إذا
كانت الحضارة الإسلامية قد بلغت آفاقًا عظيمة في ميادين الهندسة المختلفة في العصر
العباسي فلا بد أن تلك الإنجازات الضخمة كان وراءها جهود عبقرية لعلماء أفذاذ، أفنوا
أعمارهم وأموالهم لطلب العلم، وتعليمه لغيرهم، وتيسير سبل الحياة على ظهر الأرض،
ابتعدوا عن معارك النقل والعقل، والتعصب الأعمى لرأي.
وسوف نتعرف في هذا
المقال على ثلاثة أخوة شكلوا أول فريق علمي متكامل، أبدعوا وقدموا للحضارة
الإنسانية مجموعة عظيمة من الاختراعات التي أسست في مجملها البدايات للتكنولوجيا
الحديثة.
من هم أبناء موسى؟
تبدأ
القصة من الأب الذي كان مقربًا إلى الخليفة المأمون العباسي، وأتقن علوم الرياضيات
والفلك حيث اشتهر بحساباته الفلكية المتميزة، ولم يتمكَّن موسى بن شاكر من مواصلة مسيرة
العلم مع بنيه؛ إذ مات وهم صغار.. إلا أنه كان قد عهد بهم إلى المأمون، الذي يواصل
القيام بدوره الفريد في احتضان العلماء ورعايتهم؛ فنراه يتبنى بالكامل بني موسى علميًّا
وتربويًّا؛ فلقد تكفَّل بهم بعد وفاة أبيهم، وعهد بهم إلى عامله على بغداد "إسحق
بن إبراهيم المصعبي" الذي كان – كما تشير الروايات التاريخية – يُسمي نفسه (خادمًا
لأبناء موسى) من كثرة ما كان المأمون يوصيه بهم؛ فلقد كان المأمون لا يقطع السؤال عنهم
كلما كتب إلى بغداد وهو في أسفاره وغزواته في بلاد الروم.
ولم
يُخَيِّب إسحق بن إبراهيم رجاء الخليفة؛ فقد عهد بأبناء موسى إلى شخصية علمية بارزة
في بغداد آنذاك وهو "يحيى بن أبي منصور" مدير بيت الحكمة ببغداد وأحد علماء
الفلك، فنشأ الإخوة الثلاثة نشأة علمية خالصة في ذلك الصرح العلمي الضخم (بيت الحكمة)
الذي كان يُعد محور العلم في الأرض دون منازع؛ إذ كان يعجُّ بالكتب والعلماء والآلات
الغريبة النادرة، في هذا الجو المُشَبَّع بالعلم والمحتدم بالمناقشات الهامة بين العلماء
نشأ هؤلاء الأطفال (بنو موسى) وترعرعوا؛ فلا عجب إذًا أن يصيروا فيما بعد من أساطين
العلم والمعرفة في الحضارة الإسلامية.
دورهم
العلمي:
بحث
أبناء موسى بن شاكر في مجالات علمية عدة، أهمها الهندسة والفلك والجغرافيا، إلا أن
أهم وأشهر عمل جماعي لجماعة بنى موسى، فهو كتاب «الحيل»، «مجلد واحد عجيب نادر يشتمل
على كل غريبة» وبهذا الكتاب ارتبط اشتهار بنى موسى حتى يومنا هذا أكثر من أي كتاب آخر
لهم. ولعل ذلك يرجع إلى أنه أول كتاب علمي عربي يبحث في الميكانيكا، وذلك لاحتوائه
على مائة تركيب ميكانيكي.
وترجع
أهمية هذا الكتاب أيضاً إلى أن علم الميكانيكا العربية يبدأ به، ومن الطبيعي أنه كانت
تتوفر لدى جماعة بنى موسى بعض الكتب اليونانية مما خلفه علماء مدرسة الإسكندرية. ولكن
تأليف كتاب الحيل لبنى موسى بما يشتمل عليه من إبداع في تصميم الوسائل الميكانيكية
- الهيدروليكية لم يكن ليتم بمجرد الاطلاع على الكتب اليونانية، إذ لابد من توفر المناخ
السياسي والاجتماعي والثقافي والمهارة الدقيقة في الصناعات والفنون حتى تتمكن الجماعة
- وخاصة أحمد - من أن تخترع وتصمم بهذا الشكل. ومن المعلوم كذلك أن الآلات المائية
ازدهرت في سوريا طيلة القرون السابقة للإسلام، وكانت هناك تقاليد عريقة ومهارات صناعية
وحرفية متوارثة في هذه البلاد سرعان ما أصبحت جزءاً من الحضارة العربية الإسلامية.
ومن هنا فإن المصادر التي مكّنت بنى موسى من تصميم هذه الأدوات والتجهيزات كانت عديدة،
وكانت المصادر المكتوبة باليونانية واحداً منها.
