الأربعاء 12 يونيو 2024

«شارع كسرى».. ننشر الفصل الأول من رواية «بورتوسعيد»

فن5-1-2021 | 14:29

تنشر "الهلال اليوم"، الفصل الأول من رواية "بورتوسعيد" للكاتب الروائي الدكتور سامح الجباس، والصادرة عن دار "شرقيات" للنشر والتوزيع، وجاء الفصل بعنوان "شارع كسرى".


شارع كسرى

".. بناها قليمون بن أتريب بن قبطيم و سُميت تنيس نسبة إلى تنيس بن حام بن نوح ....."

( خطط المقريزى )


الحياة لا تتكرر. تستيقظ ميتاً ككل يوم.


تنهض من سريرك متثاقلاً مهموماً بلقمة عيشك كالمغضوب عليهم  ممن لايعملون بالتجارة أوالتهريب فى بورسعيد, تقف فى وجه النافذة المفتوحة التى كانت تُطل على البحر ,قبل أن  تُخفيه الأبراج الجديدة عن عينيك.


تأخذ نفّساً عميقاً محمل برائحة اليود والزفارة, تحمل اليك أمواج ذاكرتك تلغراف الأمس:

" البقاء لله. توفى إلى رحمة الله فريد عارف الشهير بفريد شوقى"

سينما ريفولى 8 يوليو 1957 فريد يجلس خلف شباك التذاكر.


قبل الساعة العاشرة صباحاً يجدك واقفاً أمامه.


- لحقت تيجى يا بمبوطى؟


بصوت متهدج من الانفعال والحماس:

- عاوز أشوف عملوا اللى حصل ف بورسعيد ازاى.


لا تستطيع انتظار أن يصل الفيلم إلى السينما فى بورسعيد, بعد ستة أشهر على الأقل.


منذ تعرفت على موظف شباك التذاكر فريد شوقى، وزميله منير فلتاؤوس موظف شباك سينما ديانا عام 1956، وهم يُشيّعون لك التلغرافات فى أى وقت:

" فيلم ازاى أنساك فريد الأطرش وصباح بعد بكره".. يعرفون ذوقك فى الأفلام.


"فيلم بنات بحرى عبد السلام النابلسى، وآمال فريد حايفتح يوم 12 أقطع تذكرة؟"

 

كنت وقتها شاباً بهرته الأفلام، تحرص على حضور العرض الأول لها. تركب قطار العاشرة مساء إلى القاهرة، يمر بك القطار عبر الاسماعيلية والزقازيق وبنها، ست ساعات حتى يصل محطة مصر. 


تفطر فى رمسيس، ثم تتمشى حتى السينما، تأخذ التذكرة المحجوزة لك من فريد أو منير، تحاسبهم ثم تُناولهم شروة السمك التى تحرص على اهدائهم أياها فى كل مرة، تضحك عندما ينظرون بسعادة تمتزج بالحيرة إلى السمك.


"المصاروة مابيعرفوش ف السمك"

تدخل حفلة العاشرة صباحاً، تجلس فى الصف الأول، تتابع باستغراق تام.


فتحى ضابط بحرى (شكرى سرحان)، وشقيقته وفية، نشأ الاثنان بلا أب أو أم ولكن برعاية أم طلبة مدرب كتائب الحرس الوطنى، وفية (هدى سلطان) تحب طلبة (فريد شوقى) الكل يعيش فى بورسعيد فى سعادة حتى يقع العدوان الغاشم، وتشهد بورسعيد صراعاً بطولياً عنيفاً ضد العدو، الكل يجود بالدم، هناك عصابة من الجواسيس يرأسها ويليامز وتساعده بات (ليلى فوزى) الحسناء مع مورهاوس (أحمد مظهر) المدينة كلها، بشوارعها التى تلتهمها النيران، والدبابات التى تجوب كل مكان حاملة الموت تُقاوم ببطولة.


تخرج من السينما مكفهراً، يسألك فريد المهووس بفريد شوقى حتى أنه أصبح يُعرف باسمه:

- ماعجبكش الفيلم؟


- اللى عملناه فـستة وخمسين أكبر من كده بكتير.


عندما ترجع من زيارتك لمصر يلتف حولك بمبوطية الميناء، تحكى لهم الفيلم بالتفصيل، حتى أسماء كاتب الفيلم، ومخرجه التى تعرفها من فريد أو منير لأنك تفك الخط بالعافية، تحرص أن تقولها لهم قبل أن تحكى الفيلم.


