما تجاهلها يوسف شاهين مخرج الفيلم عامدًا- الفتاة التي لا يقو أحد على المساس بها ولو بمجرد كلمة، وكانت معتدة بنفسها إلى أبعد الحدود لا تقبل تجاوزًا من أحد، فهي الوحيدة دون بنات القرية التي كانت تخرج لملء الجرة مرتدية الجلباب الملون، فمنذ أن عادت من بيت أختها في البندر والقرية ليس لها حديث غيرها، فهي الفتاة الفائرة الغضة الجميلة التي يتطلع إليها الجميع ويصبوا إليها الكبير قبل الصغير، حتى أنها باتت مضرب مثل في القرية في الجمال والاعتداد بالنفس.
"وصيفة" من لقنت "علواني العرباوي" درسًا حينما استوقفها وهي عائدة من ملء الجرة وحاول أن يستقطب معها أطراف الحديث ويعطيها بطيخة من الحقل الذي يقوم على حراسته، فلقنته درسًا انبهرت له فتيات القرية جميعهن، وبعد ساعات أصبحت قصة وصيفة وعلواني على لسان فتيات القرية وأطفالها حتى أصبحوا يتندرون فيما بينهم بالموقف بقولهم: "دي يعني ولا بطيخة علواني!"، إلا أن الفيلم لم يُقدم هذه التفاصيل كاملة عن الواقعة، عرض عليها علواني "قرع العسل"، وحاول استقطابها في الحقل، إلا أنهما كانا وحيدين، وضربته بها على رأسه وانصرفت.
بينما كانت "خضرة" على الجانب الأخر تمامًا من وصيفة فهي لا عائل ولا أهل لها، توفي والدها، ورحلت اختها إلى البندر وفتحت هناك كازينو، بينما هي تعيش في القرية تبيع نفسها لمن يشتري، وهو ما لم يذكره الفيلم السينمائي، كانت خضرة "ترقص في الأفراح، وكانت تعرض نفسها بأثمان مختلفة، فمثلًا في الموالد والأفراح، ومواسم الذرة والقصب والأعياد والقطن يكون الثمن قطعة من الملبن أو كف من الحلاوة السمسمية، أو ربما بكيزان خضراء من الذرة وأعواد القصب"، وهذا يحدث على مرأى ومسمع من أهل القرية إلا أن أحدًا منهم لم يحاول أن يمد لها يد العون.
ومع ذلك لم يقدر أحد على إيقافها عمّا تقوم به، وهذه صورة للمجتمع المتخاذل الذي يرى من يحتاج للمساعدة ولا يقدمها له، إن قُدمت المساعدة فتُقدم من أجل المقابل وهو استغلال جسدها، وعلى الرغم من ذلك كانت خضرة الصديقة المقربة من وصيفة التي كانت تمتلك من الجرأة ما لا تمتلكه وصيفة،أي أنها لم تدعي الفضيلة وهي غارقة في أحضان شباب القرية، وهنا لا نشير إلى أن ما كانت تقوم به خضرة أمر إيجابي ولكنه على كل حال يبين مدى اتساق الفتاة وأنها لا تقول أو تتصرف عكس ما تفعل وهو أمر نادر سواء في هذه الفترة الزمنية أو في وقتنا المعاصر، حتى أن وصيفة أبنة محمد أبو سويلم التي تبدو للجميع قوية ومعتدة بنفسها قبلت أن تخرج ليلًا مع الراوي إلى الساقية وكانت على استعداد أن تبيعه نفسها، أو جزءًا من جسدها مقابل قطعة فضة.
وهنا يظهر التناقض بين الشخصيتين، إلا أن ما كانت تقوم به وصيفة لم يمنعها من الاعتداد بنفسها، فحينما سألها الراوي هل تخاف من العودة من ناحية الساقية وحدها ليلًا ردت باستخفاف: "هوه فيه حد في البلد دي يقدر يهوب ناحيتي؟ دانا بنت وراجل كمان يا جدع! هو يعني علشان محمد أبو سويلم ما اترفد من مشيخة الغفر تقوم الطير تأكل لحمه.. يا أخي لا" وهو أيضًا ما يبين أن الفتاة تفعل ما يحلو لها، فهي تصد من تراه غير مناسب لها، وتقرب التقرب ممن تجده مناسبًا، فالمسألة هنا ليست مسألة أخلاق وإنما مسألة هوى النفس ورغبتها، كأي فتاة تعتبر تعرض رجل غير مناسب لها تحرشًا، بينما تعتبر من يروق لها مغازلًا.
هذه التفاصيل الغنية التي ذكرتها الرواية لم تُقدم في الفيلم إلا تلميحًا، فنجد مثلا خضرة تقبل أن تذهب إلى علوان في الحقل مقابل "زر" خيار، لأنها بطبيعة الحال كانت شخصية ثانوية في الفيلم ولم تكن ذات دور رئيسي لتفرد لها المساحة ويسلط المخرج الضوء على حياتها بشكل كامل وهذا هو الفارق بين العمل الأدبي والعمل السينمائي، فالعمم الأدبي مستغرق في التفاصيل، بينما الفيلم السينمائي يقدم لمحة أو مشهد يبرز من خلاله جميع جوانب الشخصية ويكون هذا المشهد كفيل بأن يُعطي المشاهد إنطباعًا عن هذه الشخصية.