تنشر بوابة "الهلال اليوم" الفصل الثامن من كتاب "أحجار على رقعة الأوراسيا"، للكاتب عمرو عمار، والصادر عن دار «سما» للنشر والتوزيع، وجاء بعنوان "الرؤية الاستراتيجية للأمريكتين".
الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" الذي رفع شعار "أمريكا أولًا" يتعامل مع الأمريكتين من منظور وصايا "جورج واشنطن" التي جاءت في خطاب الوداع للشعب الأمريكي عام "1796" والتي بدت وكأنها خارطة طريق لأفكار بنجامين فرانكلين؛ حين أوصى واشنطن بضرورة التوسع في الأراضي، والقابلية للتمدد، وفق طريقةٍ مرتبطة بثنائية الأيديولوجية الأمريكية، أي وجهي العملة؛ الفتح الإلهي من جهة، ومحو كل بنيةٍ سياسيةٍ واجتماعية لكل كيانٍ غير أمريكي؛ بتطويع وسائله التجارية لليبرالية السوق "أي الرأسمالية" من جهةٍ أخرى.
وفي ظل التراجع الأمريكي، وضعف الهيمنة العالمية، تعتمد السياسة الخارجية الأمريكية في عهد "دونالد ترامب" على مبدأ "الحفاظ على الانعزالية" الذي طرحه "جورج واشنطن".. تلك الانعزالية التي تسمح لليد أن تبقى طليقة، وتحافظ على تأثيراتٍ خارجية بطبيعتها غير المرغوب فيها، لأنها تسهم بعملية "الأمركة السماوية" ورغم هذا، فإن الأمر يختلف مع ترامب حينما يتعلق بالأمريكتين.
هذا اتضح جليًّا في كلمات الرئيس الأمريكي حينما أشار إلى نصف الكرة الغربي، خلال بيان الولايات المتحدة الأمريكية أمام جلسة الأمم المتحدة، في 25 سبتمبر 2018، قائلًا:
«يجب التمسك باستقلالنا من تغلغل القوى الأجنبية التوسعية.. لطالما كانت سياسة الولايات المتحدة منذ الرئيس مونرو؛ سياسة ترفض تدخل الأمم الأجنبية في هذا النصف من الكرة الأرضية، وفي شؤوننا الداخلية».
إذًا ترامب في سابقةٍ فريدة، يُذكر الأمريكتين بـ"مبدأ مونرو" الذي طرحه الرئيس الأمريكي جيمس مونرو، في رسالة إلى الكونجرس يوم 2 ديسمبر من عام 1823، وقد دعا فيه إلى استقلالية كل دول نصف الكرة الغربية من الاستعمار الأوروبي، وعدم التدخل في مصير ومقدرات شعوب الأمريكتين.
وفقًا لهذا المبدأ، لن تسمح واشنطن بمستعمراتٍ أوروبية جديدة، أو التوسع بحدود المستعمرات القائمة؛ فقد هدف "مونرو" إلى الرد على مخرجات مؤتمر فيينا عام 1815، الذي أشار إلى إحياء الملكية النمساوية على أراضي أمريكا اللاتينية.
أي أن مبدأ "مونرو" في الأساس، كان مبدأً دفاعيًّا في مواجهة الحلف المقدس لمؤتمر فيينا، وقد نادى مونرو بأن تكون أمريكا للأمريكيين، وأوروبا للأوروبين، ولهذا لم يكن مبدأ "مونرو" بحالٍ من الأحوال، يحمل أي أهدافٍ توسعية، بل كان مضمونًا دفاعيًّا.
وكما أوردنا تفصيلًا في الجزء الأول من هذا المؤلف، فإن الإمبريالية الأمريكية عرفت طريقها آنذاك، وفق وثيقة تأويل "مبدأ مونرو" الصادرة عام 1903؛ هذا التأويل الذي نقل أمريكا من قوةٍ إقليمية منعزلة إلى قوى إمبريالية متغطرسة.
وقد أشار السيناتور الأمريكي "البير ج.بفريدج" عام 1898، إلى النقاط الأساسية في نظرية مونرو المتعلقة بحرية التجارة البحرية في الأطلسي، والاستيلاء على كامل القارة الأمريكية قائلًا:
«على التجارة الدولية أن تكون وتصبح ملكًا لنا، سوف نغطي البحار بأسطولنا التجاري.. وسنبني أسطولًا يكون على مستوى عظمتنا.. وستقوم مستعمرات كبيرة تابعة لنا وتحكم نفسها.. وستتجول سفنها التي سترفع علمنا، والتي ستعمل لحساب كل طرقنا التجارية.. ستسير مؤسساتنا على خطى تجارتنا.. وسوف يصل النظام الأمريكي والحضارة الأمريكية والعلم الأمريكي إلى شواطئ لا تزال حتى الآن دامية ومؤسفة، ولكنها ستصبح قريبًا بعون الله مزدهرة».
