بقلم -عبدالقادر شهيب
ليس الإخوان هم أكثر الخاسرين فى مصر لتولى دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية..! يشارك الإخوان فى الخسارة الفادحة مدمنو المال السياسى أو مدمنو التمويل الأجنبى السرى، الذين اعتادوا عليه منذ عقد أو أكثر من الزمان.
فإن الرئيس الجديد للولايات المتحدة أعلنها صريحة قبل أن يتولى ممارسة حكمه أن إدارته الجديدة سوف تتوقف عما انتهجته إدارات أمريكية سابقة من سياسات تستهدف التخلص من نظم حكم قائمة وتغيير الحكام فى منطقتنا.. وفى الكلمة التى ألقاها فى حفل تنصيبه جدد هذا التأكيد عندما قال إن الولايات المتحدة الأمريكية لن تفرض بالقوة نمط حياتها، وإنما سوف يسعى من خلال إعادة بناء الدولة الأمريكية، اقتصاديًا وعسكريًا، وتحت شعار أمريكا أولًا، لأن يجعل الحياة الأمريكية نموذجًا يحتذى به أو مشجعًا على تقليده ومحاكاته.
وهذا يعنى بوضوح إذا ما التزم ترامب به نهاية لسياسات أمريكية تم انتهاجها فى أمريكا وتم تفعيلها بقوة فى عصر سيطرة المحافظين الجدد على الحكم فى أمريكا خلال رئاسة الجمهورى بوش الابن، واستمر العمل بها بنشاط وفعالية أكبر بعد أن انتهت هذه السيطرة واسترد الديمقراطيون الحكم خلال حكم أوباما.
لقد كانت الأداة الأساسية فى تنفيذ هذه السياسات هى المخابرات المركزية الأمريكية التى تم تأسيسها عام ١٩٤٧ بعد جدال ونقاش كبيرين بين متحمسين لإنشائها لتجمع وكالات وأجهزة المخابرات الأمريكية وبين غير متحمسين لإنشائها، لكن حسم قرار تأسيسها الحاجة لها لتنفيذ سياسات أمريكية جديدة فى أوربا الخارجة من الحرب العالمية الثانية فى احتياج لإعادة ترتيب أوضاعها السياسية والاقتصادية، بالطبع فى ظل الصراع الأمريكى مع الاتحاد السوفييتى البازغ الذى كان ينافسها الهيمنة على أوربا بعد أن شارك فى هزيمة النازية..
وقد كانت أول مهمة تكلف بها المخابرات المركزية هى مهمة التدخل فى الانتخابات البرلمانية الإيطالية لمنع فوز الحزب الشيوعى بهذه الانتخابات وضمان فوز الحزب الديمقراطى المسيحى. وفى سبيل ذلك تعاونت المخابرات المركزية مع المافيا الإيطالية وقتها وأنفقت أموالًا من أجل توجيه أصوات الناخبين لصالح الحزب الديمقراطى المسيحى، وتحقق لها ما أرادت.
ومن وقتها استمرت المخابرات المركزية تمارس تلك المهام بنشاط فى أوربا ومناطق أخرى عديدة من العالم، خاصة فى منطقتنا العربية ومنطقة الشرق الأوسط، وتقوم بتمويل حركات وجماعات وتنظيمات وأيضًا أفراد لتحقيق ما خططت له فى إطار سياسة تغيير الأنظمة السياسية الحاكمة واستعانت فى ذلك بمؤسسات وهيأت وسيطة لتخفى ما تقوم به من تقديم مال سياسى لجماعات وحركات وأشخاص وحتى يبقى ذلك فى طى الكتمان.. لكن ذلك لم يدم طويلًا، فقد بدأ ذلك يتكشف ستره بمرور الوقت، حتى صار الأمر بمثابة الفضيحة التى انفجرت ليس فى وجه المخابرات المركزية وحدها، وإنما فى وجه مؤسسات أمريكية عديدة على رأسها بالطبع الإدارة الأمريكية التى كانت تتنافس فيما بينها فى الادعاء بحق الشعوب فى اختيار حكامها، بينما كانت المخابرات المركزية تسعى لفرض حكام عليها موالين لأمريكا..
