الثلاثاء 26 نوفمبر 2024

أخرى

جابر بن حيان.. والمنهج الاستقرائى

  • 1-1-2021 | 02:35
طباعة

وصفه ابن خلدون في مقدمته وهو بصدد الحديث عن علم الكيمياء فقال: «إمام المدونين جابر بن حيّان حتى إنهم يخصونها به فيسمونها علم جابر وله فيها سبعون رسالة كلها شبيهة بالألغاز»، قال عنه أبو بكر الرازي في «سر الأسرار»: «جابر من أعلام العرب العباقرة وأول رائد للكيمياء»، وكان يشير إليه باستمرار بقوله الأستاذ جابر بن حيان، وذكر ابن النديم في الفهرست مؤلفاته ونبذة عنه، وقال عنه الفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكون: "إن جابر بن حيّان هو أول من علّم عِلم الكيمياء للعالم، فهو أبو الكيمياء"، وقال عنه العالم الكيميائي الفرنسي مارسيلان بيرتيلو في كتابه (كيمياء القرون الوسطى): "إن لجابر بن حيان في الكيمياء ما لأرسطو في المنطق".

 

منهجه العلمي:

لجابر "منهج" تجريبي يصطنعه في بحوثه الكيمياوية، جدير بالمناقشة؛ فهو حريص على أن يقصر نفسه على مشاهداته التي تجيء التجربة مؤيدة لها، اذ قد تكون الظاهرة المشاهدة حدثا عابرا لا يدل على اطراد في الطبيعة، يقول جابر في رسم خطته العلمية: « يجب أن تعلم أنا نذكر في هذه الكتب، (يشير هنا إلى الكتب التي بحث فيها خواص الأشياء)، خواص ما رأيناه فقط دون ما سمعناه أو قيل لنا وقرأناه، بعد أن امتحنشاه وجربناه، فما صحّ أوردناه وما بطل رفضناه، وما استخرجناه نحن أيضًا وقایسناه على أقوال هؤلاء القوم».


فهو في هذا النص يهتم اهتمامًا خاصًا « بشهادة الغير»، سواء أكانت شهادة مقروءة أم مسموعة، هل يؤخذ بها في البحث العلمي أو لا يؤخذ بها، فتراه لا يعتد بها إلا على سبيل التأييد لما يكون وصل إليه هو بتجاربه، وهذا ولا شك إسراف منه في الحرص، لأن العلم يستحيل أن يخطو في تقدم مطرد ما لم يأخذ اللاحقون عن السابقين علمهم، وكل ما ينبغي التثبت منه هو أن نستيقن من أمانة أولئك السابقين الذين عنهم نأخذ ما نأخذه، أما أن يقتصر العالم على مشاهداته هو وحده وتجاربه هو وحده، وألا يلجأ إلى أقوال غيره من العلماء إلا على سبيل الاستشهاد على صدق ما قد انتهى إليه هو نفسه من مشاهداته وتجاربه، فذلك التزام ما ليس يلزم، لكنه على كل حال التزام يكشف لنا عن مبلغ دقة هذا العالم في منهج بحثه؛ وأنك لتراه في مواضع أخرى يتخفف بعض الشيء من التزامه المنهجي هذا، ويجيز لنفسه قبول النتائج العلمية التي ينقلها إليه الآخرون، فهو في ذلك يقول - مثلا --: «وما لهم يبلغنا ولا رأيناه، فأنا من ذلك في عذر مبسوط»، أي أن للعلم المحقق المقبول عنده مصدرين: فإما الرؤية بحاسته، وإما رؤية الآخرين كما تبلغه، ولا شك أنه يضمر شيئًا لهذا الذي يبلغه عن الآخرين، وهو أن يكون هؤلاء الآخرون من الثقات المركون الى أما نتهم العلمية.


الاستنباط والاستقراء :

من خلال قراءة نصوصه استطعنا أن نلتمس مذهبه في خطوات السير في طريق البحث العلمي، وهي خطوات تطابق ما يتفق عليه معظم المشتغلين بالمنهج العلمي اليوم، وهي تتلخص في ثلاث خطوات رئيسة:

الأولى؛ أن يستوحى العالم مشاهداته فرضًا يفرضه ليفسر الظاهرة المراد تفسيرها، والثانية؛ أن يستنبط من هذا الفرض نتائج تترتب عليه من الوجهة النظرية الصرف، والثالثة؛ أن يعود بهذه النتائج إلى الطبيعة ليرى هل تصدق أو لا تصدق على مشاهداته الجديدة، فإن صدقت تحول الفرض إلى قانون علمی برکن إلى صوابه في التنبؤ بما عساه أن يحدث في الطبيعة لو أن ظروفا بعينها توافرت.