وعلى هذا فقد أوجد الرئيس الأمريكي "ثيودور روزفلت" بُعدًا جديدًا لمبدأ مونرو، حينما قرر منع هذا التدخل المبرر من قبل أوروبا، بالتدخل العسكري الأمريكي نفسه، وتحت سياسة "العصا الغليظة" تم احتلال جمهورية الدومنيكان عام 1905، ونيكاراجو عام 1912، في عهد الرئيس "ويليام هورد" ثم هايتي عام 1915، في عهد الرئيس "وودرو ويلسون".
وبذلك تمكنت الولايات المتحدة من السيطرة على البحر الكاريبي، وبافتتاح قناة بنما عام 1914، والتي ربطت شمال المحيط الأطلسي بجنوب المحيط الهادئ، كانت قد عززت الولايات المتحدة من وضعها على الأمريكتين، وفق نظرية السيطرة على البحار للجغرافي البريطاني "السير هالفورد ماكيندر" بعد أن سيطرت على حقوق إدارة القناة، والمنطقة البحرية الشاسعة المحيطة بها، وبذلك كشفت أمريكا مبكرًا عن الوجه الأول من الأيديولوجية الأمريكية "التصوف" أي الفتح الإلهي بموجب التأويل الخطأ لمبدأ مونرو.
ثم بدأت الولايات المتحدة في محو كل بنيةٍ سياسيةٍ واجتماعية داخل الأمريكتين؛ بتطويع وسائله التجارية، لليبرالية السوق وقاعدتها الفلسفية الرأسمالية، أي وجه العملة الآخر من الأيديولوجية الأمريكية، التي ستنتشر في عروق الكرة الأرضية لخدمة المصالح الأمريكية، كما قال "جورج واشنطن".. وقد شهدت كوبا، وفنزويلا، وبنما، وهايتي، والدومينيكان، والمكسيك، ونيكاراجوا، وكولومبيا، على استبدال المستثمرين الإنجليز والإسبان بعد الحرب المكسيكية ثم الإسبانية، بنظرائهم الأمريكان القادمين من وول ستريت.
هذا الدور الذي لعبته القوة العسكرية الأمريكية، خلال هذه الحروب، في تدعيم سيطرة وول ستريت الاقتصادية، على هذه البلدان، عبر عنه الجنرال الأمريكي "ميجور سمدلي" بعد الحرب العالمية الأولى، قائلًا:
"لقد قضيت ثلاثة وثلاثين عامًا في خدمة جيشنا الأمريكي، كنت في معظمها قاطع طريق يعمل لمصلحة وول ستريت والشركات والمصارف الكبرى؛ وهكذا ساعدتُ على جعل المكسيك مكانًا آمنًا لشركات النفط الأمريكية عام 1914، وعلى جعل هايتي وكوبا أرضًا يستطيع الـ"ناشيونال سيتي بنك" استغلالها، ومهدت السبل أمام بنك "الإخوة براون" لاستثمار نيكاراجوا عامي 1909-1912، وفتحت أبواب الجمهورية الدومينيكية في وجه "شركات السكر" الأمريكية عام.1916
وبنهاية الحرب العالمية الثانية، تمكنت أمريكا من إقصاء جميع المنافسين الاستعماريين في دول أمريكا اللاتينية، إذ تمت مصادرة الرأسمال الألماني، والممتلكات والأصول التجارية لكلٍّ من إيطاليا واليابان، في دول أمريكا الجنوبية، لصالح شركات وول ستريت، حتى الرأسمال الفرنسي والبريطاني تقلص في هذه الدول بصورةٍ حادة، في مواجهة الرأسمال الأمريكي.
وخلال الحرب الباردة شرعت واشنطن عبر الرابطة العالمية لمكافحة الشيوعية، في إقصاء العديد من الأنظمة الشيوعية واتباعها، في دول أمريكا اللاتينية، عبر فرق الموت التي ضمت ضباطًا وجنودًا من الجيش والشرطة المحلية داخل هذه البلدان، من خريجي مدرسة الأمريكتين، وقد نفذت عمليات قتلٍ واغتيالٍ لكل ما هو مناهض للسياسات الأمريكية في السلفادور، وهندوراس، وكولومبيا، وجواتيمالا.
ومن جهةٍ أخرى، اتبعت واشنطن لعبة "القتلة الاقتصاديون.. الضباع.. التدخل العسكري" للإطاحة بالأنظمة الحاكمة التي رفضت الانصياع لأهداف الكوربوقراطية في وول ستريت.
آنذاك، تم خلع رئيس جواتيمالا "جاكوبو أربينز" الذي تجرأ ونقل حقوق ملكية الأراضي لأبناء شعبه، بعد أن كانت مستباحة لكوربوقراط شركة الفاكهة المتحدة.
تم اغتيال الرئيس "خايمي رولدوس" عام 1981، بعدما رفع شعار تحرير موارد الإكوادور وجعلها في خدمة شعب الإكوادور، وقام بتوجيه أرباح النفط لمساعدة أبناء الشعب.
