تعكس الأعمال الأدبية
عادة الصراعات الأيدلوجية في ثقافتها سواء كان ذلك عن قصد أو بغير قصد من المؤلف،
فبكل تأكيد يتأثر الكُتاب بالنزعات الأيدلوجية في أزمانهم، وقد كان الكاتب
"يوسف إدريس" من المبدعين الذين تطرقوا إلى القضايا الاجتماعية
والسياسية والفكرية فقد كان يناقش قضايا ومشكلات المجتمع المصري المعاصر في الريف
أو المدينة، يلاحظ الحياة الشعبية المصرية ملاحظة دقيقة، وبدا له الإنسان الصغير
سواء كان فلاحًا بسيطًا أو طفلة تعمل كخادمة بيوت الأثرياء كنزًا من المشاعر
والأحاسيس التي تكشف له عن أسرار الحياة .
إن رواية "الحرام
لـ"يوسف إدريس"، عميقة المعنى والدلالة، فقد اختار الكاتب أحداثها من
ظلام مرحلة تاريخية سابقة حين كان الإقطاع، ونظام التفتيش يسود ويطحن الفلاح
المصري بلا إنسانيته وتظل لها أهميتها وقدرتها على مخاطبة انسحاق الإنسان والفلاح،
فيصور لنا المؤلف قدوم عربات النقل تحمل الأنفار، لا تكاد تميز فيها الرجل من
المرأة ولا الولد من الفتاة، وينشئون لأنفسهم مأوى خلف الأسطبل.
أعطانا الكاتب فكرة واضحة عن تصرفات الشخصيات، وكأنه
يقول للقارئ نصف الحقيقة ليجعله في نهاية الرواية يكتشف بنفسه النصف الآخر، فتظهر
"عزيزة" الشخصية المحورية في الرواية، وكأنها الجانية التي تستّر عليها
أصحابها، وتتكشف لنا تدريجياً بعد استعراض بطيء للأحداث استهلك نصف الرواية، وجعل
القارئ يشك في كل الشخصيات التي طالعها وهو بانتظار أن يفتح له المؤلف نافذة
الحقيقة ليطل على الجوانب الخفية.
القارئ منذ بداية
الرواية عرف أن هناك جريمة قتل قد حدثت لطفل حديث الولادة اكتشفه صدفة أحد الأشخاص
وهو "عبد المطلب"، الذي كان يستحم صباحاً في إحدى الترع، مستعدًا لصلاة
الصبح، وبعد تأديته للفريضة ومشيه بين الحقول وتأمله لها فوجئ "عبد
المطلب" بجسم أبيض غريب يرقد على جانب من الجسر، فرح "عبد المطلب"
فهو ككل الناس ما يكاد يرى على الأرض شيئاً يختلف لونه عن لون الأرض إلا ويعتقد
أنه عثر على "لقية" إلا أن تلك "اللقية" لم تكن سوى جنين
مخنوق لا حياة فيه.
من منظور نسوى لأحداث
الرواية نجد أن الأيدلوجية الذكورية تفترض بأن هناك هويتين فقط يمكن للمرأة أن
تحصل على إحداهما، فإن قبلت دور الجنس
التقليدي واتبعت الذكورية أصبحت فتاة طيبة، وإن هي لم تفعل فهي فتاة سيئة، وذلك
حسب علاقتهما بالنظام الذكورى وبالطبع تتغير تحديد الفتيات الطيبات والفتيات
السيئات حسب الزمان والمكان اللذين يعيشن فيهما.
يمكن القول أن من
يستطيع القيام بعملية التحديد هو الذكورية لأن كلا الدورين انعكاس لرغبة الرجل الذكوري،
مثلا الرغبة في امتلاك النساء "ذوات القيمة" مناسبات لكي يكن زوجات
وأمهات، والرغبة في السيطرة على المرأة جنسيًا لأن نشاطها الجنسى يهدد نشاط الرجل
والرغبة في الهيمنة على جميع الأمور المالية، وتخدم هذه الرغبة الأخيرة الأيدلوجية
الذكورية إذ تعتبر أنواع من العمل غير مناسب للفتيات الطيبات.