فطريق السير إذن هو هذا: مشاهدات توحي بفروض، ثم استنباط للنتائج التي تمكن توليدها من تلك الفروض، ثم مراجعة هذه النتائج على الواقع، وعندئذ فإما أن نقبل الفروض التي فرضناها أو نرفضها تبعا لصدق نتائجها على الواقع، ولقد اصطلح رجال المنطق على أن يطلقوا كلمة الاستقراء على مرحلتي المشاهدة الأولى والتطبيق الأخير، لأن في كليهما لمسا للوقائع العينية واستقراء لها؛ کما اصطلحوا على أن يطلقوا على مرحلة استنباط النتائج التي يمكن توليدها من الفروض، اسم "الاستنباط" وهو عملية تتم في الذهن؛ وهنالك من العلوم ماهو استنباطی صرف کالرياضة، ومنها ماهو استنباطی استقرائی معا كالعلوم الطبيعية.


أما التفكير الاستنباطي الذي هو رياضي في طبيعته، فيعتمد على مفاهيم ذهنية ينسق بعضها مع بعض، بغض النظر عن مطابقتها أو عدم مطابقتها لواقع قائم في العالم الخارجي؛ وهو ضرب من التفكير لا مندوحة عنه في كل بحث علمي حتى لا يتقيد الباحث بحدود ما يقع له في خبرته الحسية المباشرة، وإذا ترى الباحث في تفكيره الاستنباطی العقلي الخالص، يدير في ذهنه الأمر من كافة وجوهه، فيربط فكرة بفكرة ويستخرج فكرة من فكرة وهكذا، حتى إذا ما اهتدى بفضل هذه العمليات العقلية الداخلية إلى نتيجة يراها نافعة لو طبقت، فعندئذ يخرج الى العالم الطبيعي الخارجي ليختبر صدق هذه النتيجة اختبارا يعتمد على الواقع المحسوس، فإذا تبيّن صدقها أصبحت قانونا علميا أو نظرية علمية تستخدم في الجانب التطبيقي من حياة الانسان العملية.


وكان التفكير الاستنباطی الصرف هو المنهج الوحيد الذي يعتد به في العصور القدية والوسيطة، لأن التفكير عندئذ كان كله قائما على أسس يفرضها العقل لنفسه فرضا، أو على أسس يوحى بها إلى الإنسان إیحاء، وما عليه في كلتا الحالتين سوى أن يستنبط النتائج من تلك الفروض المسلم بصدقها حتی جاءت النهضة الأوربية وجاء معها العلم الطبيعي فعندئذ أحس رجال المنهج الفكري بضرورة إضافة منطق جديد يضاف الى المنطق الأرسطي الاستنباطي الذي كان قد رسم ليسد حاجة التفكير في عصره والعصر الذي تلاه، أحسّ رجال المنهج الفكري إبان النهضة الأوربية، (القرن 17 - 19)، بالحاجة الملحّة إلى منهج استقرائي جديد يصلح لمعالجة الظواهر الطبيعية على أساس المشاهدة وإجراء التجارب.


ثم اندمج المنهجان آخر الأمر في منهج واحد وجد أن لا مناص من اصطناعه في كل بحث علمي منتج، فلا بد من ملاحظة خارجية أولا، لنستوحيها فروضا تفرضها، ثم لا بد في الوقت نفسه من طريق الاستنباط ننهجه داخل عقولنا لنولد، من تلك الفروض التي فرضناها نتائج ننتفع بها في دنيا العمل والتطبيق.


أفليس من حق عالِمُنا العربي جابر بن حیان علينا، أن نسجل له بالفخر والإعجاب منهجًا فكريًا رسمه لنفسه في القرن الثامن وأوائل القرن التاسع الميلادي، وهو منهج لو كتب بلغة عصرنا ولو فصل القول فيه قليلا، لجاء وكأنه من نتاج العصر الحديث، ذلك لأنه منهج اعتمد على الاستنباط والاستقراء معا، اعتمادا واعيا صریحا، فاقرأ - مثلا - هذه الجملة الواحدة تجيء عرضا في حديثه ليصف بها منهجه: "... قد عملته بیدی وبعقلي من قبل، وبحثت عنه حتی صح وامتحنته فما كذب"، فها هنا قد أجمل صاحبنا كل ما نريده نحن من الباحث العلمي في كلمات قلائل رتبت أدق ما يكون الترتيب فعمل باليد أولا، واعمال للعقل فيما قد حصلته اليد، ثانيا، حتى تنتهي منه إلى نظرية مفروضة، ثم امتحان تطبیقی، وثالثا للفرض العقلي الذي فرضناه.


على أن الأمر عنده لا يقتصر على مثل هذه العبارات المقتضبة الموجزة المركزة يصف بها منهجه، بل إنه يفيض الكلام في ذلك إفاضة كافية في مواضع كثيرة من كتبه.


