الإثنين 1 يوليو 2024

من التحرير حتى الفسطاط.. رحلة الملوك

11-11-2020 | 21:58

حكايات إنسانية ترويها رحلة ملوك مصر العظام التي سيقودهم فيها الملك رمسيس الثاني الأشهر والأقوى على الإطلاق.يرويها ناس مصر الطيبون.سطروا كل حرف فيها بعطر المحبة لبلادهم العظيمة ونهرها الخالد.حباهم الله بعطاياه التي لا تنضب والتي تتجدد عبر آلاف السنين.تبدأ من تلك القاعة القابعة في الطابق الأول من مبنى المتحف المصري بميدان التحرير وتنتهي عند مشارف مدينة عمرو بن العاص «الفسطاط» حيث المتحف القومي للحضارة وقاعاته المتشحة بالسواد.هناك سيستقرون ويهدأون بعد رحلة طويلة خاضوها عبر أكثر من 140 عاما من الأقصر حيث وادي الملوك وحتى القاهرة مستقرهم الأخير.

موكب مهيب مخطط له أن يسير ببطء بسرعة قد لا تتعدى الـ20 كم في الساعة.وسط أجواء جنائزية أشبه بمراسم وداع الملوك.يجوب شوارع القاهرة وفق طريق مرسوم بعناية فائقة.يعبرون ويحملون معهم الخير لأهالي المحروسة.تطوير وتجديد وتجميل.بل يجلبون معهم رياح التغيير نحو حياة أفضل.كشيمة الملوك تأتي الرياح محملة بالخيرات.فهاهو المتحف المصري بالتحرير يزدان وتعود إلى قاعاته الحياة بعد أن بلغ من العمر أكثر من 118 عاما.وبالرغم من رحيلهم عنه إلا أن الروح قد عادت لتتألق ببقية مقتنياته ليستمتع بها الزوار ببراح .وميدان التحرير يتحول إلى أحد أهم وأشهر ميادين العالم بعد أن طلت في قلبه مسلة الملك رمسيس الثاني وبدا في أزهى صوره.ثم تتوالى حكايات سور مجرى العيون الذي كان حلم الحفاظ عليه وتطويره مستحيل.لكن الحلم أصبح حقيقة وبدا كأن الزمن لم يترك على وجهه أيا من الدمار وبات متألقا ليكون في انتظار عبور الموكب المهيب.

وها هي حكايات بحيرة عين الصيرة تتردد من جديد بعدما تحولت إلى لونها الأزرق الرقراق تحلق فوقها الطيور من جديد.كل ذلك من أجل عيون موكب الملوك العظام.والذي من أجله قررت الدولة المصرية تغيير وجه الحياة عند كل نقطة ستلتقي معه.حيث سيسير الموكب المجهز بـ 22 عربة مصفحة .تقل كل عربة مومياء ملكية واحدة فقط.وتتصدرهم العجلات الحربية التي تجرها الخيول. ويرتدي قائد كل عجلة الزي المصري القديم كما بدا على جدران المعابد المصرية القديمة.يعبرون شوارع القاهرة من التحرير إلى مصر القديمة وكأنهم يلقون نظرة الوداع قبل أن يعاودوا نومتهم الأبدية داخل المتحف القومي للحضارة المصرية.

هناك حيث يتوقع أن يكون الرئيس عبد الفتاح السيسي على رأس المستقبلين.ليطمئن على وصولهم وبلوغهم مرقدهم الأخير الذي يليق بملوك مصر.سيتحقق بنفسه أنهم ينالون ما يستحقون من تكريم يليق بعظمة ملوك أقدم حضارات الإنسانية.لتتواصل بعدها الحكايات التي تستحق أن تروى ويسجل تفاصيلها تاريخ مصر المليئة بكل مفردات الحضارة الإنسانية.فهي ليست كغيرها من الرحلات الملكية.لكنها رحلة استغرقت آلاف السنين.

في عام 1902 فتح المتحف المصري أبوابه للمرة الأولى أمام عشاق الآثار المصرية.وقتها حمل لقب أجمل مبنى على مستوى العالم واعتباره الأول من نوعه كمتحف متخصص في عرض الآثار المصرية.وكان يحوى بين جنباته 100 قاعة عرض متحفي تحتضن 32 ألف قطعة بين مخزون ومعروض. وفي الثمانينات من القرن الماضي ارتفع عدد القطع ليصبح 160 ألف قطعة أثرية.كان من أهمها تلك القاعة التي تعرض مومياوات مصر الملكية التي تم اكتشافها في قلب البر الغربي ووادي الملوك بالأقصر.

