الثلاثاء 25 يونيو 2024

عندما لا يمتلك الإنسان جسده لا يمتلك وجوده.. جزء من كتاب "كسر الصمت"

فن25-11-2020 | 17:20

يحتفل العالم باليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة وهو الموافق 25 نوفمبر من كل عام، وبهذه المناسبة ننشر جزءًا من كتاب "كسر الصمت" للكاتبة سارة عابدين وكاتبات وكُتاب أخرين، والصادر عن دار المرايا للإنتاج الثقافي.

 

أفكر قبل البدء في الكتابة، في سؤال لا يتوقف عن الطرق في عقلي، "ماهو الجسد"

في المعجم، الجسد هو الجزء المحسوس من الكائن الحي، غرائز الإنسان وحواسه.

الجسد: هو التجسيد الذي يظهر به الإنسان، أو التعبير المادي الفريد عن فردانية الشخص.

جسد الأمر: أي مثله وأبرزه في قالب ملموس ومحسوس. بمعنى أن جسد الإنسان هو ذلك القالب الملموس الذي يجسد الشخص.

في النهاية يمكن القول ببساطة أن الجسد هو الظهور الفيزيائي  المادي لماهية  الفرد.

طيب هل نعرف أجسادنا بالفعل؟ هل فكرنا من قبل في تلمسها والتعرف عليها؟

أكرر من جديد "ماهية الفرد". أبدو بحاجة أكثر للتعرف على ماهيتي الشخصية، وأتتبع تلك الرغبات التي تلح علي أثناء الكتابة. أمسك ذراعي بقوة، أضغط على وجهي، على أنفي، أخفي عيوني بأصابعي عدة مرات، أتحسس رأسي، رقبتي، صدري، بطني، فخذي، ساقي، أطقطق أصابعي، أقراص أذني.

هذا الجسد هو (أنا) انا بكل تحميلاتي الشخصية والثقافية، التاريخية، الاجتماعية، المرضية، الهوياتية، الإنسانية، النفسية. طريقة تعاملي مع هذا الجسد هي التعبير الأوضح والأصدقعني كشخص. عن أفكاري، معتقداتي، استيهاماتي، أحلامي، رغباتي.

أتذكر بناتي عندما كن في شهورهن الأولى، وهن يحاولن التعرف على أجسادهن الصغيرة،  بدهشة وانبهار. ينظرن إلى أصابعهن الهشة، يحملقن في كفوفهن الرقيقة. في وقت تغير الحفاضات كن ينظرن بين سيقانهن بدهشة، يضعن أياديهم ويحاولن لمس أجزاءهن الحميمة، برغبة كبيرة في الاكتشاف وفضول لا يمكن تجاهله.

أستعيد ذاكرتي القديمة عندما كنت أنا طفلة صغيرة، وأتذكر محاولاتي الأولى لاكتشاف  الأماكن الغامضة المخبأة في جسدي، وإصرار أمي على منع تلك المحاولات الطفولية، بنظرات زاجرة ونبرة حاسمة "كده عيب"، "إقفلي رجلك"، "نزلي الفستان"، "غطي". ليترسخ داخل عقلي الطفولي، أن جسدي لغز، سر أعظم، قفص حديدي لا يجب اختراقه أو كشفه.

لأن هذا الفصل من الكتاب ربما يصبح شهادة شخصية ستبقى لسنوات، يجب أن أقول بصدق إنني لا أحمل أي ضغينة ناحية أمي لهذا الأمر. الوعي يجعلنا نتقبل ضعف الآخرين وانسياقهم للخوف من العقل الجمعي المترسخ بداخلهم، لكن ربما أتساءل كيف يمكن أن يتكون ذلك الوعي الذي يمكنه أن يتجاوز ذلك العقل الجمعي والعمل على تغيره، وتكوين عقل جمعي جديد، أكثر حرية وتقبلا لفردانية كل إنسان.

 

عندما لا يمتلك الإنسان جسده لا يمتلك وجوده

تعد واحدة من أهم المساهمات التي قدمها (رودلف شتاينر) لعلم الأنثروبوصوفي، هي تقسيم الحواس البشرية إلى 12 حاسة. رأى شتاينر أن الإنسان يستخدم نظاما أكثر تعقيدا، من انطباعات الإحساس في تفاعله مع العالم، مما تسمح به الحواس الخمس التقليدية. إذ لا توفر الحواس الخمس سوى فهما سطحيا جدا للتجربة الإنسانية، وإذا أردنا الحصول على نظرة أعمق للطبيعة البشرية، من الضروري توسيع معرفتنا بالحواس البشرية التي تمثل الإنسان بشكل كلي، وكيف تعمل هذه الحواس.

تعرف الأربع حواس الأولى من هذه الحواس الإثنى عشر بالحواس السفلى، أو الحواس التأسيسية، إنها حواس اللمس والحياة والتوازن والحركة. تلك الحواس التأسيسية هي التي توفر الأساس الذي يحتاج إليه الإنسان منذ طفولته لتحقيق النجاح الأكاديمي، والاجتماعي والعاطفي. وتعد حاسة اللمس واحدة من أهم تلك الحواس السفلى، لأن الشعر باللمس هنا لا يتعلق بالأحاسيس التي تشعر بها عندما تلمس شيئا. إذن تاذا تعني حاسة اللمس لدى شتاينر؟

تمثل حاسة اللمس الحدود بين الإنسان وبين الآخر، سواء كان شىء، أو شخص. إنه الشعور الذي يجعلنا ندرك أننا جميعا أفراد منفصلين عن العالم الخارجي، بوعينا الذاتي والفردي. الشعور باللمس هو الذي يعرف الإنسان أين ينتهي كشخص، وأين يبدأ العالم الخارجي. يسمح لنا بفهم مكانتنا الفردية في العالم، وفهم شخصية الآخرين الخاصة. حاسة اللمس والشعوور باللمس هو السبب الوحيد لوجود الآخر، لأنه يوفر حاجزا بين أنفسنا وبين كل ما يحيط بنا ويفصلنا عن بعضنا البعض، وعن العالم. وفي الوقت نفسه تعتبر حاسة اللمس هي المرادف الأول للتواصل، عندما نريد أن نكون أقرب إلى الآخرين، نمد يد ونلمس الآخر؛ ذلك اللمس الذي يتبعه الوصول إلى طبقة أعمق من الألفة.

كل ما ألمسه يلمسني، وأشعر وقتها بالصلة مع العالم. إذن إحساس اللمس هو ما يجعلنا في تبادل مع العالم الخارجي، وفي الوقت نفسه نكون مستقلين تماما داخل حدود الجلد.

ما الذي أقصده من كل الحديث عن حاسة اللمس في معناها الأعمق؟ أقصد في النهاية أن الجسد هو بوابتنا الشخصية للعالم، وعندما لا يستطيع الفرد التحكم في جسده، لا يمكنه بالقطع التحكم في طريقة وجوده في العالم بالشكل الذي يرغب به بالفعل، وليس ذلك الشكل الخارجي من الوجود والتفاعل السطحي مع العالم.