تنشر "الهلال اليوم" فصلًا جديدًا من كتاب "خطاب العنف والدم في الفقه الإسلامي"، للكاتب حسام الحداد، الصادر عن دار ابن رشد للنشر والتوزيع، وجاء الفصل بعنوان "أبو الحسن الندوي"، ونقرأ فيه:
أبو الحسن الندوي:
إذن فكرة الجاهلية والتكفير، تكفير المسلمين حكاماً ومحكومين قديمة لدى سيد قطب، ورصد كتاب حلمي النمنم في الفقرات السابقة قصة ظهورها لديه منذ سنة 1947، مع كتابه «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، وللحق فإن فكرة تكفير المسلم عموماً والخروج علي الحاكم بالسلاح أو الجهاد ضده ليست من اختراع سيد قطب، هي قديمة في التاريخ الإسلامي وتعود إلى الخوارج وزمن «الفتنة الكبرى»، ألم يقتل أحدهم عبدالرحمن بن ملجم الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه لأنه في نظره خرج عن الإسلام؟! علي العموم قصة الخوارج والحشاشين معروفة في التاريخ الإسلامي، لكنها لم تكن معروفة في مصر، ولم تدخل إليها، بل إن مصر حكمها الفاطميون وهم شيعة ثم أسقطهم صلاح الدين الأيوبي السني ومع ذلك لم تشهد مصر صراعاً مذهبياً.. جديد سيد قطب أنه أقحم هذه الأفكار علي الساحة المصرية، التي عرفت من الإسلام وسطيته وسماحته، فمن أين جاءته هذه الأفكار؟
الإجابة قام بها العلامة الهندي «أبو الحسن الندوي»، وقد أتيح للندوي أن يتعرف إلى سيد قطب منذ سنة 1950 في زيارة له إلى القاهرة، وكتب هو عن قصة لقائه وتعرضه إلى سيد قطب في كتابه «مذكرات سائح في المشرق العربي» ويبدو أن الندوي انزعج من أفكار سيد قطب فأصدر كتاباً طبع في القاهرة سنة 1978 وصدرت طبعته الثانية في العام 1980 بعنوان «التفسير السياسي للإسلام في مرآة كتابات الأستاذ أبي الأعلى المودودي والشهيد سيد قطب» وهو كتاب صغير الحجم 160 صفحة، لكنه بالغ الأهمية، ومن أسف أنه لم يجد الاهتمام الكافي من القراء ولا من الدارسين والباحثين.
الندوي يري أن سيد قطب قرأ كتاب أبو الأعلى المودودي «المصطلحات الأربعة في القرآن» وهذه المصطلحات هي الإله.. الرب.. العبادة.. الدين، ويذهب المودودي إلى أن العرب في عصر الرسول استطاعوا فهم هذه المصطلحات لكن فيما بعد أخذ هذا الفهم يستغلق علي العرب.. ويعترض الندوي تماماً علي تفسير المودودي وقوله إن العرب ما عادوا يفهمون هذه المصطلحات، لأن ذلك يشكك في صلاحية هذه الأمة ومركزها القيادي والدعوي وفي فهم هذه الأمة لهذا الكتاب والعمل به في تاريخها الطويل، ويقلل من قيمة مآثر المجددين والمصلحين والمجتهدين العلمية والعملية، فإن الكتاب الذي لم يفهم حق الفهم في أطول مدة وأخصبها علما عملاً وكفاحاً يشكك في إبانته ووضوحه وإفادته، ويشكك في كل ما يقال عنه.. وبعد ذلك يفتح الباب للتوسع في تأويله علي مصراعيه، كما فعلت الباطنية، ويشجع المحاولات التي ترمي إلى تحويل الحقائق الدينية إلى لغز مستعصٍ علي الفهم والإدراك (ص34).الواقع أن الندوي استطرد في تفنيد أقوال المودودي، فالقرآن الكريم ليس غامضاً ولا مستعصياً علي الفهم، إلى هذه الدرجة، لكن المشكلة أن سيد قطب لم يتعامل مع كتاب المودودي بروح وعقلية الندوي، أقصد العقلية النقدية، كان موقفه مختلفاً تماماً ويقول الندوي: «أُعجب سيد قطب إعجاباً شديداً بكتاب الأستاذ المودودي، ووافقه كل الموافقة في الآراء والأفكار التي يتضمنها، وقد جعل الحاكمية أخص خصائص الألوهية، وكتاباته تقلل من شناعة عبادة الأصنام والأوثان وعبادة غير الله في الجاهلية، لأنه يعتبرها صورة ساذجة وبدائية للجاهلية الأولى، وينتقد الندوي بشدة تركيز سيد قطب ومن قبله المودودي علي مفهوم الحاكمية. «الواقع أن صلة الخالق والمخلوق والعبد والمعبود هي أشمل وأوسع وأعمق وأدق بكثير وكثير من صلة الحاكم والمحكوم، والآمر والمأمور، والسلطان والرعية، وقد لهج القرآن الكريم بذكر أسماء الله وصفاته في بسط وتفصيل وأسلوب شيق وجميل لا يدل علي أن المطلوب من العبد هو الإيمان بمجرد حاكميته المطلقة والإذعان لسلطته العليا وألا يشرك آخرين معه في سلطته». ويبدي الندوي تخوفه علي كل من يختزلون الله سبحانه وتعالي والإسلام في حق الحاكمية والسلطة العليا، أخاف أن يكون قد صدق عليهم قول الرب تبارك وتعالي: «وما قدروا الله حق قدره»، أفاض الندوي في تفنيد فكرة الحاكمية ومن ثم أفكار المودودي وسيد قطب، لكن ربما كان لدي المودودي مبرر وهو أنه كان يكتب في بيئة غلب فيها الهندوس ووقعت مواجهات دامية لهم مع المسلمين، لكن لا مبرر لسيد قطب سوي الانبهار بالمودودي كما شرح الندوي وساعد علي ذلك طبيعة سيد قطب الشخصية، كان إنساناً حاداً، أحادي التفكير فوقع أسير المودودي، تري هل يمكن أن نضيف إلى ذلك ضحالة ثقافته الإسلامية، فهو خريج دار العلوم ومنشغل طوال عمره بمحاولة كتابة الشعر ومحاولة النقد، فدخل المجال الإسلامي دون تكوين فقهي وعلمي ثقيل. تلك حكاية سيد قطب مع التكفير والحاكمية حتى سنة 1951، وتقع ثورة يوليو ويمر شهر عسل بين الضباط الأحرار وجماعة الإخوان، لكن بدأت العلاقات تفتر بينهما منذ ديسمبر 1953، وفي فترة العسل، راح سيد قطب يكتب مسانداً لمحمد نجيب ورفاقه، ورفعهم إلى مصاف القديسين، ويقترب بهم من مصاف الأنبياء، ودعاهم إلى الإطاحة بكل من يقف في طريقهم، ووصلت به الجسارة إلى القول كما جاء في «روز اليوسف» 10 سبتمبر 1952: «لأن نظلم عشرة أو عشرين من المتهمين خير من أن ندع الثورة كلها تذبل وتموت».