كما اغتيل "عمر تريخوس" الذي أغلق مراكز التدريب الشبيهة بمدرسة الأمريكتين، التي أنشأتها أمريكا على قناة بنما، لجلب العسكريين من أنحاء أمريكا اللاتينية، وتدريبهم كفرق الموت، من أجل تنفيذ عملياتٍ حربية سرية في الحرب ضد الشيوعية داخل أمريكا اللاتينية، كما أعاد ملكية قناة بنما لبلاده، ورفض الإذعان لأوامر رونالد ريجان، بإعادة التفاوض على ملكية قناة بنما بعد رحيل كارتر.
ومن بعده تم القبض على "مانويل نورويجا" الذي حاول السير على خطى تريخوس في مناصرة الفقراء، والتشديد على استقلال بنما، وسعى إلى شق قناةٍ جديدة يمولها اليابانيون، ورفض مطلب بوش الأب بتمديد عقد "مدرسة الأمريكتين" على قناة بنما، فأرسلت واشنطن طائراتها التي أغارت بلا رحمة على المدينة في 20 ديسمبر 1989، هدمت البيوت وقتلت الأطفال والنساء ودمرت أحياءً سكنية ومدنًا عديدة في العاصمة البنمية، وتم القبض على الرئيس البنمي، واقتياده إلى ميامي بالولايات المتحدة الأمريكية، وحكم عليه بالسجن أربعين عامًا.
من كل ما سبق فالعقل المفكر بأروقة صناعة القرار الاستراتيجي الأمريكي، والذي عمد إلى تشييد قلاع التقوقع داخل الحدود الأمريكية، لاستعادة أمريكا الصناعية، لن يتخلى عن الحد الأدنى للطموح الإمبريالي، وسيعمل جاهدًا حال ضياع حلم السيطرة على رقعة الأوراسيا، خلال السنوات المقبلة، على ترسيخ النفوذ والهيمنة الأمريكية، كحارسٍ أوحد على النصف الغربي من الكرة الأرضية.
وقد استدعى ترامب فعليًّا دون خجل، من المكتبة التاريخية للقرن العشرين، وثيقة تأويل مبدأ مونرو، لضمان الحصول على الوضعية الأمريكية ما بعد الحرب العالمية الأولى، أي الحفاظ على المستعمرات الأمريكية في أمريكا الوسطى والجنوبية، في ظل عالمٍ جديد متعدد الأقطاب.
وفي سياق ترسيخ النفوذ والهيمنة الأمريكية كحارسٍ أوحد على أمن النصف الغربي من الكرة الأرضية؛ يستلزم على العقل الاستراتيجي الأمريكي:
أولًا: إعادة صياغة العلاقات الاستراتيجية مع الدول الواقعة على البحر الكاريبي، لضمان تعزيز الهيمنة الأمريكية على الطريق البحري الواصل من شمال الأطلسي إلى جنوب المحيط الهادئ، إضافة إلى توثيق التفاهم بين أمريكا وحلفائها من الدول الباسيفكية المطلة على المحيط الهادئ مثل كندا، والمكسيك، وبيرو، وتشيلي، جنبًا إلى جنب مع أستراليا ونيوزيلاندا، لضمان غلق الطريق الإقليمي الاستراتيجي من المحيط الهادئ إلى بحر البلطيق، المرتبط بطريق الحرير الصيني.
ثانيًا: التخلص من الأنظمة الحاكمة في دول أمريكا الجنوبية التي ترفض الدوران في فلك الهيمنة الأمريكية، مثل: كوبا، وفنزويلا؛ إما بإشعال اضطرابات بصِبغة الثورات الملونة، أو بمنح هذه الدول حصتها من الإرهاب العالمي، مع تفعيل دورٍ أكبر للأنشطة الهدامة والتخريبية لـ"معهد نصف الكرة الغربي للتعاون الأمني" كبديلٍ عن دور مدرسة الأمريكتين سيئة السمعة، جنبًا إلى جنب مع أنشطة وكالات إنفاذ القانون، التي أنشأها بيل كلينتون في أمريكا اللاتينية.
ثالثًا: العمل على بناء شبكة من التبادلات التجارية الثنائية، بين الولايات المتحدة الأمريكية ودول الأمريكتين، حيث يتفاوض ترامب مع كل دولةٍ على حدة، وإملاء الشروط على الدول الأضعف، التي تمنح مزايا أعلى للشركات الأمريكية، ومكاسب أكبر للاقتصاد الأمريكي، حتى وإن تعارضت مع قوانين السوق، لأنها لن تكون تحت إشرافٍ مباشر من منظمة التجارة العالمية.
ولهذا انسحب ترامب فعليًّا من اتفاقية التجارة الحرة مع دول الباسيفك المعروفة باسم "الشراكة عبر المحيط الهادئ" التي أبرمها سلفه "باراك أوباما" كما قام بنسف اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية المعروفة باسم "نافتا" مع كندا والمكسيك، التي اقترحها بوش الأب، وقام بالمصادقة عليها بيل كلينتون عام 1993، فهذه الاتفاقيات لا تعبر عن مصالح الولايات المتحدة الاقتصادية للهيمنة على الأمريكتين من وجهة نظر ترامب.