فاز بايدن
بالسباق الرئاسى الأمريكى؛ وبقيت ثوابت اللاستراتيجية الأمريكية قائمة آمنة تحوطها
مؤسسية الدولة الأمريكية المُحكمة، وتحميها دوائر صناعة القرار الأمريكية من أى
هجمات عشوائية يمكن أن تميل بها بعيدًا عن المصالح الأمريكية العليا.
من هنا يجدر بنا
الخوض فى طيات الاستراتيجية الأمريكية، قبل استشراف السياسات الأمريكية المُقبلة
والتى سيقودها الرئيس الجديد للولايات المتحدة الأمريكية، حفاظًا على تقدم بلاده
فى صدارة النظام العالمى كقوة مُهيمنة.
نعود إلى الفترة ما بين عامى 1922 ـ 1991 حيث انهار
الاتحاد السوفيتى إثر إصابته بضربات متتالية من الداخل والخارج. تاركًا إرثًا
ضخمًا، ملأ الدنيا، وامتد إلى الفضاء، مناصفة مع غريمه القطب العالمى الآخر الولايات
المتحدة الأمريكية، التى أعلنت فوزها فى الحرب الباردة، وتحولت بالنظام العالمى من
الثنائية إلى الأحادية القطبية.
وقد فرضت الأحادية القطبية شروطها على المجتمع الدولى
المرهق جراء ما حفلت به الحرب الباردة من حروب بالوكالة، واستقطاب شاق، وتنازع
مُسلح على النفوذ لا يحترم الحقوق المشروعة للشعوب فى الحياة الآمنة. حتى إن
تغيرًا واضحًا نال من الأجندة الأممية؛ فباتت أولويات المنظمة الأم، الأمم
المتحدة، تكاد تنحصر فى قضايا اجتماعية واقتصادية بالأساس، على ما لها من امتدادات
سياسية مؤلمة احتكرها القطب الأوحد، فاعتلت الأولويات قضايا حرية التجارة ورؤوس
الأموال، ومكافحة الاتجار فى البشر، والسلاح، والمخدرات، فضلًا عن قضايا البيئة،
والتغيرات المناخية، والهجرة غير الشرعية. بينما احتجز القطب الأمريكى ملفات
النزاعات السياسية الساخنة، وقيد الخطوة الأممية عن التوغل فيها خارج نطاق النفوذ
الأمريكي، وبالطبع احتفظ بمذاقه العتيق، الذى يزداد مرارة مع الأيام، ملف الصراع
العربى ـ الإسرائيلي، ولم تعد الأمم المتحدة تملك فيه إلا تاريخًا يزخر بقرارات
خرجت تحت وطأة منافسات الحرب الباردة، وإن لم تجد طريقها نحو التطبيق، ما كان
مؤشرًا موضوعيًا على انحسار قدرة القطب السوفيتى فى مجرد تشويه “الفرح” الأمريكى
دون إلغائه. وتعسفت واشنطن فى زعامتها فلم تترك لحلفائها الأوربيين حق المشاركة فى
هذا الملف العتيق إلا فى جوانبه الاجتماعية والاقتصادية، دون أثر سياسى فاعل.
وبينما انشغلت الجمهوريات السوفيتية الـ 15 بتركة
الفقيد، الاتحاد السوفيتى، مارس الابن الأكبر “روسيا” ضغوطه فاستحوذ على نصيب
الأسد، فيما قنع كل وريث بما فى حيازته بالفعل، وراح محاولًا الهروب والتحلل من
قيود حديدية لطالما منعت الحركة باتجاه الغرب المتفوق المرفه، دارت فى الولايات
المتحدة مناقشات فكرية واستراتيجية جادة وعميقة، اشتركت فيها كافة دوائر عملية
صناعة القرار، الرسمية وغير الرسمية، استهدفت الإجابة عن فرضية بعينها، يمكن
إيجازها فى سؤال واحد: هل من الضرورى أن تظل الولايات المتحدة على قمة النظام
العالمى، أحادى القطبية، رغم الكُلفة العالية لذلك، أم تتراجع إلى داخل حدودها،
مكتفية بالهزيمة المنكرة التى ألحقتها بمنافسها التقليدى “الاتحاد السوفيتى”؟
وبرز رأى وجيه دعا إلى الانسحاب داخل الحدود، يحيطها
مانع مائى ضخم، ومن أمامها وخلفها حدائق سياسية غناء لا تثير ما يُقلق، تخفيفًا
للنفقات، وتحجيمًا لما تواجهه الولايات المتحدة من عداء ينال من أبنائها فى
الخارج، مع بقاء القدرة على التدخل لدرء أى خطر يهدد مصالحها العليا، ونوه أصحاب
هذا الرأى بالتدخل الأمريكى الفعال الذى أنهى حربين عالميتين، بعد أن كانت
الولايات المتحدة قد أكملت فى الداخل تفوقها الاقتصادى، الأمر الذى مكنها من إنقاذ
حلفائها الأوربيين بعد الدمار الذى لحق بهم جراء الحرب العالمية الثانية بمشروع
مارشال التاريخى.
غير أن الغلبة كانت للرؤية المتجهة إلى التمسك بزعامة
الولايات المتحدة للنظام العالمى؛ إذ رأى أصحابها، وكانوا أغلبية مؤثرة، أن فى ذلك
صيانة حتمية وتنمية واجبة للمصالح الأمريكية، بما يحقق عوائد تفوق الإنفاق الهائل
وتزايد العداء لها، واستند أصحاب هذا الرأى إلى أن قدرة الولايات المتحدة على
إنهاء الحربين العالميتين الأولى والثانية، يؤكد أن السلم والأمن العالميين فى
حاجة مُلحة لوجود أمريكى يقظ على الساحة الدولية، بل إن انسحاب أمريكا من الساحة
الدولية، قبل الحربين العالميتين، كان سببًا كافيًا لقيامهما..
