تنشر بوابة "الهلال اليوم" الفصل الثالث من كتاب "أحجار على رقعة الأوراسيا"، للكاتب عمرو عمار، والصادر عن دار سما للنشر، وجاء فيه:
أوروبا.. الأرض المركزيةإن من يحكم أوروبا الشرقية يسيطر على الأرض المركزية، ومن يحكم الأرض المركزية يسيطر على جزيرة العالم، ومن يحكم جزيرة العالم يسيطر على العالم.
السير هالفيرد ماكيندر.. الخداع الاستراتيجي
ذكرنا من قبل هذا الخداع الأمريكي للعالم بمقولة انتهاء الحرب الباردة، وبداية السلام العالمي، ما بعد الحقبة السوفيتية، عبر عنه الرئيس الأمريكي بوش الأب عام1991، في خطابه الشهير أمام الكونجرس قائلًا: «إنها فكرة كبيرة.. نظام عالمي جديد لأمم مختلفة، لقضيةٍ مشتركة، لتحقيق تطلعات عالمية للبشرية.. سلام.. أمن.. حرية.. وسيادة القانون».
هذا السلام العالمي، وسيادة القانون، الذي وعد به بوش العالم، ما بعد السوفيتية، لم يكن سوى أجندة عسكرية واسعة النطاق؛ الحرب اليوغوسلافية تحت قيادة الناتو (1991:2001) حرب الخليج عام 1991، الغزو الأمريكي العسكري لأفغانستان عام 2001، ثم العراق عام 2003، نهاية بلعبة الحروب الدينية في المشرق العربي، والتي أدارتها وكالات الاستخبارات الأنجلوأمريكية والغربية، تحت قيادة حلف الناتو، فيما عُرف بثورات الربيع العبري.
كل هذه الحروب العسكرية المرتبطة باستراتيجية الأمن القومي الأمريكي، تحت غطاء السلام العالمي، كانت محددات السياسة الخارجية الأمريكية، من أجل السيطرة على رقعة الأوراسيا، ومن ثم ضمان الهيمنة الأمريكية على عالم أحادي القطبية، ما بعد الحقبة السوفيتية.
وقد أفصحت لجنة مختصة في صياغة الأمن القومي الأمريكي، في تقريرٍ لها عـام 1999، أي قبل غزو أفغانستان؛ أن الولايات المتحدة، ومنذ نهاية الحرب الباردة، أي في (8 أعوام) اشتركت في أكثر من (40 تدخلًا عسكريًّا) مقارنة بـ (16 تدخلًا عسكريًّا) فقط خلال فترة الحرب الباردة كلها (أي عبر 44 عامًا).. وهو ما يؤكد أن السلام العالمي بالمنظور الأمريكي، لم يكن سوى عولمة للحرب الباردة ما بعد السوفيتية؛ حرب باردة اقتصادية – حرب باردة ثقافية - ولا مانع من عسكرة هذه الحرب الباردة، وكأننا نسترجع سطور الجزء الأول من هذا المؤلف.
استراتيجية الهيمنة الأمريكية
وفقًا للعبة الأمريكية ما بعد السوفيتية، وبصفتها اللاعب الغربي الأساسي في إدارة الصراع على رقعة الأوراسيا، فقد حدد برجينسكي في كتابه (لوحة الشطرنج الكبرى) الصادر عام 1997، أربعة محاور جيواستراتيجية مهمة، لتحقيق المصالح الجيوسياسية، التي تضمن للولايات المتحدة السيطرة على رقعة الأوراسيا، ومن ثم الهيمنة العالمية، نشير في هذا الفصل إلى المحور الأول والثالث منهم:
المحور الأوراسي الجيواستراتيجي الأول
ويتمثل في التمدد بالنفوذ السياسي والعسكري الأمريكي، على المحيط الأوراسي الغربي القريب؛ أي التمدد عبر دول أوروبا الغربية، مع تحقيق التوازن النووي بإحياء مبادرة الدفاع النووية الاستراتيجية، من أجل تطويق نووي للاعبي الشرقي الأوراسي (روسيا- الصين).
صحيح نجحت الولايات المتحدة في السيطرة الاقتصادية، وشبه السياسية، على دول أوروبا الغربية خلال الحرب الباردة، سواء بمشروع مارشال، أو عبر برنامج النقطة الرابعة، كما أوضحنا في الجزء الأول من هذا المؤلف، كما نجحت في التمدد العسكري على مساحة هذه الدول الغربية، بصفتها العضو الفعال والمؤثر عسكريًّا في حلف شمال الأطلسي.
مع ذلك ظلت قدرة مركزية هذه الإمبراطورية الكونية في الهيمنة على ولاياتها الخارجية ضعيفة إلى حدٍّ ما، على الرغم من خضوع هذه الولايات (أي دول أوروبا الغربية) إلى النظام المالي العالمي، ومؤسسات بريتون وودز، ولهذا ظلت فكرة أوروبا الموحدة التي يسهل السيطرة عليها من بروكسل، تراود العقل الاستراتيجي المفكر في واشنطن خلال الحرب الباردة.