يرطن لسانك بكلمات إنجليزية، فرنسية، وروسية تعلمتها من عملك فى البحر مع البحـّارة.


لم يمر عام إلا وأنت تشاهد العرض الأول لأهم أفلامه، إلا عام 67 يومها لم ير أحد فى الميناء مثلك فى الغضب، عندما جاءك التلغراف يُخبرك عن عرض فيلم " بنت شقية " لمحمد عوض وحسن يوسف ونوال أبو الفتوح، كان ذلك فى نهاية أكتوبر، يومها مزقت التلغراف وأنت تسّب "العالم دى مش حاسة بالمصيبة اللى احنا فيها؟".

 

القتال مستمر فى بورسعيد.

صرّح السيد عبد القادر حاتم مدير عام مصلحة الاستعلامات، فى الساعة التاسعة من مساء أمس بأن القتال لا يزال مستمراً فى مدينة بورسعيد وأن المعتدين قطعوا المياه عن المدينة بعد أن فشلوا فى احتلالها.

(جريدة الجمهورية - الخميس 8 نوفمبر 1956)


تشعر أنك لم تتعود على الموت بعد، ما الفرق بين موتك وبين حياتك؟؛ فلتحمد الله أنك عشت أياما جميلة، مثيرة قبل أن تموت، تشعر بالإشفاق على أولادك؟. هل هم أحياء حقاً؟.


منذ أسبوع وأنت تتمتم "هو البحر بيموت؟ أنا شامم ريحة وحشة قوى جاية م البحر"، ولكن لا أحد يرد عليك، لا أحد يشم رائحة الموت سواك، تحرص ألا يحس أى من أهل بيتك أنك ميت، تنتظر اكتمال القمر بدراً حتى تظهر "الفرما" ستشق طريقك عبر الماء كى تصل إليها، هل ستعوم أم ستمشى على الماء؟.


تشتاق إلى لقاء من رحلوا، طوت السنوات أسمائهم وأنكرتهم البطون، يهللون فى كل مكان عمرو دياب أصلاً من بورسعيد.. الله أكبر..!!

ماذا ستقول لهم عندما تلقاهم على سطح الجزيرة؟ "الفرما" جزيرة الأحباب، كم تمنيت أن تراها وأنت تعيش، كم جلست على شاطىء البحر فى الليالى القمرية محاولاً أن تلمح ظهورها ,ولكنك لم تنجح. كم ليلة وقفت تُنادى:

".. يا سيد يا عسران... يا حسين عثمان.. يا على زنجير.. يا أحمد هلال.. يا حسين عثمان.. يا طاهر عثمان.. يا محمد حمد الله.. يا محمود عطعوط.. يا سيد عبد الرحيم.. يا لطيف مرقص... يا نبيل الوقاد... يا أم على.. يا زينب يا كفراوى.. يا أمينة الغريب.. يا...".


اشتباكات عنيفة فى بورسعيد

ستوكويل يعلن أن الأهالى صرعوا ضابطا وجرحوا بعض الجنود.. الباقورى يخطب الجمعة فى بورسعيد.. اعتقال 1000 مصرى ببورسعيد

.... بُحثت أمس الخطوات التمهيدية لمشروع صناعة التليفونات بمصر.

(جريدة  الجمهورية - الاثنين 17 ديسمبر 1956)


كم ناديت! كم توسلت! لماذا لم ير أحد "الفرما "؟ كُلنا يعرف بوجودها ولكن لا أحد رآها.

تظهر فقط فى الليالى القمرية، ترى الموتى يعبرون شوارع المدينة فى اتجاه البحر، تحاول أن تسير خلفهم دون أن يلمحوك، تراهم يقفون على شاطىء البحر، وترى انعكاس ضوء القمر يتلألأ على صفحة الماء، تنتظر معهم ظهور الجزيرة، تُخطط أن تندفع معهم إليها، تخوض مياه البحر. 


كيف لا يغرقون؟ هل يمشون على الماء حتى يصلون إليها؟ تشعر أن انتظارك قد طال، تجلس على رمال الشاطىء غير بعيد عنهم، وشيش البحر يهدهدك، أيُغالبك الشوق إلى من فارقت؟.