المبنى الوردي الأثري يطل على ميدان من أهم ميادين مصر على مدار تاريخها الحديث.فهو بمثابة القلب منذ أن قرر الخديو إسماعيل بناء القاهرة الخديوية.ومن بعدها ظل ميدان التحرير شاهدا على كافة الأحداث التي غيرت وجه مصر.وهو أيضا سيكون شاهدا على عبور الموكب الملكي الملفوف بأعلام البلاد.تسير أمامه الخيول وسط أجواء موسيقية رصينة تتناسب مع هيبة وشموخ ملوك مصر.

وها هو يتجمل كي يبدو في أحلى صورة له ليليق بفخامة الملوك العابرين.واليوم اكتملت أعمال التطوير والتجديد التي خضع لها أشهر ميادين القاهرة ومصر كلها.حيث استمرت أعمال التجديد ورفع الكفاءة لمدة تزيد عن العام.مما تطلب التعاون الكامل بين عدد من الجهات الحكومية في مقدمتهم رئاسة مجلس الوزراء وزارات الإسكان متمثلة فى هيئة المجتمعات العمرانية والسياحة والآثار والثقافة وجهاز التنسيق الحضاري ومركز الحفاظ على التراث المعماري التابع لمحافظة القاهرة.

الأثرية صباح عبد الرازق مديرة المتحف المصري بالتحرير تكشف أن الموكب الملكي سيضم مومياوات ملوك ينتمون إلى عدد من الأسر المصرية القديمة منها مومياء الملك «سقنن رع» الذي ينتمي إلى الأسرة 17وبقايا أقدم مومياء ملكية والتي تخص الملك «أوناس» والتي لم يتبق منها سوى ذراعه اليسرى وجزء من المخ الخاص به والتي تم العثور عليها وسط رديم المقبرة الخاصة به عام 1880ومعهما مومياوات كل من الملك «أحمس» الأول,و»تحتمس» الأول والثاني والثالث والرابع ,»أمنحتب» الأول والثاني والثالث,»رمسيس « الثاني والثالث والرابع والخامس,السادس والتاسع,و»سيتي» الأول والثاني,»مرينبتاح» و «سيبتاح»,والملكة»حتشبسوت» , والملكة «ميرت آمون» زوجة الملك «امنحتب الأول», والملكة «أحمس نفرتاري» زوجة الملك «أحمس», والملكة «ست كامس». مشيرة إلى أن المعروض من المومياوات حاليا هم 16 مومياء فقط داخل القاعتين الملكيتين بالمتحف المصري في حين توجد ست مومياوات داخل المخازن.وفريق العمل الأثري قام بتجهيز كل المومياوات بالكامل خاصة المخزونة تمهيدا لنقلها . «عبد الرازق» أضافت أن المتحف سيقوم للمرة الأولى بعرض مومياوات أخرى داخل القاعتين تخص عددا من الأمراء والأفراد تكشف عن تاريخ علم التحنيط بالحضارة المصرية القديمة.خاصة أن المتحف يمتلك أكثر من 150 مومياء منها خبيئة مومياوات تمثل كهنة آمون والتي تم العثور عليها داخل معبد الدير البحري بالبر الغربي في عام 1881.