وقد وصلت هذه الفضيحة ذروتها حينما قامت الكاتبة البريطانية فرانسيس ستوتر سوندرزا بدراسة استغرقت أكثر من أربع سنوات وشملت لقاءات مع نحو ٥٢ عميلًا من العملاء والمسئولين السابقين فى وكالة المخابرات المركزية، فضلًا عن تحليل عشرات من الوثائق، ومئات من الإصدارات الصحفية والثقافية، وبلغت مصادرها أكثر من ١١٢٠ مصدرًا اعتمدت عليها فى توثيق ما قدمته فى بحثها.. وقدمت الباحثة والكاتبة البريطانية الشهيرة بحثها هذا فى كتاب حملت طبعته الأولى عنوان (من يدفع للزمار؟!) والزمار هنا: المقصود به الفنان أو المبدع أو الكاتب الذى كان يتلقى التمويل السرى.. بينما حملت طبعته الثانية عنوانًا أكثر شمولًا وأكثر دقة لما حدث هو (الحرب الثقافية الباردة).. يكشف الكتاب الوثيقة بالوقائع والحقائق والمعلومات الغزيرة كيف سعت ونجحت وكالة المخابرات المركزية فى اختراق صفوف المثقفين والمفكرين والمبدعين والفنانين فى أمريكا وأوربا وكثير من بلاد العالم، والإغداق عليهم بأموالها - عبر منظمات أخرى - لتوظيفهم وتوجيههم لنشر الأفكار والثقافة الأمريكية، وتقويض أركان أية ثقافات أخرى اعتبرتها وكالة المخابرات المركزية ثقافات معادية، وذلك بغرض التسلل إلى العديد من المجتمعات وتوجيه سياساتها من خلال استخدام مثقفيها والتحكم فى انتخاباتها، والسيطرة على حكامها، سواء بضمان تأييد المثقفين فى هذه المجتمعات للحكام الذين ترضى عنهم، أو بتحريض المثقفين ضد الحكام الذين يناوئون السياسات الأمريكية أو لا ينصاعون بشكل كامل لواشنطن.
غير أن الأمريكيين قد تنبهوا لذلك مبكرًا وعمدوا لإبعاد المخابرات المركزية عن صدارة المشهد.. مشهد التآمر السياسى على الدول الأخرى، والتدخل فى شئونها الداخلية من خلال التمويل السرى ليتفادوا الاتهامات التى بدأت تلاحقها وحمايتها من التشهير العالمى بها، والأهم ليضمنوا استمرار تنفيذ مخططاتهم للتدخل فى شئون غيرهم ونجاح مؤامراتهم، سواء للإطاحة بحكام لا يرضون عنهم أو تثبيت حكام ينصاعون لهم.. ولذلك سعى الأمريكان فى عام ١٩٨٤ لتأسيس منظمة جديدة خاصة أسموها منظمة أو وكالة الوقف الوطنى الديمقراطى لتتولى هى تدبير وتوفير التمويل السرى للجهات والهيئات والمنظمات والحركات والشخصيات التى تشارك فى تنفيذ تلك المخططات الأمريكية.
وتلك العمليات الأمريكية للتدخل فى الشئون الداخلية للدول المختلفة.