هل حملوا الأعوام على أكتافهم؟ هل رحلوا بها؟ تبحث كثيراً لتكتشف أن أعواماً مُحيت من الذاكرة والتاريخ؟ لم تجد عام 56.. هل مات وذهب أيضاً إلى "الفرما"؟، هل تحمل الجزيرة الناس والسنوات أيضاً؟ سقطت رأسك على صدرك للحظة؟ أفقت مذعوراً لتجدهم قد اختفوا، قفزت لتجرى كالمجنون على شاطىء البحر؟ هل ضاعت الفرصة ككل مرة؟، حاولت أكثر من مرة أن تراها حتى استسلمت لما سلّم به الناس فى مدينتك منذ زمن.


تستيقظ اليوم مهموما، تنظر إلى زوجتك وابناك، أنت تعرف أنه اليوم الأخير لك معهم، تتمنى أن تُخبرهم ولا تستطيع، أنت تعرف القواعد، لو أخبرتهم أنك ميت فلن تذهب إلى "الفرما"، ستُدفن فى مقابر المدينة مع الغرباء، آه لوتعرفون.


جمال عبد الناصر يُعلن:

"تأميم شركة القناة".. مصر تسلمت إدارة الشركة أمس.


إعلان:

"مقاومة الحشرات القشرية والبق فى بساتين الموالح والمانجو، بمستحلب تريونا المتوسط، يُنتجه اتحاد شل بالولايات المتحدة الأمريكية.. ملحوظة: الكميات محدودة".


(جريدة الأخبار – الجمعة 27 يوليو 1956)


هل سيترحمون عليك أم سيلعنوك؟ هل ستترك لهم أموالاً؟ محلات؟ سيارات منطقة حرة ؟ ذهب؟ شقة فى أحد الأبراج؟ شاليه؟ شركة استيراد؟ شركة تخليص جمركى؟ كم حاوية باسمك تنتظر على رصيف الميناء؟ هل تركت لعُمر شقة من شقق المحافظة؟ عضوية فى الحزب الوطنى؟، سيلعنوك....


لم تترك لهم سوى حكايات عن ثوار وأبطال مقاومة شعبية، ذابوا كما الثلج تحت وهج الشمس.


اختفت أسمائهم، حكاياتهم، أصبح من يهتم بهم كمن يهتم بجمع الطوابع أو اسطوانات الأغانى القديمة.. فى أعماقك حزن دفين ينتهز الفرصة ليطفو على السطح، دوائر تدور داخل دوائر داخل دوائر.. هكذا ترى الحال فى مدينتك.. هل هـَرمت المدينة؟ هل تساقطت مبانيها القديمة كأسنان عجوز وحيد؟ هل شحبت سمائها كما يشحب وجه المحتضر؟.


السلاح لكل مواطن..!

احمل السلاح ودافع عن بيتك وأسرتك وبلدك

جريدة الأخبار – الثلاثاء 7 أغسطس 1956)


ارحل يا بمبوطى.. فماذا ستفتقد هنا؟ جلستك على "الكراويتة" ساعة العصارى مع كوب الينسون؟ أغانى السمسمية التى لم يعد يعرفها أحد؟ لماذا مازلت تحفظها؟ لماذا تُدندن بها وأنت فى اللنش أو بينما تصعد السلم إلى جوف السفينة؟


هالوو مستر.. هالوو كابتن.. ويلكم تو إيجبت.. فرعون..؟ تى شيرت فرعون؟ باردى بيبر.؟ دولارز؟ ييس.. يورو؟ ييس.. ايجيبشيان شيشة؟ نو مستر.. نو سكس ماجازين.. نو درجز.. نو وومن.. نو درنك هير..تفوت على السوق. تشترى الشبار وتشويه، لا تنس السلّطة والمخلل.. تشترى الكابوريا فى موسمها فى يوليو وأغسطس، تدخل البيت سعيداً.


"تعرفوا  المصاروة بيدفعوا كام عشان ياكلوا شوية سمك زى دول ف قدورة؟"


ورث منك أولادك حب الأسماك.


"حتى السمك سعره ولـّع يا أم عمر.."

أنا مصري

لحماً ودماً.. وثوباً

هكذا يجب أن يكون كل مصرى


شركة مصر للغزل والنسيج

تقدم لك الثوب المصرى الجميل.. وتبيعه لك بسعر معتدل


شركة بيع المصنوعات المصرية

بعد أن مُت أصبحت تتجنب أن تمضى أوقاتك فى البيت كما تعودت رغم أنك تشتاق إلى ذلك الآن أكثر فأنت ستفارقه. تتجنبهم وأنت تشتاق اليهم؟ هكذا أفضل، ربما لاحظوا أنك لا لا تأكل، لا تشرب، لا تنام، ربما أمسك أحدهم بيدك فاكتشف برودها.. ماذا ستفعل يا عُمر بعد أن أموت؟ وماذا فعلت له وأنت حىّ؟!