وقد ارتكزت الاستراتيجية الأمريكية التى وضعت لتحقيق ذلك
الهدف على نظريتين: الأولى، التى أنتجها فى كتاب عالم السياسة الأمريكى والمفكر
المحافظ “صامويل هنتنجتون”، 1927 ـ 2008 “صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام
العالمي”، أكد فيها أن صراعات ما بعد الحرب الباردة لن تحدث بين الدول القومية لما
بينها من اختلافات سياسية وتنافس اقتصادى، ولكن ستحدث بين الحضارات بعضها البعض
لما بينها من اشتباكات ثقافية حادة وتنازع دينى عميق. واستند “هنتنجتون” إلى عدد
من الصراعات المسلحة تملأ فضاء العالم الإسلامى حينئذ، مثل الصراع السودانى بين
شمال مسلم وجنوب مسيحى، والصراع بين الهند وباكستان، بل داخل الهند ذاتها بين
المسلمين والهندوس، فضلًا عن مشكلات التركمان فى الصين، والمسلمين الأتراك فى
بلغاريا، وامتد فكر “هنتنجتون” فأشار إلى تنامى العنصرية فى ألمانيا وإيطاليا ضد
المهاجرين ذوى الأصول الإسلامية من شمال إفريقيا وتركيا. وعليه فقد أكد “هنتنجتون”
أن الصراع فى الحرب الباردة كان أيديولوجيًا بين “الرأسمالية” ومثلها المعسكر
الغربى بزعامة الولايات المتحدة، و”الشيوعية” التى اعتنقها المعسكر الشرقى بزعامة
الاتحاد السوفيتى، إلا أنه بانتهاء الحرب الباردة بفوز المعسكر الغربى فقد بات
الصراع حضاريًا وليس أمميًا، وله أوجه ثقافية ودينية بالأساس، وعليه فإن الإسلام
يشكل الخطر الحقيقى على الحضارة المسيحية.
والواقع أن نظرية “صامويل هنتنجتون” كانت قد بدأت بمقالة
صادمة نشرها الرجل عام 1993 بعنوان “صراع الحضارات”، نشرها فى مجلة “فورين آفيرز”،
وصل فيها إلى نفس النتيجة، “الحضارة الإسلامية هى أخطر الحضارات على الحضارة
المسيحية”. وقد قصد “هنتنجتون” بمقالته تفنيد أطروحة تلميذه عالم السياسة “فرانسيس
فوكوياما”، “الابن الوحيد لأبوين من أصول يابانية والمولود بمدينة شيكاغو
الأمريكية عام 1952 “نهاية التاريخ والإنسان الأخير”، والتى أنتجها فى كتاب عام 1992
بعد أن كانت هى الأخرى مقالًا نُشر عام 1989 فى مجلة ناشيونال انترست، وهى النظرية
الثانية التى استندت إليها الاستراتيجية الأمريكية للاحتفاظ بزعامة النظام
العالمى، إذ رأى “فوكوياما” أن صراع الأيديولوجيات يكاد يكون انتهى بنهاية الحرب
الباردة وتفوق الغرب بقواعده الفكرية، التى أسقطت سور برلين، عام 1989 كعلامة لا
تخيب عن زوال الشيوعية؛ ومن ثم فإن انتشار الديمقراطية الليبرالية وتفوق
الرأسمالية وفرض معطياتها على العالم يؤكد أن البشرية بلغت أعلى نقطة فى التقدم
والتطور السياسى والاقتصادى والاجتماعى؛ فما حققه الغرب يُعد منتهى التقدم الممكن
للبشرية، ولم يعد له حاجة إلى الحروب، التى ستظل وسيلة الدول المتخلفة والنامية
لحل نزاعاتها، والتى سيصدرون تداعياتها للغرب المتقدم. وعليه فقد بشرنا “فوكوياما”
بنهاية التاريخ كاتجاه لا كأحداث؛ إذ سيبقى التطور البشرى حتميًا طالما بقيت
البشرية، ولكنه سيبقى دائمًا وإلى نهاية التاريخ “باتجاه” الديمقراطية الليبرالية
بكافة أوجهها وتطبيقاتها، ولن يظهر اتجاه آخر يجذب البشرية إلى ما هو أفضل. إذ
تعجز الأيديولوجيات الأخرى عن منافسة الديمقراطية الليبرالية.
على ضوء هذه الخلفية، كان توصيف حركة الولايات المتحدة
الأمريكية على الساحة الدولية، فيما بعد انتهاء الحرب الباردة. إذ كانت
الاستراتيجية الأمريكية واقعًا لا مهرب منه أمام أى رئيس سواء من الجمهوريين أو من
الديمقراطيين، وترسخت فكرة حكم المؤسسات، من دون أن ينفى ذلك ما يتيحه الدستور
الأمريكى من صلاحيات كبيرة لمنصب الرئيس. فحكم المؤسسات يُلزم الرئيس أيًا كان بالاستراتيجية
الأمريكية، مع هامش حركة يقل أو يزيد وفق معطيات الظرف الراهن.
وإلى الأسبوع المُقبل نستكمل قراءتنا فى الاستراتيجية
الأمريكية وتطوراتها على ضوء كافة نتائج الانتخابات الأمريكية الأخيرة، وتداعياتها
على الساحة الدولية.