الإثنين 1 يوليو 2024

الواقعية الكلاسيكية في رواية لي باي فو "كتاب الحياة" الصادرة عن بيت الحكمة

فن17-12-2020 | 12:37

ا"في الليل، المصابيح هي الروح؛ يجذب ضوؤها الناس ويرشدهم إلى وجهاتهم، فلولا المصابيح لماتت المدن!". 

صدرت عن مجموعة بيت الحكمة للثقافة بالتعاون مع منشورات ضفاف بلبنان ومنشورات الاختلاف بالجزائر، رواية "كتاب الحياة" للأديب الصيني لي باي فو، والتي حاز عنها على جائزة ماودون للأدب، أرفع جائزة أدبية في الصين، وقدمت الترجمة العربية لها، المترجمة آلاء إبراهيم، وحررها أحمد صوان، وراجعها أحمد السعيد. 


تلك الرواية التي تجسد تركيبًا محكمًا لعناصر العمل الروائي الثلاثة الرئيسية، الشخصيات والزمان والمكان، وهي من أهم الأعمال الروائية التي تقدم سردًا بانوراميًا لذلك التناقض بين القرية والريف وما بينهما من تفاعلات وطموحات وأحلام. 


وفي خلال ذلك يولي لي باي فو اهتمامًا كبيرًا لأولئك الذين "يمشون بالأرض على ظهورهم"، متتبعًا منهج الواقعية الكلاسيكية في سرد الأحداث، فهو مقتنع بأن البنية العميقة للوعي الاجتماعي لا يمكن رؤيتها إلا من خلال الناس ومصائرهم أينما فرضت عليهم الحياة أن يعيشوها ويتحركوا في فضاء هم الأقدر على خلقه. 


ابتكر الكاتب في هذه الرواية سلسلة من التناقضات التي شكلت أحداث الرواية وتفاعلات شخصياتها، المكاسب في مقابل الخسارة، ابن الأرض في مقابل الغريب، المادة في مقابل الروح، غير أن الرواية تنتصر لنسيج الروح الذي صمد في وجه الاختبارات والاضطرابات العنيفة، وإن كان أيضًا للمادة دور البطل في أحداثها.

ومن الألعاب السردية التي تشي بقدرة الروائي لي باي فو الفذة في الطرح الأدبي، أنه كشف للقارئ مصائر بعض الشخصيات في أول الرواية لا في نهايتها، وعلى الرغم من أن ذلك يعد -عادةً- قتلًا لعنصر التشويق بالرواية، فإنه استطاع أن يجعله أحد عوامل التشويق في البناء السردي، فلم يعد القارئ منشغلا بالمصير بقدر ما صار منشغلًا بكيف ستصل الشخصية إلى هذا المصير.

"كل شخص تتكامل حياته مع الأرض، وهنا موطن الجمال".

قد تبدو رواية "كتاب الحياة" في البداية قصة حياة عادية، فقط هي مليئة بالتفاصيل والأسماء التي تبدو في البداية صعبة النطق؛ لكن سرعان ما تألف أسماءها مثلما تألف وتقترب من شخصياتها، وهذه الرواية التي تقع في 680 صفحة من القطع المتوسط، ليست مجرد رحلة لفتى ريفي استطاع أن يُثبّت أقدامه في المدينة، بل رحلة حياة كاملة، خرج صاحبها من أحلك المآسي حتى صار اسمًا كبيرًا في مجاله وبين محيطيه، يتفاخر به أهل قريته، واجه الكثير وعرف الأكثر. في الرواية نجد الفتى الريفي "ديو"، وقد تحول عالمه بعدما خرج من قريته الفقيرة الواقعة في شمال غرب الصين إلى المدينة القريبة، ثم إلى العاصمة المليئة بالضجيج. لتدور حكايات شيقة مليئة بالتفاصيل التي تدفعه للشعور بأنه يتحرك وسط الأكواخ الخشبية، وينتظر في خوف تعليمات الحزب، ويُطالع مؤشرات البورصة وهو يضع يده على قلبه خشية أن يتوقف مع هبوط الأسهم، بينما تُبهره في المساء أضواء المدن، والفتيات ذوات المعاطف الجلدية المتألقة تحت ندف الثلوج. 

تبدأ الرواية مع أولى خطوات "ديو" إلى المدينة، الموضع الذي يُجسّد أحلامه، والتي كانت تملك من الوفرة والدفء ما يغنيه عن  الملابس الثقيلة في ليلته الأولى الباردة، حتى أنه رأى كل مصباح في الطريق الأسفلتي المُغطى بالثلوج وكأنه منارة تُضيء طريقه نحو مستقبل أفضل. 

