ابن رشد الأندلسي، هو أكبر شارح لفلسفة آرسطو،
وقد انتدب نفسه للدفاع عن الفلاسفة ومعارضة آراء الإمام الغزالي، التي تحامل فيها
على الفلاسفة المسلمين، ما جعل المتكلمين واللاهوتيين يتهمون ابن رشد بإلالحاد،
غير أن فيلسوف قرطبة هو أول من حاول التوفيق بين الشريعة والحكمة.
لم
يقتصر عمل ابن رشد، على تفسير الفلسفة اليونانية فحسب، بل اتخذ منهجا أًصيلا في
فلسفته، فقد اكتشف أن المترجمين العرب الذين نقلوا فلسفة آرسطو، تصرفوا كثيرا فى
كتاباتهم ما أدى إلى تشويه بعض أراء المعلم الأول، أما ابن رشد فقد ثبت بجدارة على
أصالته الفكرية، لذلك أقبل الكثير على فلسفته وكادوا يتناسون شروحات الآخرين.
إن أعظم المسائل التي شغلت حكيم قرطبة
مسألة أصل الكائنات. وهو يرى في ذلك رأي آرسطو، فيقول ابن رشد: "إن كل فعل
يفضي إلى خلق شيء إنما هو عبارة عن حركة، والحركة تقتضي شيئا لتحركه ويتم فيه
بواسطتها فعل الخلق"، وهذا الشيء هو في رأيه المادة الأصلية التي صنعت
الكائنات منها، ولكن ما هي هذه المادة؟ هل شيء قابل للانفعال ولا حد له ولا اسم
ولا وصف، "بل هي ضرب من الافتراض لا بد منه ولا غنى عنه".
وبناءً
عليه يكون كل جسم أبديا بسبب مادته، أي أنه لا يتلاشى أبدا، لأن مادته لا تتلاشى
أبدا، وكل أمر يمكن انتقاله من حيز القوة إلى حيز العمل لا بد له من هذا الانتقال،
وإلاّ حدث فراغ ووقوف في الكون. وعلى ذلك تكون الحركة مستمرة في العالم، ولولا هذه
الحركة المستمرة، لما حدثت التحولات المتتالية الواجبة لخلق العالم، بل لما حدث شيء
قط. وبناءً عليه، فالمحرك الأول الذي هو مصدر القوة والفعل أي الخالق سبحانه
وتعالى يكون غير مختار في فعله.
يأخذ ابن رشد إجابة سؤاله عن "ما
هي علاقة الإنسان بالخالق..؟ من
ثنايا فلسفة آرسطو من الفصل الثالث من كتابه "النفس"، فهو يرى أن في الكون عقلا فاعلا وعقلا منفعلا،
فالعقل الفاعل هو عقل عام مستقل عن جسم الإنسان وغير قابل للامتزاج بالمادة، وأما
العقل المنفعل؛ فهو عقل خاص قابل للفناء والتلاشي مثل باقي قوى النفس. وإنما يقع
العلم والمعرفة باتحاد هذين العقلين.
ذلك أن العقل المنفعل يميل دائما للاتحاد بالعقل
الفاعل، كما أن القوة تقتضي مادة تنفذ فيها والمادة تقتضي شكلا توضع به، وأول
نتيجة تحل من هذا الاتحاد تدعى العقل المكتسب، ولكن قد تتحد النفس البشرية بالعقل
العام اتحادا أشد من هذا، فيكون هذا الاتحاد عبارة عن امتزاجها جد الامتزاج بالعقل
القديم الأزلي. ولا يتم هذا الاتحاد بواسطة العقل الاكتسابي الذي تقدم ذكره، فإنما
وظيفة العقل الاكتسابي إيصاله إلى حرم الخالق الأزلي.
واتصاله به أمر لا يتم إلا بطريق
"العلم"، فالعلم إذن هو سبب "الاتصال" بين الخالق والمخلوق،
ولا طريق غير هذا الطريق، ومتى اتصل الإنسان بالله يتصل الإنسان بالله؟ يتصل به
بأن ينقطع إلى الدرس والبحث والتنقيب، ويخرق بنظره حجب الأسرار التي تكتنف الكون،
فإنه متى خرق هذا الحجاب ووقف على كنه الأمور، وجد نفسه وجها لوجه أمام الحقيقة
الأبدية.
يضع ابن رشد مثالا يوضح من خلاله حقيقة
مذهبه في مسألة اتصال الخالق بالكون، فإنه يشبه حكومة الكون أي تدبيره بحكومة
المدينة، فكما تتفرق كل شؤون المدينة وتتجه إلى نقطة واحدة وهي نقطة الحاكم العام،
لذا يكون هذا الحاكم مصدرا لكل شؤون الحكومة، ولو لم تكن له يد في كل شأن من هذه
الشؤون، كذلك الخالق في الأكوان، فإنه نقطة دائرتها ومصدر القوات التي تدبرها، وإن
لم يكن له دخل مباشر في كل جزء منها، فبناءً على ذلك لا يكون للكون
"اتصال" بالخالق مباشرة، وإنما هذا الاتصال يكون للعقل الأول وحده.
فيرى ابن رشد، العقل الأول أنه المصدر الذي تصدر عنه
القوة للكواكب، وعلى ذلك فالسماء في رأي فيلسوف قرطبة كون حي بل أشرف الأحياء
والكائنات، وهي مؤلفة في رأيه من عدة دوائر يعتبرها أعضاء أصلية للحياة. فالنجوم
والكواكب تدور في هذه الدوائر.
أما العقل الأول الذي منه قوتها وحياتها؛ فهو
في قلب هذه الدوائر. ولكل دائرة منها عقل، أي قوة تعرف بها طريقها، كما للإنسان
عقلا يعرف به طريقه، وهذه العقول الكثيرة المرتبطة ببعضها البعض، إنما هي عبارة عن
سلسلة من مصادر القوة التي تحدث الحركة من الطبقة الأولى في السماء إلى أرضنا هذه.
وهي عالمة بنفسها وبما يجري في الدوائر السفلى البعيدة عنها. وبناءً على ذلك يكون
للعقل الأول، الذي هو مصدر كل هذه الحركات علم بكل ما يحدث في العالم.