وصف الشاعر الكبير والكاتب الصحفي
المبدع صالح جودت بأنه مادح الملوك والأمراء، وحقيقة الأمر أن الرجل لم يكن أبدا
يبتغي مالا أو وساما عما نظمه من قصائد يمتدح بها الملك فاروق أو الملك عبد العزيز
العاهل السعودي عندما جاء لزيارة مصر عام 1946، فصالح جودت كانت له مكانته
المرموقة في الصحافة والإذاعة المصرية، إذن مدحه للملكان لن يزده علوا، وكان جودت
متيسر الحال ولم يرزق بأبناء ويفتح داره يوميا للأصدقاء وبها كل ما لذ وطاب من
المأكولات ليكون ذلك ونسا له ولزوجته عوضا عن وجود أبناء.
كما أكدنا أن جودت لا يحتاج لمديح
أحد، إذن كيف خرجت من بين أنامله قصائد تمدح الملك فاروق؟ هنا نعتمد على الإستنتاج
، فمن المؤكد أن جودت لم يسع من تلقاء نفسه لصياغة قصائد المديح، فهناك من مال
عليه وطلب منه قصائد ليغنيها، لتحية الملك أو الرئيس والمقصود هنا هو الموسيقار
محمد عبد الوهاب والسيدة أم كلثوم .
يجد الباحث في تاريخ الغناء الوطني
لأم كلثوم بأنها كانت السباقة في مجاملة الأسرة الملكية، من خلال الشاعر الكبير
أحمد رامي، ومن المؤكد أن ما تم نظمه وغناؤه كان بالاتفاق بين رامي وثومة لمجاملة
الأسرة الملكية، إذن فقد سبق رامي صالح جودت في مدح الأمراء والملك من خلال نظمه
لأنشودة "اجمعي يا مصر أزهار الأماني" عام 1937 بمناسبة ميلاد الملك
فاروق، ثم "ارفعي يا مصر أعلام السرور" بمناسبة زواج الملك في 20 يناير
1938ثم "أشرقت شمس التهاني" في نفس العام للملك أيضا، ثم "لاح نور
الفجر" بمناسبة عيد جلوس الملك عام 1941 ، وكل هذه القصائد غنتها أم كلثوم من ألحان
الموسيقار رياض السنباطي، ومن بعد رامي غنت أيضا لمديح من نظم محمود حسن إسماعيل
"تحية الربيع" في عيد جلوس الملك عام 1944، وفي عيد ميلاده عام 1946 غنت
"أيقظي يا طير نعسان الورود" من نظم مصطفى عبد الرحمن، ويدخل أمير
الشعراء دائرة المادحين للملك بنظمه أنشودة "عيد الدهر" بمناسبة جلوس
الملك في 6 مايو 1948.
ما رصدناه في الفقرة السابقة يوضح
ضلوع رامي وشوقي وغيرهما في مديح الملك وأسرته، ومن الواضح أن الدافع كان رغبة كوكب
الشرق في مجاملتهم، وأيا كان سبب الحدث والرغبة فأن جمهور المستمعين هم الفائزين
بتلك الروائع الكلثومية .. ولم نجد حتى التاريخ الأخير تقديم أي عمل من نظم صالح
جودت لأم كلثوم، لكن على الجانب الآخر كان هناك المنافس والقمة الغنائية الأخرى
التي ترى أنه عليها أيضا المجاملة وتتمثل في شخص الموسيقار محمد عبد الوهاب والذي
طلب من صالح جودت نظم أنشودة ليغنيها في عيد ميلاد الملك وكانت "أنشودة
الشباب" ثم "أنشودة الفن" الشهيرة ثم "هل السلام في
مواعيدك" بمناسبة ميلاد الملك أيضا عام 1945 ، أما سبب نظم جودت لأنشودة
يمتدح فيها الملك فاروق والملك السعودي عبد العزيز آل سعود، فقد كانت تكليف
وإلحاح ربما من القصر الملكي أو من عبد الوهاب نفسه ليغنيها بمناسبة زيارة الملك
عبد العزيز لمصر وهي أنشودة "التاجين" عام 1946.
مع بداية ثورة يوليو 1952 ذهب بعض من
الضباط لفرز وتصنيف من هم موالون للعهد الملكي، وإن كانت أم كلثوم نفسها احتسبت
على العهد الملكي، فقد أعاد الرئيس عبد الناصر صوتها للإذاعة بجملته الشهيرة،
لكننا ننشر اليوم وثيقة أقالة صالح جودت من الإذاعة المصرية مع 15 موظف ومهندس تم
إنهاء تعاقدهم في 22 نوفمبر 1953، والوثيقة موقعة من 11 ضابطا ومعهم اللواء محمد
نجيب.
من المؤكد أنه حدث تراجع وعودة بعض
الشخصيات للعمل في الإذاعة مرة أخرى، ولكن دعونا نؤكد أن كان صالح جودت قد ساهم
بنظم قصيدتان صريحتان لمدح الملك فاروق بالإضافة إلى "إنشودة الفن" التي
يذكره فيها، فقد سارعت أم كلثوم بعد ثورة يوليو وتحديدا بعد أن أعلن الرئيس جمال
عبد الناصر تنحيه عن الحكم بسبب نكبة 1967 بالإتصال بصالح جودت ليصيغ لها قصيدة
تكون لسان حال الشعب المصري ليطالب الرئيس جمال بالبقاء .. وبالفعل في يوم واحد
انتهى جودت من نظم قصيدة "إبق فأنت حبيب الشعب" ولحنها السنباطي في يوم
واحد لتتغنى بها أم كلثوم وبعدها يعدل الرئيس عن قرار التنحي.
فقط أثبتنا للتاريخ أن جودت لم يكن
مادحا للملوك والرؤساء بغرض التربح أو نيل وسام، وإنما جنوح الفن للمجاملة
والمنافسة كان الدافع لينظم الرجل روائعه وفي الركب كثير من الشعراء سبق ذكرهم
وهناك مالم يتم ذكره.