بعد تأسيس حلف شمال الأطلسي بعامين، وفي إطار سياسة الاحتواء الأمريكي لأوروبا الغربية الممزقة، تم إنشاء (المجموعة الأوروبية للفحم والصلب( عام 1951، بمشاركة ألمانيا الغربية - فرنسا - إيطاليا - دول بنلوكس، بغرض تجنب الحرب بين فرنسا وألمانيا، وهو ما ساعد على خلق سوقٍ مشتركة للفحم والصلب بين الأوروبيين.
عام 1956، انضمت المملكة البريطانية إلى هذه المجموعة، تلاها بعام انضمام الجماعة ككل إلى )المجموعة الاقتصادية الأوروبية) التي تأسست عام 1957، كجزءٍ من السوق الأوروبية المشتركة، في مواجهة السوق الاقتصادي الاشتراكي الذي أسسه ستالين، عبر منظمة الكوميكون، في العام 1949 بتحلل الاتحاد السوفيتي، أصبح هذا الكيان المؤسسي يمثل لبنة (الاتحاد الأوروبي) الذي تأسس بموجب معاهدة ماسترخت، الموقعة عام 1992؛ وبذلك انتقلت المؤسسة الأوروبية من مجرد كيان للتبادل التجاري، إلى شراكة اقتصادية، وسياسية، وفق مفهوم أوروبا الموحدة المنقادة من بروكسل.
اختيار كلٍّ من ألمانيا، وفرنسا، لقيادة أوروبا الموحدة من بروكسل، أتاح للولايات المتحدة تحقيق المحور الجيواستراتيجي الأول، لضمان الهيمنة على رقعة الأوراسيا؛ حيث أصبحت دول أوروبا الغربية كيانًا موحدًا يخضع لقوانين ولوائح تصدر من بروكسل، في أغلبها تأتي ضد الدولة القومية، والسيادة الوطنية، لصالح شارع المال في لندن، و(وول ستريت) في نيويورك.
أي أن أوروبا الموحدة بالمنظور الأمريكي، ليست شريكًا مساويًا للولايات المتحدة، بل كحليفٍ تابع صغير يعتمد بشكلٍ مباشر على الحماية الأمنية الأمريكية؛ وهو ما شكل نقطة انطلاقة أمريكية للتوسع في العمق الأوراسي الغربي بقوانين الديمقراطية الليبرالية، وأصبح الاتحاد الأوروبي جسرًا جيوسياسيًّا رئيسيًّا لأمريكا على رقعة الأوراسيا، قائم على قواعد حلف شمال الأطلسي، المنوط به تعميق النفوذ السياسي والعسكري لأمريكا، على الرغم من ذلك، ظل العقل الأمريكي الاستراتيجي المفكر على اعتقاده الدائم، بأن المنافس الأكثر خطورة على الولايات المتحدة، هو الاتحاد الأوروبي، الذي ينبغي على واشنطن أن تدمره سياسيًّا، وبالأحرى اقتصاديًّا، وفق نظرية (بول ولفوفيتز) مساعد وزير الدفاع في إدارة بوش الابن، وأحد أقطاب مشروع القرن الأمريكي المشار له في الجزء الأول من المؤلف.
المحور الأوراسي الجيواستراتيجي الثالث
محور يرتبط ارتباطًا عضويًّا بالمحور الأول؛ حيث يمثل تلك الأراضي الواسعة الممتدة بين الطرفين؛ الغربي، والشرقي، على رقعة الأوراسيا، تلك الدول التي كانت خاضعة ذات يوم لنفوذ الاتحاد السوفيتي؛ سواء منطقة آسيا الوسطى، ويطلق عليها السير البريطاني (هالفيرد ماكيندر) المنطقة المحورية، أو منطقة وسط وشرق أوروبا، ويطلق عليها (ماكيندر) الأرض المركزية.
إذ يجب توسيع مساحة الأرض المركزية (أي أوروبا الشرقية) حتى تقع داخل نفوذ المحيط الغربي الأوراسي، وفق المقولة الشهيرة لـ (ماكيندر):
"إن من يحكم أوروبا الشرقية يسيطر على الأرض المركزية، ومن يحكم الأرض المركزية يسيطر على جزيرة العالم، ومن يحكم جزيرة العالم يسيطر على العالم."
ومن ثم فأي توسع في مساحة أوروبا الغربية الموحدة، بضم لاعبين جدد من دول وسط وشرق أوروبا؛ يُعد توسعًا في حجم النفوذ الأمريكي المباشر، ويضمن لها ملء الفراغ الجيواستراتيجي الذي خلفه تحلل الاتحاد السوفيتي، وأيضًا الاقتراب غير المباشر من الحرم الروسي، في خطوةٍ جديدة للهيمنة الأمريكية على رقعة الأوراسيا، وتلك كانت مهمة الرئيس الأمريكي (جورج بوش الأب) ما بعد الحقبة السوفيتية، ومن بعده (بيل كلينتون).