عندما وجد اللقيط أخذ
رجال العزبة يبحثون بين أهل العزبة من النساء عن الآثمة، وهنا تتجلى العقيدة
الذكورية لدي "فكري أفندي" حيث يفعل الحرام ويستبعد الآخرون أن يفعلوه
حتى أنه يعتقد أن نساؤه الساقطات لسن بساقطات، الساقطات فقط من تفعل الحرام وتأثم
مع غيره، وكأنه يحمل معه صك الغفران والتوبة والمتعة في آن واحد، ولم يقتصر الأمر
على ذلك بل عندما تتجول عينيه بين نساء الترحيلة أو أهل العزبة، كانت تبحث عن الأم
التي تصلح لارتكاب ذلك الحرام.
فهو يرى أن الرجل دوره
فى الحرام ليس أمرًا أساسيًا، أما الأم فدورها أساسى، وذلك بفعل تلك العقيدة
الذكورية والنظام الأبوى البطريركى ، الذى يعتقد أن المرأة وعاء للجنس والمتعة ،
وأنها هى التى سوف تحمل بذرة خطئيتها، أم الرجل فلا بأس عليه.
إن شخصية
"عزيزة" أم اللقيط، والمحرك الأساسى للأحداث قد أظهرها الكاتب كإنسانة
سوية طبيعية مثل أي فتاة عاشت طفولتها وشبابها في كنف مجتمعها وأهلها "كانت
ذات يوم بنتاً حلوة ذات أهداب وشعر ونهود، تضع الكحل وتطقطق بالشبشب إذا سارت، إلى
أن تزوجت عبد الله وأيضاً كان لها ليلة حنة وصباحية لم تستمر إلا صباحاً واحداً
والصباح الذي يليه كانت في الغيط"، فصورة "عزيزة" صورة واقعية
لفلاحة مصرية ،عانت من الفقر والعوز والبؤس خاصة
عند مرض زوجها.
فمعاناة
"عزيزة" تعبير عن واقع اجتماعي واقتصادي حيث عمال التراحيلة أو ما
يسمونهم بـ "الغرابوة" تلك الطبقة المطحونة اجتماعياً واقتصادياً التي
تضطر للترحال وراء لقمة العيش تاركين منازلهم وأطفالهم ويعملون بأبخس الأثمان
ويتحملون من الظلم ما يجعلهم ينوءون ويرضخون لأصحاب العمل، فتلك الصورة قاتمة
للغرابوة هى الفئة التي تنتمي إليها "عزيزة" التي تعمل وتحاول توفير
فتات العيش لأطفالهم.
عالج
"إدريس" خطيئة "عزيزة" التي ارتكبتها رغماً عنها، فقد هيأ لها
كل الأجواء والظروف وأعطاها أدق التفاصيل والمسوغات لارتكابها جريمتي الحمل السفاح
والقتل، وقال لنا بصراحة أنها ضحية ظروفها القاسية فلم تتحمل الفضيحة لأنها امرأة
سوية، وهي امرأة حباها الله بالوداعة والأمومة فكيف تقتل وليدها، وهل ستمر تلك
الفعلة دون أي رد فعل منها، فالشر لم يكن يوماً في داخلها، ولم يكن يوماً بداخل أي
فرد أو إنسان ، فالشر ظاهرة اجتماعية أولاً وقبل كل شيء يظهر مع ارتباك العلاقات
الإنسانية وانعدام الفرص السليمة أمام الأفراد. فالشرف والفضيلة مثل المأكل
والملبس كلها أشياء تتاح لبعض الناس ولا تتاح للآخرين، ليس حسب طبيعة الأفراد
وإنما حسب ظروف الأفراد
يحتد الصراع عندما
يشتد مرض زوجها وطلب منها في أحد الأيام وبدلالة المريض أن تأتيه بـ "حبة
بطاطا" وكأنها الأمنية الأخيرة لـه في حياته، وما كانت الزوجة الوفية لترفض
لـه طلباً ولم يكن في البلد- بطاطة. كانت هناك مزرعة بطاطا في فدان
"قمرين"، وحملت عزيزة فأس زوجها الصدئة وتوجهت لتلك الأرض علها تعثر على
قطعة بطاطة غفل عنها حاصدها، وحفرت في الأرض عدة حفر ولم تكن تدري أنها حفرت قبرها
بيدها، ومن هنا بدت نقطة ضعف المرأة أوحى بها المؤلف من خلال أسلوب وصفه لطبيعة
نظراتها للرجل، فها هي"عزيزة" تحاول أن تتغلب على ضعفها وقسوة الحياة
عليها.