العمل
الجماعي.. ملامح وإنجازات
كتاب
معرفة مساحة الأشكال البسيطة والكرِّيَّة بني موسى بن شاكر يُعتبر مبدأ (التعاون العلمي) أو العمل
كفريق بحث متكامل من أهم ما ميَّز عطاء "بني موسى" العلمي؛ فروح الفريق لا
تُخطئها العين في أكثر أعمالهم على الصعيدين النظري أو التطبيقي.. ويُعتبر مؤَلَّفهم
المسَمَّى: "كتاب معرفة مساحة الأشكال البسيطة والكرِّيَّة" والذي يُعد تطويرًا
مهمًّا لكتابَيْ "أرشميدس" عن: (حساب مساحة الدائرة) وعن (الكرة والأسطوانة)..
يُعتبر هذا الكتاب من أصدق الأدلة على روح الفريق التي تميَّز بها بنو موسى؛ فبدءًا
من غلاف الكتاب يُطالعك التوقيع الجماعي لمؤلفيه: "بنو موسى بن شاكر".. وعبر
سائر السطور والصفحات تستوقفك مرارًا عبارات من مثل: "وذلك ما أردناه.."،
".. وعلى ذلك المثال نبيِّن.."، "نريد أن نجد مقداريْن..." إلخ.
ومن
بين ما يستوجب التأمل والإعجاب في كتاب بني موسى تلك الأمانة العلمية التي يتعمَّدون
مراعاة لها الإشارة إلى ما ليس لهم من بين معلومات الكتاب.. يقول الإخوة الثلاثة:
"فكل ما وصفناه في كتابنا فإنه من عملنا، إلا معرفة المحيط من القُطر فإنه من
عمل أرشميدس، وإلا معرفة وضع مقدارين بين مقدارين لتتوالى على نسبة واحدة فإنه من عمل
مانالاوس".
رعايتهم للعلماء:
تروي
المصادر أن فريقًا كبيرًا من المترجمين من مختلف أنحاء البلاد كان يعمل لديهم، ومن
أبرز هؤلاء "حنين بن إسحق"، وابنه "إسحق بن حنين"، وابن أخيه
"حبيش بن الحسن"، إلى جانب "ثابت بن قرَّة" الذي ترجم وحده عددًا
هائلاً من الأعمال الفلكيَّة والرياضيَّة والطبِّيَّة لأشهر علماء اليونان مثل (إقليدس
وأرخميدس وأفلاطون وأبوقراط..... وغيرهم).
تبنِّيهم
للعديد من المواهب العلميَّة الناشئة وتربيتها، بل وتولِّي مهمَّة إبرازها والتعريف
بها، ونخص بالذكر هنا فتى يُسمَّى "ثابت بن قرَّة وهو فتًى من أهل "حرَّان"، حيث التقي به "محمد بن موسى بن شاكر"
في طريق العودة من إحدى رحلاته العلميَّة إلى بلاد اليونان و آسية الصغرى بحثا عن مخطوطات
قديمة ولما كان يبدو على الفتى من مخايل النبوغ فقد اصطحبه "محمد بن موسى"
معه إلى بغداد، وألحقه بداره ليطلب العلم، ثم عرَّف الخليفةَ المعتضدَ به، فقرَّبه
الخليفة وقدَّمه على غيره، وأخذ نجم "ثابت بن قرَّة" يعلو حتى غدا من أبرز
علماء الهندسة والفلك في الحضارة الإسلاميَّة، ووضع 150 مؤَلَّفًا عربيًّا، وعشرة مؤَلَّفات
سريانيَّة في الفلك و الطب و الرياضيات.
لقد
صاروا يختارون الكتب والمؤلّفين الذين تجدر التّرجمة لهم، ويصرفون كثيراً من أموالهم
في ذلك، ويرسلون الرسل إلى بلاد الروم لشراء الكتب بمبالغ كبيرة، هذا عدا أنه كان لهم
دورٌ سياسي مهم في أكثر من أمر خصوصاً أكبرهم محمداً،
وفي
هذا تقول المؤلفة الألمانية زجريد هونكة عن بني موسى: "وقد قاموا بإيفاد الرسل
على نفقتهم الخاصة إلى الإمبراطورية البيزنطية بحثاً عن المخطوطات الفلسفية، والفلكية،
والرياضية، والطبية القديمة، ولم يتوانوا عن دفع المبالغ الطائلة لشراء الآثار اليونانية
وحملها إلى بيتهم. وفي الدار التي قدمها لهم المتوكل على مقربة من قصره في سامراء،
كان يعمل، دون إبطاء، فريق كبير من المترجمين من أنحاء البلاد."