الإثنين 17 يونيو 2024

أم كلثوم.. هبة الله إلى مصر

فن25-12-2020 | 20:08

في كل يوم وهي تشدو بصوتها على "روتانا كلاسيك"، كثيرا ما أسرح بذهني مع تلك المرأة التي ملأت سماء العالم غناءً وطرباً وسلطنة، وكثير من الحكاوي، التي تروي عنها أو تنسب إليها، أذهب بعيدا مع تلك المرأة الريفية المصرية التي ملكت من الذكاء الفطري الكثير، إضافة إلى الذكاء الاجتماعي، تلك المرأة، التي كانت فتاة صغيرة، تتنكر في زي الفتيان وتجوب القرى المجاورة والمحافظات لتشدو بأنغامها الساحرة، وتنشد في الحضور، والذين كانوا من فرط جمال الصوت، يذبون عشقا ويهيمون إلى درجة الوجد.

صوت تلك الفتاة المتنكرة في شكل صبي وهيئته، يجعلنا نتساءل حول تلك الفتاة الريفية ذات الضفائر الصغيرة، والتي وجدت نفسها تعيش في المنزل كفتاة، تساعد والدتها في كل تفاصيل المنزل، وليلا تقف كفتى على المسرح، أيا كان شكل هذا المسرح، والتي علمت نفسها بنفسها واستوعبت الشعر العربي بكل صعوباته وأدركت الموروث الديني وكانت حافظة للقرآن الكريم.

هذا التناقض الحاد الذي عاشته الطفلة  فاطمة بالتأكيد آثر وانعكس على أم كلثوم المرأة، حيث صارت شخصية قوية، ورمزًا للمرأة المكافحة، التي بنت نفسها بنفسها حتي صارت نموذجا يضرب بها المثل في الشياكة والرقي وفن التعامل وذكاء الشخصية والكياسة، لذلك تم منحها لقب صاحبة العصمة، وهي أول امرأة من عامة الشعب المصري تحمل هذا اللقب في عهد الملك فاروق.

الصبية الصغيرة، التي طالما تنكرت في أزياء الصبيان، ظلت ملازمة للسيدة أم كلثوم طوال حياتها التي امتدت إلى 76 عاما، بمشاعرها المتناقضة ما بين إحساسها كأنثى واحتياجاتها كمراهقة، وبين مشاعرها المحبوسة في هيئة رجل حتى تستطيع أن تغني وسط الرجال في الموالد،  تلك التركيبة المتميزة جعلتها لا تهاب مجالس الرجال أو التعامل معهم، تقف بشموخ معلنة عن سطوة موهبتها لدرجة أن الكثير ممن اقتربوا منها، سواء مهنيا أو شخصيا، كانوا يهابون تلك الأسطورة.

تملك سيدة الغناء العربي سحرها الخاص والذي كانت تدرك مكامن قوته، ولكنها أبدا لم تعل من أم كلثوم الإنسانة على حساب الفنانة، والعكس صحيح طوال مشوارها، فالأولوية دائما كانت لكوكب الشرق ذلك الصوت الخاص والمتفرد، والمكتمل  ذو القوة والمرونة أو الليونة، حيث كانت تجيد الانتقال بين المقامات بحرفية عالية، لذلك كان من الطبيعي أن يغرق السميعة في بحر آهاتها ويصرخون من فرط الجمال.

ثومة التي عاشت لأجل فنها وما تقدمه من ألحان مهمة وفنية وكثير منها يحمل روح التجديد، والآن صارت من  كلاسيكيات الوجدان العالمي وليس المصري والعربي فقط.

وكانت أم كلثوم  ولا تزال امرأة من ذهب تزداد بريقا كلما مر الزمن، فهي الكنز الثمين الذي يسند ويحفظ وجه الفن المصري والعربي، فهي رغم الرحيل لا تزال الأغلى والأبقى في وجدان الأجيال على مر الزمان . 

ولا يختلف اثنان على تفرد وقوة خامة صوتها، وجدت أنها معجزة أكبر من البرازيلية إيما سوماك، أفضل مطربة فى العالم، وكان صوتها يتميز بأنه يعلو على 2 تون، والتون الواحد 8 مقامات، بما يعنى أن صوتها 16 مقاماً، بل يزيد على هذا، وهذه درجة لم تصل إليها امرأة من قبلها، وبعد أن تقدمت فى العمر، انقلب صوتها فى حديثها العادى إلى طبيعة ذكورية، وعلى الرغم من هذا كانت تستطيع أن تغنى بجرس رنان فى الآذان، وهذا هو الإعجاز وذلك بحسب الموسيقين والمتخصصين "صوت أم كلثوم، تلك المنحة التى وهبها الله لها، فهو استثناء لم يضاهِهِ كل من أتى بعدها "صوتها كان معجزة إلهية، وهو إحدى الهبات التى منحها الله لمصر، بما يفوق الأصوات الطبيعية، بحسب الموسيقيين والمختصين، فهي أسطورة عابرة للأزمنة ". 