أما الميدان وأعمال تطويره فهي حكاية أخرى.خاصة رواية مسلة الملك رمسيس الثاني التي تتوسط قلبه ويلتف من حولها أربعة كباش مجلوبة من معبد الكرنك بالأقصر.والتي تبدو كحامية الميدان الفسيح وتطل بهيبة أمام كل من يعبر الميدان. ففي اليوم الموعود ستكون المسلة الملكية في انتظار خروج الموكب الملكي لتكون نقوشها آخر ما يشاهده الملك رمسيس الثاني قبل الرحيل.حيث تصوره النقوش واقفا أمام أحد المعبودات وتحمل عددا من الألقاب المختلفة له.وللمسلات المصرية القديمة حكايات تصل إلى حد الأساطير لكنها ترتبط بالعقيدة الراسخة في نفوس أهل مصر.فالمسلات الجرانيتية لم تكن مجرد أعمدة تتزين بها المعابد لكنها كانت بمثابة السجل الملكي لإنجازات الفرعون الأعظم.ويذكر التاريخ أن ديانة هليوبوليس - أون الأولى هي أول من ابتكر فكرة المسلة التي تمثل سقوط ضوء الشمس على الأرض الناهضة والتي يمثلها ال «بن بن» أو الشكل الهرمي أعلى نقطة في المسلة.كما كان للمسلة دورها الديني والعقائدي بالنسبة للمصري القديم.لذا حرص ملوك مصر على إقامة مسلات لتحوي سرد لأهم إنجازاتهم أمام المعابد مع كتابة أسمائهم على أوجهها الأربعة,خاصة لتخليد ذكرى المعارك التي انتصر بها كل ملك.وإن ظلت الدولة الحديثة هي أكثر الفترات اهتماما بإقامة المسلات كما نراها داخل معبد الكرنك بالأقصر.وتعتبر مدينة أسوان المصدر الأساسي لحجر الجرانيت المستخدم في تشييد المسلات.

وهناك حكايات يسردها المهندس وليد عمارة المسؤول عن المشروع .الذى يؤكد أن : «أخطر خطوة فى تطوير الميدان كانت تتعلق بإقامة هيكل خرساني يستطيع حمل مسلة الملك التي يفوق وزنها الـ 100طن وترتفع حوالي 16 مترا تقريبا..». حيث قامت وزارة السياحة والآثار بنقلها من مدينة صان الحجر بالشرقية وترميمها بالكامل داخل حديقة المتحف المصري.ويواصل «عمارة» حكاية تصميم قاعدة المسلة بقوله :» أسفل القاعدة سيكون شلال للمياه ينسدل تحت أقدامها ومن حوله أربع لوحات منقوش عليها باللغة العربية واللغة الإنجليزية نبذة عن تاريخ الميدان ولمحة عن تاريخ المسلات المصرية..ومن حولها يرقد الكباش الأربعة..».وعند أطراف الميدان يصطف عدد من المقاعد الجرانيتية ذات اللون الوردي وسط ممرات للمشاة تسمح لعابري الميدان التجول أوالجلوس وسط حدائق من الورود والنخيل وأشجار الزيتون.مع تزويده بنظام إضاءة مميز يبهر العين خاصة أنه يغطى كل مناطق الميدان فى نظام متناسق من حيث التوزيع والألوان والتصميم.كما راعى مشروع تطوير الميدان متطلبات ذوى الاحتياجات الخاصة.وعلى سبيل المثال شمل المشروع تطويرمنطقة مسجد عمر مكرم ومجمع التحرير لتتحول إلى أماكن للزيارة ونزهة للمواطنين.كذلك الشارع المؤدى من المتحف المصرى إلى الميدان مرورا بمبنى جامعة الدول العربية.وأشار «عمارة» أنه قد تم الانتهاء من أعمال التطوير خلال 7 شهور بمشاركة فريق من المهندسين والمقاولين والعمال يتراوح عددهم 500 عامل يوميا مع اتباع الإجراءات الاحترازية لمجابهة فيروس كورونا.

وبالفعل انتهى جهاز التنسيق الحضاري التابع لوزارة الثقافة برئاسة المهندس محمد أبو سعده بالتعاون مع محافظة القاهرة بتنفيذ خطة تطوير الميدان من خلال إزالة كافة اللوحات الإعلانية ولافتات المحال التجارية واستخدام تصميم موحد يتناسب مع القيمة التاريخية التي يحاول مشروع التطوير التأكيد عليها.إلى جانب تطوير واجهات كل المباني التي تطل على الميدان وتوحيد لونها لتكتسي جميعها باللون البيج الفاتح وذلك من المنطقة الممتدة من ميدان عبد المنعم رياض وحتى المنطقة المقابلة لمبنى مجمع التحرير.حيث تمت زراعة أشجار النخيل ونباتات الزينة ,إلى جانب زراعة المنطقة التي تعلو جراج التحرير بأشجار الزيتون مع نشر مقاعد متفرقة بطول الحدائق التي تزين الميدان بالكامل.