"اجتازت العتبة بسهولة، غير آبهة بما يمكن أن يُوقظ مخاوفها" .. إيسخيليوس في مسرحيته "أجاممنون" متحدثًا عن هيلين أجمل نساء الأرض قاطبة.
في عام 1958 نوى الشاعر والكاتب اليساري المصري عبد الرحمن الخميسي تأسيس فرقة مسرحية، وطلب الخميسي من صديقه حافظ أفندي ابراهيم أن تلعب ابنة زوجته الصغيرة سعاد - التي رآها الخميسي مصادفة - دور أوفيليا في المأساة الشكسبيرية الشهيرة "هاملت"، التى نوى الخميسي أن يستهل بها عروضه المسرحية.
كان عمر سعاد وقتئذ لا يتجاوز خمسة عشر عامًا، لم تذهب للمدرسة كغيرها، من الأطفال واكتفت أسرتها بتعليمها فى المنزل، إضافة إلى ذلك لم تجرب حظها في أي تجارب تمثيلية سابقة، ولكن الخميسي رأى أنها هذه الفتاة النحيفة الخجولة قادرة – بعد تدريبها - على تمثيل دور حبيبة الأمير الدنماركي وبعدها ستنطلق إلى فضاءات أخرى من النجومية أليَق بها، وفي حديث له مع ولده الكاتب أحمد الخميسي قال عبد الرحمن إن سعاد نجمة بالفِطرة، تنبه الخميسي لهالة النجومية المحيطة بسعاد مبكرًا وكان سببا في اكتشافها، ولكن عينًا أخرى وافقته الرأي ورأت أن سعاد جديرة بتمثيل دور نعيمة حبيبة حسن المغنواتي.. وهو الدور الذي رُشحت له فاتن حمامة أمام عبد الحليم حافظ، ولكن الفيلم استقر عند الوجه الجديد سعاد حسني والمطرب الصاعد محرم فؤاد.
ولأن البدايات دالة، فقد سطعت سعاد رغم تواضع أدائها في هذا الفيلم، ولكن من حضرعرض الفيلم خرج وهو موقن أن هذه الفتاة هي نجمة المستقبل.
ما الذي حدث بعد ذلك؟ يعرف غالبيتنا ما حدث، إن كان الانفجار لفظ مناسب لوصف توهج موهبة تمثيلية ما، فقد انفجرت موهبة سعاد، وكانت هي القاسم المشترك في أغلب روائع السينما المصرية في عصرها الذهبي بداية من الستينيات مرورًا بالسبعينيات والثمانينيات، زادها تنقلها أمام عدسات عدد من المخرجين نضجًا ورصانة، فالفتاة الخجولة في "حسن ونعيمة" لعبت أدوارا أخرى مختلفة كليًا في:غروب وشروق، والزوجة الثانية، وأين عقلي، الاختيار، أهل القمة، موعد على العشاء، خلي بالك من زوزو، الكرنك ،الجوع، حب في الزنزانة، المتوحشة غريب في بيتي، المشبوه، القاهرة30 .
لم تترك سعاد دورا لم تؤدِه، وفي سنوات قليلة أصبحت نجمة مصر الأولى بلا منافس، وباتت اختيارا مفضلا لأغلب كبار مخرجي هذه الفترة باختلاف توجهاتهم، فقد وقفت سعاد حسني أمام كاميرا 36 مخرجًا منهم: هنري بركات، يوسف شاهين، كمال الشيخ، حسين كمال، محمد خان، علي بدرخان، عاطف سالم، صلاح أبو سيف، يوسف شاهين، سمير سيف وغيرهم.. ولعل ما قاله محمد خان يومًا في وصفها هو الأقرب لوجهة نظري عن موهبتها: "سعاد ممثلة تعمل بالفطرة في المقام الأول ولا تعمل بالصنعة كأغلب ممثلاتنا وهذه الطريقة تجعلها مرهقة جدا". كان خان يقصد أن الشخصية تأخذ من سعاد بقدر ما تتقنها لأنها لا تؤديها من فوق الجلد كغيرها، ولذا نادرًا ما ستجد من لا يحب سعاد لأن هناك بالفعل أكثر من سعاد.
سعاد التي بزغ نجمها في زمن التحول من الملكية إلى الجمهورية، كانت بخفة دمها وملامحها المصرية الأجدر بتمثيل الفتاة المصرية المنطلقة إلى عصر جديد، فتاة أحلام أراد جمهور السينما مشاهدتها لأنها تمثلهم، تبحث في العصر الناصري عن دور إيجابي تقدمه لمجتمعها بعيدًا عن سذاجة بطلات القصور وأيضًا بعيدا عن هوان وضعف بطلات الميلودراما الزاعقة، فتاة مصرية تواجه مشاكلها بلا تهويل ولا تهوين؛ ولذا ظهرت سعاد بمذاق مغاير عمن سبقنها، مزيج من براءة فاتن، ورومانسية ماجدة، ورقة وخجل مريم، وشقاوة شادية المحببة إلى النفس.
ولأن للجمال ضريبة، ولأن حظ سعاد من الجمال كان كبيرًا، فقد كانت الضريبة باهظة تمثلت في فقدان الأصدقاء واحدًا تلو الآخر، ووحدة أطبقت عليها، واختيارات فنية غير موفقة أحيانًا، وعصر جديد للسينما المصرية لم يعترف بعبقرية تمثيلها، ومخرجون جدد تعاملوا بفظاظة مع تاريخها، وسهام صحفية أُطلقت عليها بخسِّة، ونظام حاكم امتنع عن الوقوف بجانبها في محنتها المرضية، فكان كل هذا كفيلا بأن يُدمي قلب أفضل موهبة تمثيلية نسائية مصرية شهدتها السينما المصرية.