الأحد 24 نوفمبر 2024

المصور

جنوح الجندول

  • 11-11-2020 | 22:54

طباعة

ما بين كأسٍ يَتَشَهّى الكَرْمُ خَمْرَه، وحبيبٍ يتمنى الكأسُ ثَغْرَه، تَنَزَّل وَحْى القصيدة الساحرة إلى خيال المهندس المصرى الحَالم الذى كان يعيش الزمان والمكان معًا فى رحلته الزاخرة بالأحاسيس المُفعمة بالحب والجمال فى مياه مدينة البندقية شمال إيطاليا...

إنه الملّاح التائه - الشاعر المصرى - على محمود طه، أحد رُواد مدرسة «أبولو» الشِعرية التى تتميز بالرومانسية والموسيقى المستمدة من الألفاظ التى يتم انتقاؤها بعناية شديدة.

ولمّا كانت أدوات الشعر كلها حاضرة من سحر الطبيعة، والجو الاحتفالى المُلهم فى أنحاء المدينة مع الصُحبة الطيبة، كانت هذه الأبيات الهامسة:

أين من عَينى هَاتيك المَجَالى * يا عروس البحر، يا حُلم الخيالِ

أين عُشاقك سُمّار الليالى * أين من واديك يا مَهد الجمالِ

موكبُ الغِيد، وعيدُ الكرنفال * وسَرَى الجُندول فى عرض القنالِ

إنها قصيدة الجندول الشهيرة التى غَنَّى أبياتها الموسيقار محمد عبد الوهاب، والتى ارتبط تسجيلها فى الاستوديو بحكاية طريفة كان أبطالها الدكتور طه حسين – عميد الأدب العربى – والشاعر على محمود طه وموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، فقد كان على محمود طه من تلاميذ الدكتور طه حسين والمرتبطين بصالونه الثقافى بعد أن ترك العمل بالهندسة وتفرغ للشعر والأدب، وعندما اختار عبد الوهاب أن يُغَنى بعض الأبيات من قصيدته التى كان قد كتبها بعد رحلته لمدينة «فينيسيا» – البندقية - المتميزة بالقنوات المائية التى يتم التنقل من خلالها باستخدام «الجندول»، وهو قارب صغير تَسهُل به الحركة فى هذه القنوات، طلب من أستاذه طه حسين حضور تسجيل تلك الأغنية فى الاستوديو، حيث كانت المرة الأولى التى تتغير فيها طريقة تلحين القصيدة من النمطية التى كانت تنتشر فى الثلاثة عقود الأولى من القرن العشرين إلى الحداثة والتجديد، فقصيدة الجندول التى لحنها عبد الوهاب كانت بمثابة ثورة فى تلحين القصيدة واستخدام إيقاع جديد لم يُستخدم قبل ذلك فى الموسيقى العربية، ولم يكتف الموسيقار محمد عبد الوهاب بالدعوة المُقدَمة من الشاعر على محمود طه إلى طه حسين لحضور التسجيل، فذهب بنفسه يدعوه لحضور هذا الحدث، وكانت سعادته بالغة عندما وافق عميد الأدب العربى على الحضور رفقة الشاعر على محمود طه.

وفى عام ١٩٤١ كان الحَدث، الموسيقار محمد عبد الوهاب وفرقته الموسيقية يستعدون لداخل الاستوديو لتسجيل واحدة من أجمل ما أبدع بل إنها من أجمل الأغنيات العربية على الإطلاق، وبحضور عميد الأدب العربى طه حسين الذى كان فى أوج مجده الأدبى وبصحبة صاحب الجندول الشاعر على محمود طه.

وقد كان التسجيل فى تلك الأيام يتم على أسطوانات مصنوعة من رقائق الصُلب الممغنط والتى لا تقبل الإيقاف والتقطيع أو المونتاج أثناء التشغيل، فكان يلزم على المُطرب الاستعداد الجيد مع الفرقة الموسيقية وعمل الكثير من البروفات حتى يتمكن من أداء الأغنية دفعة واحدة دون توقف وكأنه على المسرح، وقد كان عبد الوهاب يهتم جدًا بالمقدمة الموسيقية الطويلة لأغانيه، حيث تُعتبر كل مقدمة وكأنها مقطوعة موسيقية منفصلة.

بدأت الفرقة فى العزف، وأخذ طه حسين يستمتع بالإبداع الموسيقى والنغمات الجميلة مع حلو الكلام، وعينا الموسيقار محمد عبد الوهاب عليه، تراقب حركاته وردود أفعاله حتى وصل إلى البيت الذى يصف الفتاة الإيطالية التى يتحدث عنها الشاعر فى القصيدة والذى يقول:

ذَهبى الشَعْر، شَرقى السِمات * مَرِح الأَعطاف، حُلو اللفتات

وهنا أخطأ عبد الوهاب فى نطق (الشَعر) بمعنى شَعر الرأس بفتح الشين ونطقها (شِعر) بمعنى الكلام الموزون والمُقَفَّى بكسر الشين!

وهنا أبدَى طه حسين امتعاضًا واضحًا لاحظه عبد الوهاب فتدارك الخطأ فى إعادة غناء المقطع مع استمرار الغناء والتسجيل دون توقف، حتى وصل إلى الأبيات:

أنا مَنْ ضَيّع فى الأوهام عُمْرَه * نَسى التاريخ أو أُنسِى ذِكره

غير يومٍ لم يَعُد يذكر غَيره * يوم أن قابلتُه أول مرة

وهنا أخطأ عبد الوهاب للمرة الثانية فى نطق (قابلتُه) فنطقها بفتح التاء، فوجد نفس رد الفعل المُمتعض من طه حسين، وهنا أدرك أنه قد أخطأ مرة أخرى فأعاد غناءها مراتٍ بشكل صحيح بضم التاء، فظهر الارتياح على وجه طه حسين لسلامة النطق مع الطرب لسماع الأداء المُمتع، وظل سعيدًا بروعة اللحن وجمال الصوت حتى انتهاء التسجيل.

ومنذ ذلك الحين، ظلت الأخطاء قائمة يلاحظها المستمعون فى كل مرة تذاع فيها الأغنية التى سُجِلت فى حضور عميد الأدب العربى والتى قدمت للموسيقى العربية طريقة جديدة فى تلحين القصائد، وبرغم هذه الأخطاء التى لم يتم حذفها من الأغنية، إلا أن كل من يتذوق الفن ويحب الموسيقى يجد المُتعة فى سماع هذه التحفة الفنية الخالدة التى أبدعها موسيقار الأجيال فكانت نقطة فارقة فى تاريخ الموسيقى العربية، سُمى بعدها على محمود طه «بشاعر الجندول»، وكما أَطَلق محمد عبد الوهاب على العمارة التى شيدها فى شارع فؤاد الأول بوسط البلد (شارع ٢٦ يوليو حاليًا) اسم الجندول لمدى تأثير هذه القصيدة على مشواره الموسيقى الطويل.

كم كان اختيار كلمات الأغانى هامًا، وكم كانت أهمية التدقيق والبحث عن كل ما هو راقٍ يحترم عقل وذوق الجمهور سواء من قادة الفكر والأدب أو الفن والإبداع حتى كان يتم الوصول إلى أعذب الكلمات فى أجمل دواوين الشعر كى تُغنى وتُقدم للجمهور المتذوق لجمال الفن، كما كان الاهتمام باللحن الذى أنتج لنا مقطوعاتٍ موسيقية وألحانًا تنافس الألحان العالمية، مما كان يضيف دائمًا لقوانا الناعمة ويعلو بثقافتنا المعاصرة.

    الاكثر قراءة