فقد كان الكاتب يحمل
معه إسقاطات المجتمع المتناقض فجاء النص الأدبى محملاً بالرموز والدلالات التى
تنسحق أمامها المرأة فى مقابل سلطة الرجل وأيدلوجية الذكورية المنهكة التى يحملها
، فالحفر في الأرض. وقوة الرجل وسيطرته على الفأس وتكور عضلاته وتحكمه بالأرض
مقابل ضعف عزيزة ومقارنة قوته وضعفها كلها صور ذات دلالات أخرى، إن الكاتب لا يقول
لنا صراحة أن عزيزة بمراقبتها للرجل قد رسمت في مخيلتها صورة الرجل القوي الفحل أو
أنها فكرت بالجنس، وربما عقدت مقارنة بينه وبين زوجها المقعد، لكنها امرأة مخلصة
وفية ولن تسمح لنداء غريزتها أن تستغرقها، فقد استبعدت هذا الهاجس الشيطاني بسرعة
ولم تفكر بارتكاب الخطيئة وعادت لوعيها وواقعها ورمت بأحلام اليقظة بعيداً عن
مخيلتها، لكن الكاتب يعاود الكرة عليها عندما يقوم "بن قمرين" بالحفر فى
الأرض مرة أخرى ليجد لها حبة بطاطا حقيقية وليست جذرًا.
وبهذا المشهد يعطينا
الكاتب الدليل القوي على أن ما فكرت به قبل قليل كان خيالاً فقط لم تستطع أن تبعده
عن مخيلتها وفكرها، ولكنها استطاعت أن تمنعه من التحقق فهي قد آمنت بقدرتها وأرادت
الرجوع بسرعة لزوجها وأطفالها. لكن مع شكرها ودعواتها "لمحمد بن قمرين"
ورجوعها للخلف لم تنتبه للحفرة التي كانت خلفها، خاصة وإن الشمس قد أوشكت على
الغروب والرؤية غير واضحة، وهي مرتبكة، فقد فوجئت بنفسها تسقط مرة واحدة، نصفها في
الحفرة ونصفها على الأرض لم يحاول مساعدتها على النهوض بل قام بالإعتداء عليها دون
مقاومتها، وكانت تعى أنها لحظة ضعف استغلها الجاني وساعدته هي أيضاً بصمتها.
كانت الغلبة للشخصيات
النسوية فى النص الأدبى فقد أراد الكاتب أن يتوغل فى ظلمات عالم المرأة حيث القهر
والسلطة الأبوية التى تهيمن عليها ، فجذر البطاطا ليس السبب الأوحد فى موت الطفل
اللقيط ولا فى موت عزيزة بعد عشرة أيام من والدتها بل كان سبب فى تعرى تناقضات المجتمع
، فعزيزة كانت حتى نهايتها امرأة قوية مسئولة تحملت زوجها وفقرها ورغم الحاجة
والعوز ظلت معه تسانده وتعيش على الكفاف نتيجة كدها وسعيها وراء القليل من الخبز ،
إلا أن لحظات من الضعف الإنسانى لا توصم مجتمع السيدات بأكمله ، فالضعف سمة غالبة
وموجودة فى كينونة الإنسان ، لتصبح عزيزة أيقونة تجمع ما بين الصبر والضعف والقوة
وجميع تناقضات المجتمع الذى تحكمه أعرافه المهترئة.