الأربعاء 22 مايو 2024

فى مهرجان شرم الشيخ الدولى للمسرح الشبابي «2» .. الموت على شواطئ الهجرة

1-5-2017 | 10:58

كتب : د. حسن عطية

يكتسب مهرجان شرم الشيخ المسرحى سمة الشبابية فى عنوانه وقيادته وفى عروضه المسرحية المختارة التى تقدم عينة من طموح شباب جاد للتعبير عن ذاته وعلاقته بمجتمعه وعالمه وزمنه، فى صور جمالية متباينة، سواء فى صياغتها الأساسية التى ظهرت عليها فى عروضها الأولى مع جمهورها فى مجتمعاتها العربية والغربية القادمة منها، أو فى إعادة تكيفها مع الفضاء الجديد المتاح لها فى أحد فنادق مدينة شرم الشيخ وجمهوره المختار داخل مهرجاننا الحالي، مما يكشف بدايةً عن قدرة هذا الشباب على التأقلم مع الوضع «المسرحي» الذى وافق على أن يقدِّم عروضه داخل المدينة السياحية، والتعايش مع الوضع «الحياتي» الذى ارتضاه خلال أيام المهرجان ولياليه.

وإن بدت ثمة مفارقة بين هذا الرضاء والتكيف مع أوضاع العرض المسرحى ومهرجانه، وعدم الرضاء والتكيف مع الواقع «المجتمعي» الذى تقدِّمه غالبية هذه العروض، وصب جام غضب شبابها عليه، والتفكير فى الفرار منه لبلدان أخرى وأوضاع حياتية مختلفة، وهو ما تبدَّى فى العديد من العروض العربية والمشتركة مع الآخر/ الغربي، والمتحركة فى دوائر الانتظار اللامجدية، والفزعة على مراكب التهجير العطنة، والمفجوعة فى الأوطان التى وصلت إليها، وضحت من أجل الوصول إليها.

يحسب لهذا المهرجان نجاحه فى تحقيق توازن بين العروض العربية والأجنبية، التى وصل عدد ما عرِض منها بالمهرجان إلى ثلاثة عشر عرضاً، منها ما جاء من خمس دول عربية هى البحرين وسلطنة عمان وتونس والكويت ومصر، بالإضافة لعرض عراقى قدِّم على شاطئ البحر فى صيغة متطورة من مسرح الشارع والأماكن المفتوحة، وتماثلت عروض الدول الأجنبية عدداً مع العروض العربية بخمسة عروض تراوحت بين أوربا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وهو ما يحسب لهذا المهرجان أيضاً، هى: روسيا وكوريا الجنوبية وإسبانيا وإيطاليا والمكسيك، هذا إلى جانب عرضين، شاركت تونس الأول منهما مع كندا، والثانى مع فرنسا، ظل حضور موضوعى الانتظار والهجرة قائماً فى هذين العرضين الأخيرين.

فى العرض البحرينى «الهشيم» الذى أخرجه محمد شاهين لفرقة «مسرح الصوارى»، للكاتب والمخرج العراقى المهاجر إلى كندا عبد الأمير شمخى، المنطلق من لحظة زمنية عقب الغزو الأمريكى للعراق، وتدميره البنية الأساسية لوطن كان متماسكاً وقوياً وشامخاً، فصار ممزقاً متهالكاً مدمراً، قذفت عاصفته الصحراوية بنماذج اختارها الكاتب من أهله لواقع مجدب، ينتظرون داخله فى لهفة عربة تأخذهم لمصير أفضل لا يعرفون بالضبط ما هو، فالمستقبل غامض كالحاضر؛ ثلاثة رجال وامرأة، لا أسماء لهم، ولا صفات خاصة، بل شخوص مجردة كشخوص مسرح العبث، قذفت بهم العاصفة المدمرة لأرض قفر، دون اتفاق مسبق بينهم، فيتفجر الحدث الدرامى بهذا اللقاء غير مرتب سلفاً، والواقع فى لحظة انتظار لا مجدية للرحيل لمكان مغاير، منقسمين داخله بين ثنائيتين، يظهر فى الثنائية الأولى جلاد أهدر قبل العاصفة رجولة آلاف من أبناء وطنه، يتحاور مع أحد ضحاياه سلب ذات يوم ذكورته أثناء تعذيبه، ففقد الحلم فى مستقبل لن يأتى لعدم قدرته على الإنجاب، بعد أن حاول عقب الإفراج عنه أن يستعيد رجولته المفقودة فلم يستطع، حتى مع زواجه من أكثر من امرأة وتبنيه لابنة غيره، فظل شبح وجهه يطارده، وحين عثر به رفض أن يصفح عنه، فكيف يصفح حاضر عقيم عن ماض تسبب فى عقمه، وفى الإطاحة بمستقبل الوطن. ودارت الثنائية الأخرى بين رجل كان مجرد تابع للسلطة الحاكمة المتجبرة فى الماضى، خاسر بدوره لرجولته بإرادته، ومتشابك فى الحوار مع امرأة تحمل رأس ابنها المغتال، والذى حملته لحظة إجبارها على مغادرة بيتها، تاركة جسده بأرضها، وتحلم أن تعيد للجسد رأسه كى يستقيم وجوده، فى تماثل مع شخصية «نعيمة» فى مسرحية «نجيب سرور» «منين أجيب ناس» التى حملت رأس حبيبها «حسن» المغتال، والتى ألقى بجسده فى النهر الخالد، وسعت طوال المسرحية لإعادة الرأس للجسد، ودفنهما معا فى قمة دلتا الوطن، كى تعود روحه يوما تحقق لها الخلاص من واقع مهشم.