وأعتقد أنه ورغم الكثير من الدراسات التي كتبت عن كوكب الشرق وسحرها، وبعض المقالات التي حاولت أن تفتش في أسرارها وكواليس حياتها، أن جميعها غير كافية، فهناك الكثير عن تلك المرأة لا نزال نجهله، فهي امرأة كانت تجيد التخفي والتنكر وهذا ما تعلمته من حياتها الفقيرة والمتواضعة في البدايات، وكانت تدرك جيدا أنها امرأة مختلفة صنعت منها المعاناة والطريق الصعب الذي سارت فيه مزيجا فريدا، فهي أبدا لا تعلن عن لحظات ضعفها، وما أكثرها في ظني، بل كانت حريصة على صورة المرأة الشامخة القوية، والتي لا يهزمها شيء، هي كوكب الشرق الذي تشخص ناحيته الأنظار دوما وأبدا، هي من تأخذ الآذان والعقول والقلوب .

لذلك تركت فاطمة حياتها الشخصية وراءها، نعم هناك علاقات عابرة وزيجة اختتمت بها حياتها، فهي امرأة كانت تجيد فن الحسابات لذلك انتصرت طوال تاريخها لأم كلثوم الظاهرة الفنية الفريدة .

هناك الكثير الذي يقال عن سيدة الغناء العربي ولكن شخصيتها هي ما تستحق التأمل والتوقف عندها، في ظل الرحلة الفنية الطويلة التي خاضتها منذ الطفولة وحتى اللحظة التي خلعت فيها عباءة الرجال، وبدأت أولى حفلاتها كفتاة تحمل ملامح مصرية أصيلة، لم تكن ذات جمال طاغ، بل ملكت الحضور الآسر والأخاذ، وصولا لوقوفها على أكبر مسارح العالم، وهي الفنانة والمرأة التي عاشت أزمنة مختلفة غنت للملك ولكن عندما ناداها صوت الوطن لم تتردد في أن تقف وبقوة مع الضباط الأحرار، وكانت خير داعمة للوطن في كل الظروف والمحن، وشدت بصوتها في أقسى لحظات المرار والهزيمة، وكانت على رأس الفنانين الذين تبرعوا لصالح المجهود الحربي وقت الهزيمة، سواء بأموالها الخاصة أو بصوتها ودخول حفلاتها، وغنت أيضا للنصر والعبور، وللسلام.

أم كلثوم تلك المرأة الفريدة الشخصية والحاضرة بقوة في كل المواقف والتي ساهمت في تشكيل الوجدان وجعلت عامة الشعب يتذوق فن الشعر ويرددون وراءها ما تغني من قصائد، أو تواشيح أو طقاطيق أو أغانٍ شعرية، كانت تملك حسا وذكاء فريدا في اختيار من يعملون معها، من شعراء وملحنين، وواصلت توظيف مواهبهم الخالصة لصالح فنها، أم كلثوم مع الموجي حالة خاصة، في حين أنها مع السنباطي تحلق في منطقة مختلفة، ومع القصبجي كانا يمثلان حالة فريدة، في حين أن زكريا أحمد قدمها بصورة مغايرة تماما، أما عبد الوهاب، موسيقار الأجيال، فذهبت معه إلى التجديد ومزج روح الموسيقى الشرقية بالغربية، وجسدت هي وبليغ حمدي "المزاج المصري الخالص"، نفس الحال مع كبار الشعراء الذين تعاونت معهم وعلى رأسهم  أحمد رامي، وأحمد شفيق كامل، ومرسي جميل عزيز، وبيرم التونسي، وأحمد شوقي.

من يحاول أن يقترب من أم كلثوم حقا سيدرك أن التركيبة الشخصية المتفردة، وما عاشته ساهما بشكل كبير في تشكيل شخصيتها الفنية، تلك المرأة التي تبدو أنها بعيدة عن الرومانسية، هي أجمل من غنت للحب، من يترك روحه لها سيعرف كيف تغني في كل مرة بشكل مختلف، تلك المرأة الأسطورة والتي تبدو شخصية شديدة القوة هي في ظني ملكة الغنج والدلع، كان صوتها يحمل كل تلك الأحاسيس مجتمعة القوة والقدرة على التلون والوجع والدلال والغنج والسحر الخالص، لذلك فهي قادرة على أن تأخذك إلى الجنة مباشرة، أو إلى الجحيم لو تمردت عليها .

فاطمة، وأم كلثوم، وثومة، وسيدة الغناء العربي، وكوكب الشرق، تلك المرأة التي حملت ألقابا وصفات كثيرة ستبقى في الوجدان كثيرا لأنها بجانب كل ما سبق ملكت صفتين مهمتين، وهما الإخلاص والصدق، أخلصت لفنها وكانت صادقة في كل كلمة تشدو بها، إضافة إلى وضوح مواقفها وخفة دمها الخالصة، لذلك ستظل ثومة ابنة الشعب ورفيقة وجدانه وسيدة روحه المتربعة على العرش دون منافس.

"الست" التى هامت القلوب "حواليها "ومن لم يعرف أم كلثوم ويعشق صوتها لم يعرف الحب.