ويعترف الكاتب الأمريكى جاستن رايموندو فى مقال له نشره فى موقع Antiwar Com بأن: )الولايات المتحدة متورطة بالطبع فى السياسات الداخلية بجميع الدول تقريبًا.، بل ولديها وكالة رسمية تقوم بأمور التدخل هذه هى مؤسسة الوقف الوطنى للديمقراطية التى تأسست عام ١٩٨٤.. فهى تتلقى منحًا مباشرة من أموال الضرائب الأمريكية توجهها للخارج عن طريق أربعة عناصر أساسية هى المعهد الديمقراطى التابع للحزب الديمقراطى، والمعهد الجمهورى، وهو أحد أقسام الحزب الجمهورى، والمركز الأمريكى للتضامن العمالى الدولى، الذى يرعاه الاتحاد الأمريكى للعلوم ومؤتمر المنظمات الصناعية، ويموله بصفة جزئية، والرابع مركز المشروعات الدولية الخاصة، التابع لغرفة التجارة الأمريكية.
ويستعرض الكاتب الأمريكى الدور الذى قامت به منظمة الوقف الأمريكى الوطنى للديمقراطية فى إسقاط حكومة نيكارجوا أو تمويل عدد من الأحزاب المعارضة فى انتخاباتها، ويرى هذه المنظمة هى قناة التمويل للثورات الملونة فى كل من صربيا وأوكرانيا وجورجيا والجمهوريات السوفيتية فى آسيا الوسطى.. ويصفها بأنها (سلاح فى ترسانة الأسلحة الأمريكية المصممة لفرض تغيير أنظمة الحكم فى الدول التى تعتبرها غير متحسمة بما فيه الكفاية لأن تصبح تحت الوصاية الأمريكية).
وما قاله هذا الكاتب الأمريكى اعترف به صراحة أول رئيس لمنظمة الوقف الأمريكية (ألن دينشتاين) عندما قال لجريدة الواشنطن بوست عام: ١٩٩١ (إن الكثير مما تفعله كان منذ ربع قرن تنفذه العمليات المغطاة التى تتولاها منظمة سى. أى. إيه).
لكن الذى لم يقله أول رئيس لهذه المنظمة الأمريكية التى تقوم بذات ما كانت تقوم به المخابرات المركزية أنها ركزت أساسًا على الاستثمار السياسى لمنظمات المجتمع المدنى فى الدول التى تسعى لاختراقها.. وبعد أن كان التمويل السرى يذهب كله لمؤسسات ومجموعات ثقافية وصحفية وإعلامية وفكرية وجامعية صار معظمه يتجه لتلك المنظمات الخاصة بالمجتمع المدنى.. بل إن بعض الدول مثلما حدث فى مصر شهدت تأسيسًا لمنظمات مجتمع مدنى يفرض تسهيل الحصول على هذا التمويل السرى الذى تديره وتوفره منظمة الوقف الأمريكى لتحقيق ذات الهدف النهائى وهو فرض الهيمنة الأمريكية على غيرها من الدول سواء فى أوربا أو فى منطقتنا العربية.
ولقد خبرنا فى مصر ذلك بوضوح من خلال تدفق المال السياسى السرى الأمريكى فى عام ٢٠١١ وتحديدًا قبل وبعد ٢٥يناير، حيث كان الأمريكان مشغولين بفرض حكم الإخوان الفاشى المستبد علينا وقتها.. بل إن مصر فى ذلك التوقيت كانت مصبًا لمال سياسى سرى أجنبى من كل صوب.. من أوربا ومن دول عربية خليجية.. والهدف كان واحدًا هو فرض الهيمنة والوصاية السياسية علينا.. والذى كشف ذلك بجسارة الوزيرة القديرة فايزة أبو النجا وخاضت بسببه معركة تعرضت فيها لتهديدات عديدة، لكنها لم تتراجع، وإن كان الأمريكان ظلوا طوال إدارة أوباما متمسكين بسياسة التدخل فى شئوننا الداخلية.
الآن بعد أن أعلن ترامب عن رفضه لهذه السياسات وإعلانه بوضوح نبذه لها وعدم العمل بها، فإن أكثر الخاسرين سوف يكونون هؤلاء الذين أدمنوا التمويل الأجنبى السرى منذ عدة سنوات ويحاربون من أجل استمرارها، بل ويسعون لتشويه كل من يكشف خطاياهم.