المحطة والنوخذة

تتشابك الحوارات دون طائل، فالكل مازال ينتظر عربة خلاصه اللامجدية، فى عرض بحرينى بهمٍّ عراقي، وهو ذات الموقف الذى تنطلق منه مسرحية «محطة 50» لفرقة «المسرح الشعبي» الكويتية للكاتبة الشابة تغريد الداود، وإخراج المخرج الكويتى المتميز نصار النصار، وهى مثل سابقتها تقوم على موضوع الانتظار، ولكن هذه المرة لمجموعة من البشر التقت بمحطة قطار، لا رابط بينها، وكل ما يجمعها هو المكان «محطة القطار» والموضوع، وهو انتظار القطار القادم لنقلهم إلى حيث يرغب كل واحد منهم، بعد أن تحول واقعهم إلى فوضى باسم الحرية، وصار ناظر محطة القطار جلاداً لهم، تماثلاً مع جلادى المجتمع القادمين منه، والمتحركين للفرار منه دون هدف مشترك بينهم، ولا غاية محددة، الانتقال فقط لـ «وضع» واقعى آخر غير الذى يعيشونه، والقطار هو الأمل، والأمل غائب بغياب القطار، وهو موضوع لا ينبع من مجتمع كاتبته، ويبدو فكرياً أنه يعبر عن مجتمعات أخرى كالمجتمع العراقي، وبنائياً بعدم احتياجه لدراسة معمقة فى حرفية المسرح، فيكفى الكاتب هنا أن ينثر أفكاره على ألسنة شخصيات مجردة، دونما حاجة لبناء شخصيات مكتملة البناء الاجتماعى والنفسى والثقافي، فضلاً عن تعلقه بالموضوعات «التيمات» الدائرة حول الانتظار اللامجدى، وهى تيمات ليست أصيلة فى المجتمعين الكويتى والبحرينى، بل هى قادمة من مسرح «العبث» الأوربي، الذى تعلقت به عقول الأجيال «العربية» الشابة حالياً، بعد انتفاضاتها المتعددة فى السنوات الست الأخيرة، والتى لم تأتِ أوكلها، وعجزت عن تحقيق نتائجها، ولم تظهر فى الأفق أية عربة واعية أو قطار مستنير يقود مجتمعات هذا الشباب الثائر نحو تحقيق نتائج ثوراته.

بحكم بيئتها البحرية، ووفقاً لموروثاتها الشعبية، تأخذنا سلطنة عمان مع فرقة «صلالة الأهلية» لعالم البحار، نتابع معها مجموعة من البشر على مركب يقوده هذه المرة صاحبه محدد الملامح والصفات، يسمونه فى عمان بـ«النوخذة»، وأخذت المسرحية التى كتبها عبد الله جحنون وأخرجها بروح ساتيرية خالد الشنفرى، أخذت عنوانها من لقبه هذا، وإن شككت فى هذه الصفات التى يتصف بها، أو ينبغى أن يتصف بها، هذا النوخذة، وهى المعرفة الدقيقة بأحوال البحر، والقيادة الحازمة، وضرورة الخضوع الكامل لكل من بالمركب لأوامره، حيث إنه من المطلوب أن يكون نموذجاً للقائد الحكيم، وهو ما تهدمه المسرحية بحضور شخصية الابن، المختلف فكرياً عنه، والمتعامل مع وسائط حديثة لا يعرف الأب، والواضع له فى مواقف ساخرة تضج معها صالة العرض ضحكاً على هذا السيد الساخر منه فرفوره، أو هذا القط الشرس الذى يراوغه فأره الصغير، لقد سقطت هيبة الحاكم الفرد، وأهتز دور الأب، وفقد ربان المركب حكمته، خلال رحلته الحياتية عليها لتعليم ابنه أصول القيادة والحكمة فى قيادة سفن الحياة، وفشله أيضاً فى تعليم أبنائه الجدد من ملكة الجان التى اختطفته وتزوجته، فلم يعد لحكمته دور فى الزمن الراهن.

