الجمعة 17 مايو 2024

في ظل "كورونا".. "كانط وشوبنهاور" يعيدان علاقة الإنسان بالحياة

فن19-11-2020 | 22:38

تحتفي الأمم المتحدة، اليوم الخميس، باليوم العالمي للفلسفة، الذى نحتفل به منذ عام 2002 عندما أقرت منظمة اليونسكو بالاحتفاء بالفلسفة في الخميس الثالث من شهر نوفمبر من كل عام، وذلك إيمانا بدور الفلسفة البارز في رصد تطور الفكر البشري، وتستهدف احتفالية اليوم العالمي هذا العام إلى أهمية التأمل الفلسفي لمواجهة الأزمات المختلفة وعلى وجه الخصوص أزمة كورونا "كوفيد19"، فنحن في أمس الحاجة إلى التفلسف وإعادة قراءة الأزمات من منطق الفلاسفة أكثر من أى وقت آخر.

يرى الفلاسفة دائمًا أن الأزمات ما هى إلا أسئلة كبرى تطرحها الطبيعة علينا، التي تنقسم بدورها إلى أسئلة تحتاج إلى إجابات وافية وأخرى تدفعنا بشكل أو بآخر نحو التأمل لإعادة قراءة أوضاع العالم في ظل الأزمات الملحة التي تجتاح حياتنا بدون أسباب مسبقة، فالفلسفة ليست جزء من الماضي بل يمكن أن توفر لنا حلولًا لتلك الأزمات التي نعيشها في الوقت الحاضر، فالفلسفة تعيد للمجتمع اتساقه المفقود.

منذ عام وجدت البشرية نفسها أمام فيروس تحول إلى جائحة فى غضون أسابيع قليلة ليكون أكبر معضلة تطرحها علينا الطبيعة وهو "كوفيد-19"، وبالرغم من اتخاذ الدول خطوات إلزامية من أجل الحد من تفاقم تلك الأزمة، إلا أن الحجر الصحى والعزلة التامة عن العالم لن تستطيع أن تتخلص من تلك الجائحة، فكل دولة أصبحت منعزلة عن العالم كله فى سابقة لم تحدث على مر التاريخ الحديث، وقد حاول العالم فى نطاق البحث العلمي إيجاد حلولا سريعة للحفاظ على استقرار الإنسان فى النظم الاجتماعية التي حددها وفق البنية الاجتماعية التى تشكل إطار المجتمع، وبالرغم من أن المجتمعات البشرية منذ إرهاصاتها الأولى تعيش دائما مع مخاوف المجهول وبالرغم من أن حيز المجهول بإمكانه أن يتقلص فى نطاق المعرفة البشرية لقوانين الطبيعة، وفى ظل المواجهة الدائمة للإنسان والصراع مع الطبيعة التي شكلت هويته على مدى حقب زمنية مختلفة، ولكن فى خضم أزمة كورونا أعادت تلك الأزمة تعريف علاقة الإنسان بالحياة بصورة معقدة.
 
نبدأ هنا بتناول الفلسفة لعلاقة الإنسان بذاته حيث نزوع الفرد نفسه إلى التوغل بداخله بشيء من التأمل لتفسير ما يدور من حوله ولعل العزلة التامة والحجر الصحي أحد أسباب نزوع الإنسان لمعرفة نفسه إنطلاقًا من مقولة سقراط "اعرف نفسك بنفسك" فنحن في ظل تلك الجائحة محاطون بأسئلة معقدة لا إجابة لبعضها، وآراء مختلفة وحكومات عاجزة عن التبصر والتكهن في ظل التكنولوجيا المتسارعة بنهاية أو بحلول منطقية للقضاء عليها، لذا نتبصر من خلال رؤية بعض الفلاسفة لماهية الحياة حتى لا نظل بعد إنتهاء تلك الجائحة كالأنبوب الأجوف الفارغ بل نستغل قدرتنا على التبصر والتفلسف فى الإرتقاء بمستوى تجاربنا وتصحيح نظرتنا إلى الحياة، في الفلسفة هي التي تمكننا من الوصول إلى الأهداف البعيدة التي تجاهد البشرية من أجلها.

يرى الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط فى كتابه "نقد العقل الخالص" أن نشاط الذات يمر خلال ثلاث مراحل، المرحلة الأولى تؤكد على أن هناك وعيا بالإدراك فتنتظم فيه كثرة الإحساسات فى صورتي الزمان والمكان ومقولات الفهم حتى إننا نلاحظ الموضوعات الجزئية فى بيئتنا مميزة بعضها البعض ومع ذلك ترتبط زمانيا ومكانيا، أما المرحلة الثانية فهي إعادة الإنتاج فى الخيال أي الحفظ، وتأتي المرحلة الثالثة التي تعنى بالتعرف عن طريق التصورات من موضوعات موجودة في الذاكرة، أي تلك التى اختبرناها فى الماضي، فنحن نتحقق من ذواتنا ونعرف أننا نفس الأشخاص التى اختبرناها حتى الآن ونستطيع أن نقارن موضوعات تجربتنا المختلفة ونصنفها ونكون تصورات عنها، ولعل أزمة جائحة الكورونا جعلت الإنسان يختبر صنوفا من المشاعر ويتعرف على ذاته ويختبرها كما لم يختبرها من قبل.
 
