الخميس 4 يوليو 2024

التاريخ يروي.. النزعة الشيشرونية وأفلاطون

فن7-12-2020 | 21:01

حال شيشرون مثل أغلب معاصريه من الرومان، فهو تعلم باليونانية وترجم منها مفاهيم الفلسفة اليونانية إلى اللغة اللاتينية وبذلك وفر لطلاب الفلسفة والمثقفين الرومان معجما فلسفيا منثورة مادته في نصوصه وكتاباته.

وترجم العديد من الأعمال الفلسفية وقدمها للجمهور الروماني، ومن الملاحظ إن شيشرون بدأ بدراسة اللغة والثقافة اليونانية وهو في سن الصبا، لذلك كانت العوائلات والأصدقاء المقربين لعائلته، يطلقون عليه في مرحلة الصبا وللتندر "الولد الصغير اليوناني".

نشأت مؤلفاته في الفلسفة والأخلاق في أوقات ابتعاده عن السياسة وترمي في المقام الأول إلى تلخيص تعاليم حكماء الإغريق السياسية وتقديمها للرومان بلغة لاتينية سهلة، واضحة وجذابة. وقد جمل بحوثه بالحوار مقتديا بأفلاطون، واضطر إلى ابتكار مصطلحات فلسفية لاتينية ونجح في هذا نجاحا باهرا.

 تأثر شيشرون بفلاسفة الأكاديمية ونهل من مبادئ الرواقية على يد أستاذه بوسيدونيوس وكان يكن احتراما فائقا لأفلاطون، الذي دعاه بالإلهي، ومن أهم أعماله: "عن غايات الأخيار والأشرار" ويطرح فيه كافة النظريات حول الخير الأسمى متأثراً بالتعاليم الرواقية.

وفي "مناقشات توسكولوم"،  يعالج شيشرون فكرة الموت والحزن والخوف والعاطفة وكل ما هو ضروري لتحقيق السعادة وبخاصة الفضيلة. وأظهر شيشرون اهتماما بالفكر الديني في بحثه "في طبيعة الآلهة" وهو يقع في ثلاثة كتب تعكس آراء الأبيقورية والرواقية والأكاديمية حول طبيعة الآلهة والعناية الإلهية.

أما كتابه "في فن التنبؤ"،  فيدور حول طبيعة العرافة والتنبؤ، وفي مقال "في الصداقة"، يشرح شيشرون أسس الصداقة الحقيقة وعلى رأسها الفضيلة، وآخر أعماله في الأخلاقيات كتابه "عن الواجبات" الذي يشرح موضوع الأمانة والفائدة كدافعين للسلوك الأخلاقي ويوضح الصراع بينهما.

لم يتأثر شيشرون بأفلاطون فقط، كان معجبا بأرسطو أيضا، وفي كتابه "هورتا نسيون" أشاد برأي أرسطو الذي اعتبر أن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، وأن المجتمعات البشرية إنما تنشأ من غريزة الإنسان الجماعية وليس من شعور الإنسان بالنقص إذا عاش وحده كما كان يرى أفلاطون!

الجمهورية بين إفلاطون وشيشرون:

في دراسة الباحث المصري محمد الكيلاني"المثالية بين أفلاطون وشيشرون"، وضح لنا الفروق والاتفاقات الجوهرية بين فلسفة أفلاطون وفلسفة شيشرون.

وذكر أنه، لا شك أن شيشرون في جمهوريته قد تأثر بجمهورية أفلاطون المثالية وكان حلم الجمهورية بالنسبة لشيشرون نتاجا للإنحلال والفساد السياسي في روقان تصوير الدولة المثالية بين أفلاطون وشيشرون، الأمر الذي جعله يعلن أن أحسن وسيلة لخلق السعادة في المجتمع هي وجود مدبر للحكم، وعلى عاتق مثل هذا الحاكم يقع تقدم الشؤون الاجتماعية، كما تتعلق سلامة ركاب السفينة على من يمسك بقيادتها. وهو أثر أفلاطوني، حيث افترض شيشرون أن رجل الدولة والكون في كلتا سماته الطبيعية والأخلاقية يجي من تأمل الكون، ويجمع رجال دولته بشكل حرفي لدعم حكومته على الأرض ومكافئتهم بالسعادة الأبدية في الآخرة، دون أن يكون له ولرجاله أطماع ذاتية.

وأكد شيشرون بناء على النهج الأفلاطوني ضرورة معرفة علم الفلك والمعرفة الفلسفية ودورهما في معرفة الحقيقة، تلك المعرفة التي تطلق سراح الرجال من المخاوف التافهة وعلى الرغم من ذلك لم يقر شيشرون بما سماه أفلاطون، بحكومة الملك الفيلسوف.

أمر آخر وهو، وصف جمهورية شيشرون، البشر بالنظرة الأقرب إلى التدين وينتهي حلمه بنفس الوصف، وأن روح الرجل الذي يهتم بأمان بلاده، ستعود روحه بسرعة أكبر إلى بيتها المعماوي، وعلى الرغم من اهتمام شيشرون بلاهوت النفس الإنسانية، ووجود المعايير الأخلاقية الثابتة للحكومات الدنيوية، فكان شيشرون في هذا القول أكثر أفلاطونية.

وعلى الرغم من تقديس شيشرون لأفلاطون، إلا أنه لم يسلم بتصور أفلاطون الكامل للدولة المثالية من ضرورة وجود الحاكم الفيلسوف الذي لا تتولى الدولة المثالية بين أفلاطون وشيشرون.

وتمسك شيشرون في جمهوريته التي كانت مزيجا من التعاليم الأفلاطونية والرواقية، بعيدة المواطنة العالمية عند الرواقيين لربط المجتمع العالمي للبشرية داخل محدود الفكر السياسي الروماني، ولتبرير الغزو الروماني وسيادة روما على الدول الأخرى، لقوله إن الكون بأكمله هو بيتنا الوحيد. والأمر المثير للدهشة في جمهورية شيشرون ، هو قوله أن اللغة اللاتينية قاصرة عن وصف بعض الأحداث مثل حالة فساد الأرستقراطية وتحولها إلى الأوليجاركية، ويكتفي شيشرون بقوله إنها وصفت بشكل رائع من قبل أفلاطونه، وكأنها دعوة من شيشرون لقراءة جمهورية أفلاطون قبل قراءة جمهوريته، وعجز اللغة اللاتينية عن توضيح بعض الأفكار الفلسفية .

شيشرون والنزعة الشيشرونية بعده:

اهتمت دوائر البحث الأكاديمية الغربية بتراث الفيلسوف ورجل الدولة والخطيب ماركوس شيشرون في وقت مبكر. فمثلاً، بينت لنا بأنه لم ينقض وقت ملحوظ من الزمن على وفاة شيشرون، وأن واحدا من معاصري شيشرون ورفيق حياته ماركوس تيليوس تيرو "توفي عام 4 قبل الميلاد"، والذي كان في البداية عبدا يعمل في بيت شيشرون ومن ثم حرره من العبودية. وهو غالبا ما يذكر في رسائل شيشرون. وبعد موت شيشرون قام بنشر أعمال سيده.


كما أن تيرو كتب العديد من الكتب وبطريقة مختصرة، وكتب تيرو أول سيرة ذاتية عن سيده وصاحبه شيشرون. إلا أن هذه السيرة، مع الأسف، تعد اليوم من المفقودات.