إسهاماته:

ينسب له اختراعه لعدد من الحوامض وتحضيرها ومنها حمض الكبريتيك وسماه زيت الزاج، ولقد بلغ مجموع ما نسب إلى ابن حيان من مساهمات إلى ما يقرب من 3000 مخطوطة، إلا أن المستعرب اليهودي بول كراوس رأى أن عدة مئات من تلك الأعمال ترجع إلى عدة أشخاص، وأن معظمها تعود إلى أواخر القرن التاسع وأوائل القرن العاشر، ويعتقد بعض العلماء أن العديد من تلك الأعمال ما هي إلا تعليقات وإضافات من تلاميذه. 


لكن رفض هذه الفكرة علماء آخرون وعلى رأسهم العالم والمؤرخ الأمريكي سيد نعمان الحق، الذي رأى أن بول كراوس قد أساء التقدير والاستنتاج في مراجعة أعمال جابر بن حيان، وذكر ثلاثة أخطاء في منهجية كراوس أدت به لهذا الخطأ.

 

ولقد ضمت تلك المساهمات مؤلفات في علوم الكونيات، الموسيقى، الطب، السحر، الأحياء، التقنيات الكيميائية، الهندسة، النحو، ما وراء الطبيعة، المنطق، والفلك، وقد ترجمت بعض أعماله في الكيمياء إلى اللغة اللاتينية في العصور الوسطى، وانتشرت على نطاق واسع بين الكيميائيين الأوروبيين في العصور الوسطى.


وتأثر جابر بن حيان بكتابات الكيميائيين المصريون القدماء والإغريق أمثال زوزيموس الأخميمي، وديموقريطس، وهرمس الهرامسة، وأغاثوديمون، بل وكتابات أفلاطون، وأرسطو، وجالينوس، وفيثاغورث، وسقراط، وتعليقات ألكسندر من أفروديسياس، وسمبليسوس، وفرفريوس، وغيرهم.


كما كانت هناك مجموعة ضخمة من الكتابات شبه الأدبية في الكيمياء مكتوبة باللغة العربية، بأسماء كتّاب من الفرس أمثال جاماسب، وأوستانس، وماني، الذين ذكروا فيها تجاربهم على المعادن والمواد الأخرى. 


ويتضح ذلك أيضًا من العدد الكبير للكلمات ذات الجذور الفارسية كالزئبق والنشادر، والتي توضح اعتماد العرب على الخيمياء الفارسية، كما نقل ابن النديم حوار دار بين أرسطو والكيميائي أوستانس الفارسي، الذي أورده جابر بن حيان في كتابه "مصححات أرسطية"، كما يعتقد المستشرق "يوليوس روسكا" أن المدارس الطبية الساسانية، لعبت دورًا هامًا في انتشار الاهتمام بالكيمياء.


ومن أهم الإسهامات العلمية لجابر في الكيمياء، إدخال المنهج التجريبي إلى الكيمياء، وهو مخترع القلويات المعروفة في مصطلحات الكيمياء الحديثة باسمها العربي (Alkali)، وماء الفضة، وهو كذلك صاحب الفضل فيما عرفه الأوربيون عن ملح النشادر وماء الذهب والبوتاس، ومن أهم إسهاماته العلمية كذلك، أنه أدخل عنصرَيْ التجربة والمعمل في الكيمياء وأوصى بدقة البحث والاعتماد على التجربة والصبر على القيام بها، فجابر يُعَدُّ من رواد العلوم التطبيقية، وتتجلى إسهاماته في هذا الميدان في تكرير المعادن وتحضير الفولاذ وصبغ الأقمشة ودبغ الجلود وطلاء القماش المانع لتسرب الماء، واستعمال ثاني أكسيد المنغنيز في صنع الزجاج.


ولقد عرَف ابن حيان الكيمياء في كتابه العلم الإلهي بأنه «الكيمياء هو الفرع من العلوم الطبيعية الذي يبحث في خواص المعادن والمواد النباتية والحيوانية وطُرق تولدها وكيفية اكتسابها خواص جديدة».


وقد وضع جابر نظرية رائدة للاتحاد الكيميائي في كتابه "المعرفة بالصفة الإلهية والحكمة الفلسفية"، حيث قال: «يظن بعض الناس خطأً أنه عندما يتحد الزئبق والكبريت تتكون مادة جديدة في كُلِّيتها. والحقيقة أن هاتين المادتين لم تفقدا ماهيتهما، وكل ما حدث لهما أنهما تجزَّأتا إلى دقائق صغيرة، وامتزجت هذه الدقائق بعضها ببعض، فأصبحت العين المجردة عاجزة عن التمييز بينهما، وظهرت المادة الناتجة من الاتحاد متجانسة التركيب، ولو كان في مقدرتنا الحصول على وسيلة نفرق بين دقائق النوعين، لأدركنا أن كلاً منهما محتفظ بهيئته الطبيعية الدائمة، ولم تتأثر مطلقًا». ويمكن تشبيه هذه النظرية بالنظرية الذرية التي وضعها العالم الإنجليزي جون دالتون.


    أخبار الساعة

    الاكثر قراءة