على الرغم من سعيه الحثيث إلى الابتعاد عن قريته التي هي بمثابة ثلاثة آلاف فم لا تكف عن الثرثرة، وستة آلاف عين هم مجمل أهل قريته البسيطة؛ فإن هؤلاء البسطاء اعتبروه سفيرهم إلى العالم المتحضر. 


هكذا انهالت عليه المكالمات الهاتفية من أجل قضاء مصالحهم المُعطلّة، بينما لا يعرف كيف يُخبرهم بأنه لا يزال لا شيء، مجرد باحث عن نفسه وسط ملايين الباحثين؛ لكنه خرج من تلك التجربة وهو يُعاني من رهاب الهاتف، يكره رنينه الذي كلما سمعه استشعر مصيبة بانتظاره، أو طلبًا هو أقل من أن يلبيه! وفي ربط لحياته السابقة بحياته الجديدة، يسرد الكتاب لي باي فو بأسلوب رشيق تشريحًا دقيقًا للمجتمع الصيني في الريف والمدن؛ عبر تقديمه شخصيات من أهل القرية أثّرت في حياة "ديو" الذي صار فيما بعد "المدير وو"، وكيف كانت تُعامل هذا الفتى اليتيم الذي صار أستاذًا جامعيًا، ثم رجل أعمال كبير. 

عبر هذه الشخصيات يبرز تنظيم وتغلغل الحزب الشيوعي الصيني في أصغر وأبسط الأماكن، ومدى السلطة التي يتمتع بها المنتمين للحزب، والرهبة التي يتعامل بها الفلاحون معهم.


كذلك يُبرز الكاتب تلك النظرة المُنبهرة التي يرى بها الفلاحون وأهالي البلدات الصغيرة سكان المدن؛ وتفاصيل التعاملات فيما بينهم، كيف يرى كل منهم الآخر، وما الذي تتضمنه جلسات نساء القرية وأحاديثهم اليومية، ورجالها الذين لا يُمانعون ارتكاب النقائص أو "العيب" الاجتماعي بشرط ألا يُمسكهم أحد متلبسين، عندها -شأنهم شأن كل القرويين في العالم- يسرعون لارتداء دروع الشرف والصياح بأعلى أصواتهم ورجم المُخطئ، ومنهم من لا يتحمل الخطيئة على نفسه، مثل "تشون تساي" الذي "نزل النهر"، فصار مثلًا يُردده الفلاحون فيما بينهم.


"أنا بذرة، غُرسَت في المدينة! أعلم أن ثمة "عيونًا" كثيرة وراء ظهري؛ لكني لا أدري ما إذا كانت أوراق الأشجار التي جفت وتساقطت، يمكن أن تعود لأشجارها مرة أخرى".

أمّا المدينة، فيقدمها لي باي فو مُبرزًا قسوتها رغم أضوائها المُبهرة ولافتاتها اللامعة، والتي عاش "ديو" في كل مستوياتها، بداية من جُحر حقير زاملَ فيه مجموعة من الحالمين، واضطر فيه لكتابة روايات جنسية باسم مستعار لتدر له ربحًا ضئيلًا، حتى صار شريكًا في واحدة من أكبر شركات الصناعة ودخل سوق تداول الأسهم الصينية، وهي الأعمال التي استخدم فيها أيضًا الكثير من الطرق المشروعة وغير المشروعة من أجل الحفاظ على جني الأرباح، حتى بعدما أدى هذا الطريق إلى انتحار "لوه توه" شريكه وأقرب أصدقائه.


وسط كل هذه السنوات الثلاثين التي مثّلت رحلته، تتناثر الوجوه في حياة "ديو"، أبرزهم العم "تساي" الذي كان بمثابة أبيه الروحي ورجل الحزب في القرية، وابنته التي صارت سيدة أعمال كبيرة رغم بدايتها شديدة التواضع في المدينة نفسها؛ وأيضًا الجيران الذين نشأ في بيوتهم الريفية في طفولته، والذين يُعانون من مشكلات أسرية ومادية كبرى، والتي دفعت أحدهم إلى الانحراف، والآخر إلى السرقة، وثالث إلى الهجرة في أرض بعيدة؛ والذين تتشابك مصالحهم وأحداثهم خلال رحلته الطويلة، التي بدأت بخطاب توصية من العم "تساي"، وانتهت كذلك بحضوره القوي، تلك الرحلة التي تسربت عبر تلك السنوات إلى وعي "ديو" وتمثلت في عبارة واحدة لطالما كتبها العم "تساي": "اقرأ كلماتي كأنك تراني".