موت صالح للشرب

وكما استخدمت الفرقة العمانية اسم قائد المركب «النوخذة» عنواناً لنصها الدرامى من موروثاتها الشعبية، استخدمت فرقة «مسرح الحمراء» التونسية فى عرضها المشترك إنتاجاً مع «إم سى سبتيس» الكندية، استخدمت اسم «شقف» عنواناً لنصها الدرامي، الذى صاغ فكرته الأولى عز الدين جنون، وكتبته وأخرجته ابنته الشابة سيرين جنون مع مجدى بو مطر، وهى كلمة تعنى فى الدارجة التونسية «المركب الصغير»، وتستخدم هنا لعرض مأساة مجموعة من الشباب العربى والأفريقى المنطلق بجوفها فى بحر عاصف نحو الشواطئ الأوربية، فى رحلة هجرة غير شرعية، فراراً من واقعه الرافض له، والممزق لهويته إليه، والتمرد على كل القوانين المقيدة لحريته فيه، والساعى لأن يكون كما يريد، حتى ولو شاذاً، فى مواجهة السلطات الداخلية القابضة على روحه المنطلقة، والخارجية المروعة لحياته بقذائف هذا الغرب المتطلع للعيش بين أحضانه، الذى لا يقابله بالأحضان حينما يصل المركب بعد صعاب عديدة لقرب شواطئه، بل يقذفه أيضاً بنيران بنادقه التى تودى بحياة الجميع.

الموت على شطآن الآخر، تتكرر مع العرض العراقى المثير «موت صالح للشرب»، الذى قدمه شباب ساعٍ لتقديم مآسى وطنه على أرضه دون أن يبارحه، تأليف وإخراج محمد زكى، ومعه الباحث الواعى د. عامر المرزوك والمخرج النابه بشار عليوى، ولفيف من شباب مدينة بابل أوجعه ما يحدث فى بلاده الممزق، والطارد لشبابه، المتعلق أيضاً بحلم الوصول لشواطئ أكثر آماناً، فيغرق به مركبه على هذه الشواطئ، يلفظ البعض منه أنفاسه الأخيرة على رماله، ويخرج البعض منه حياً ليحكى للجمهور الجالس على رمال الواقع ما حدث له فى رحلة الهجرة غير الشرعية، والظروف التى دفعته للفرار من وطنه، مستفيداً من هذا الشعور الإنسانى والعروبى الذى امتلأ به وجدان الجمهور المصرى نحو مَن لجأ إليه من عراقيين وسوريين وليبيين فى السنوات الأخيرة، ومثيراً لديه ولدى الجمهور الأجنبى- الذى تصادف وجوده أثناء تقديم العرض على شاطئ شرم الشيخ- حافزاً للحركة والقفز فى الماء إنقاذاً لمن يشارف على الغرق أمامه.

فاجعة الوصول سالماً

يأخذنا عرض «ميديا» المشترك إنتاجاً بين تونس وفرنسا، للمخرجة والممثلة الوحيدة فى العرض ربيعة تليلي، التى قامت بإعداد تراجيديا «يوربيديس» الإغريقى القديمة، فى صيغة المونودراما، مقدِّمة واحدة من نتائج الوصول سالماً إلى أرض الآخر، التى يحلم بها ويضحى من أجلها شبابنا، فميديا الآسيوية الماهرة التى قتلت شقيقها، وخدعت والدها، وخانت وطنها، واستهلكت جسدها، من أجل مساعدة معشوقها «ياسون» ابن كورنثة الإغريقية فى العثور على «الفروة الذهبية» من وطنها لاستعادة عرشه المسلوب منه فى وطنه، والذى ما أن يعود لوطنه وسلطانه حتى يتركها وأولادها منه فريسة الضياع والتمزق، باكية على تضحياتها من أجل عيون رجل ليس من أهلها، وفراراً من أهلها لوطن مغاير، فتقوم بقتل أبنائه والفرار هذه المرة من الوطن الذى نزحت إليه إلى عالم مجهول بعربتها الطائرة.

لا تبتعد كثيراً بقية العروض المقدمة فى المهرجان عن صلب موضوع الحزن على ما آلت إليه أوطاننا، والفجيعة فيما نسعى إليه من هجرة غير شرعية عنه، ولا ترتقى كثيراً فى بنياتها الدرامية عن أحاديث الأفكار المجردة عن الموت والطغيان والتوهان فى الزمن الراهن، فلا تجسيد لمجتمعات محددة، ولا بناء لشخصيات درامية متكاملة، بل فرار من الدراما والواقع معاً، وإطلاق لقنابل الدخان التى تعمى البصر عن رؤية الواقع.

فهل هذا هو الواقع فعلاً ولا أمل فى البقاء فيه أو الفرار منه؟!، أم أن هذه هى رؤية شبابنا لهذا الواقع المتردى؟!

إذا كانت الإجابة بالإيجاب عن السؤال الأول، فعلينا أن نتكاتف جميعاً لكى نصحح أخطاء الماضى القريب والحاضر الراهن لنصنع واقعاً أفضل لنا جميعاً، وإذا كانت الإجابة بالإيجاب عن السؤال الثانى، فعلينا جميعاً أيضاً أن ننقذ شبابنا من هذه النظرة المتشائمة لحياته، وأن نعيد له الثقة فى ذاته وفى قدراته على التغيير لما هو أفضل، حتى لا نبكى على كنائس تدمَّر، وشباب ينسِف نفسه ووطنه معاً ويلقى حتفه على شواطئ تلفظه.

    الاكثر قراءة