يعتقد كانط أن الأزمات الكبرى التي يتعرض لها الجنس البشري كالحروب الفاشية، الأوبئة كالطاعون والكوليرا، المجاعات، الكوارث الطبيعية كالسيول والزلازل، يعتقد كانط أن تلك الأزمات هي بمثابة إختبار من الطبيعة ويأتي بشكل غير محسوس وفوق قدرة البشر، بحيث يبدأ وينتهي في الوقت التي تحدده الطبيعة بظهوره أو اختفاؤه، ويكون أكثر  شيء متوقع مننا نحن البشر هو أن نستفيد من التجربة وأن نخضعها للتفكير النقدي فلا نخرج من تلك الأزمة خاليين الوفاض .

يتصور إيمانويل كانط أن أي موجود عاقل، يمكنه أن يسلم قضية واضحة بذاتها وهي أن الخير الوحيد الذي يمكن تصوره فى العالم هو "الإرادة الخيرة"، أو كما نقول الأخلاق الجيدة، فحتى الفضائل الظاهرة مثل الشجاعة والمثابرة يمكن استخدامها بطرق خبيثة، ولذلك فلا يمكن النظر إليها على أنها خيرة بصورة ذاتية أو مطلقة بلا تحفظ، أما الإرادة الخيرة التي تعمل فقط من منطلق احترام الواجب بغض النظر عن النتائج والتى تستجمع كل المصادر داخل قوتها، فلا يهمها إذا نجحت فى محاولاتها أم لم تنجح، أو إذا أعاقت ظروف خارجية جهودها أو لم تفعل، فإنها خيرة فى ذاتها، أى أشبه بجوهرة تتلالأ بذاتها ولا يمكن أن تفشل في أن تبهر الملاحظ غير المتحيز، ولعلنا نلاحظ ما تحدثه تلك الجائحة وكيف هي قسوتها على الكثير من الناس إلا أن الإرادة الخيرة كما يسميها كانط،  تجلت فى أسمى صورها فى كثير من الأحيان، وإذا كانت على الإتجاه الآخر فإن الصورة الخبيثة منها يتغاضى عنها المجتمع ويتغاضى بالكامل عن المنظور السلبي في التجربة تنقشع الغمة في أقرب وقت ممكن.

أما الفيلسوف الألماني، أرتور شوبنهاور، المعروف بنزعته التشاؤمية صاحب فلسفة "إرادة الحياة" فنجد أن الإرادة عنده لا تشمل المشيئة التى تتدبر عن وعي فقط، بل تشمل أيضا كل الدوافع الداخلية اللاوعية والموجودة فى العقل الباطن وكذلك تشمل الرغبات وجانب الطبيعة عند الإنسان الذى يبذل جهدا للوصول إلى غايته، فالمراد عند شوبنهاور، عنده تكون هي الأولى في نظام الوجود ثم تأتى بعدها الأفكار المتغيرة، ثم تجعل الإرادة نفسها فردية في أفكار جزئية أي أنها تكون كالأشخاص والأشياء التي تكون أمثلة للأفكار وفقا لمبدأ العلة الكافية، إذن يمكن النظر إلى صياغة شوبنهاور للمثالية على أنها مثالية إرادية لأن الإرادة هى الحقيقة الأولية بدلا من الروح عند هيجل وهناك مذاهب كثيرة عن المثالية الإرادية، بعضها تفاؤلية، حيث أن العالم بأسره مرسوم من أجل الأفضل، فالكل ينتقل وفق خطة كلية تنكشف بالتدريج فى الطبيعة وبداخلنا.

وبالرغم من رؤية شوبنهاور للعالم والعقل إلا أنه يتجه نحو فن السعادة أو "كيف نتعلم أن نحيا"، فنسعى إلى تأمل الحياة، حيث أن الحياة السعيدة ترتبط بنظرة ذواتنا ودواخلنا إلى العالم، وفي ظل تلك الجائحة ترتبط دواخلنا مع إدراك وتفسير ما نحن عليه الآن، ويقيم شوبنهاور نتائجه التشاؤمية على تحليل طبيعة الرغبة فى علاقتها بالسعادة، فهو يزعم أن الرغبة لا تنشأ إلا عندما نشعر بحاجة أو نقص أو عندما نشعر بألم ما، أوإذا تم إشباع الرغبة داخلنا.

ومع كل مأساة تواجه البشرية يتنامى إلينا الشعور بنهاية العالم، ذلك الشهور الذي يجعل الإنسان في حالة ترقب وقلق من المصير المحتوم، وذلك بالطبع وفق التصورات التي يقيس عليها الموقف الآني فى إطار السياق الديني والمجتمعي، ولكن إن نظرنا وفكرنا في الأمور وفق ما تفرضه علينا الأزمة، خاصة من منظور واسع ومن مسافة بعيدة تماما، ربما تمنحنا تلك الجائحة إعادة تقييم لذواتنا وأوضاعنا كما لم نألفها من قبل.