ماذا ستفعل يا جواد وأنت لم تبدأ حياتك بعد؟ هل ستذكرنى بالخير؟ أم ستقول اذا ذُكر اسمى "الله يجحمه مطرح ماراح.. عاش سبعين سنة ومات وساب لنا الستر!".


سيقولون: عاش أشلان (مفلس) ومات مستور.


هل بوّظت لهم حياتهم يا بمبوطى؟

عبد الحكيم عامر يعقد مؤتمراً حربياً فى منطقة القناة.. تدريب البوليس على مقاومة جنود المظلات

إعلان:

امتحان القبول للإعدادى للراسبين، ويكتفى بالنجاح 50% من مدارس مصرية أو أجنبية

مدرسة قصر النيل النموذجية الخاصة الإعدادية للبنين

مدرسة قصر النيل النموذجية الخاصة الإعدادية للبنات

أرقى مدارس القاهرة والشرق

الفرنسية والإنجليزية لغتان أساسيتان من الحضانة

يُشرف على المدرسة نخبة ممتازة من خريجى معاهد التربية العليا للمعلمين

التعليم بالسينما والموسيقى

عناية خاصة بالدين والخُلق والنفس

(جريدة الأخبار – الخميس 16 أغسطس 1956)


الليلة هى الليلة التى تنتظرها.. هل تُخبرهم؟ هل تودعهم؟ يمكنك أن تُخبر عُمر فقط أليس هو الكبير؟ هو من سيحمل هـّم هذه الأسرة منذ الغد. عُمر! يحمل الكثير من ملامحك.

بحة صوتك، حبك للبحر. "خد بالك من أمك وأخوك الُصغير يا عمر"

لا، لن تقولها له، ربما شعر أو.. فهم، تطوف منذ الصباح بشوارع المدينة؟ تودعها على الرغم من أنها غيرّت ملامحها التى كنت تعرفها بها؟

تستيقظ اليوم وأنت تشعر أن ذراعك الأيمن خدلان.. إنها ساعاتك الأخيرة فى هذه المدينة.


أين سينما الكوزموجراف؟ أين سينما ماجيستيك؟ لماذا أغُلقت سينما الأهلى؟ أين المسرح فى بورسعيد؟ أين الخشبة التى وقف عليها محمود ياسين وملك الجمل ينفذون تعليمات المخرج سمير العصفورى؟ أين الطفطف الذى كان يطوف بفرحة الأطفال (زمن أن كانوا أبرياء) شوارع المدينة؟ أين اللنش وبحيرة المنـزلة؟ أين طيور النورس؟ لماذا لم يعد يزورنا السمان أثناء الخريف؟ لم يعد هناك من الوجه القديم سوى المسلة والدبابات الاسرائيلية المحطمة القابعة فى حديقة المتحف الحربى منذ حرب 1956.


الجمهور يضرب لاعبى الزمالك والمنصورة بالطوب.

مجلس الدولة يقول:

للـمُدرسات حق الحب والغزل

(جريدة الأخبار - الأربعاء 20 مارس 1957)


لا أحد يفهمك.. تُعلق على جدار الصالة صورتين لعبد الناصر والسادات.. تعشق عبد الناصر,وتقول عن السادات "بحبه لحد حرب تلاتة وسبعين.. الله يسامحه بقى بوّظ بورسعيد بقرار المنطقة الحرة, ادى ضهره لأصحابه ومد ايده لأعداءه.."

وبرغم ذلك لم تُزح صورته. الصمت كان جوابك عندما سألك عمر منذ سنوات " انت مش حاطط صور بعد السادات ليه يابا؟ "

".. وسيُطلق اسم بورسعيد على شارع رئيسى فى كل

مدينة وقرية من مدن وقرى الجمهورية.... "

(جريدة الجمهورية -  الأثنين  17  ديسمبر 1956 )


السر تحمله داخل أعماق قلبك كالهـّم. القلق لا يكف فكيه عن نهشك. هل تظهر "الفرما " الليلة حقاً أم تُخلف ميعادها كما فعلت منذ اسبوعين؟

هل تكف "الفرما" عن الظهور واستقبال أهل المدينة؟ هل لفظتكم "الفرما" أيضاً؟

يقتحم عليك الصوت التراسينة .

- المركب دخلت المينا ياريسّ.

- والماتش؟