تقرير: أمانى عبد الحميد
فى عام ١٩٦٩ انتابته مشاعر الحزن الممزوجة بالإحباط، فخرج نحو شاطئ النيل, قبل الغروب بقليل, مصطحبا معه مجموعة من قوالب تماثيله الجصية ليجلس عند طرف جزيرة الزمالك, وبدأ يهم بإلقاء الواحد تلو الآخر ليغرقها فى النهر وجلس يراقب دومات المياه وهى تبتلعها ودموعه تنسال على خديه, تلك هى مشاعر الفنان الراحل جمال السجينى رائد فن النحت الحديث عندما استحوذ عليه الإحباط فى أعقاب هزيمة ١٩٦٧, انتابته مشاعر الحزن الممزوجة بالوطنية فلم يجد ما يقدمه لوطنه الجريح سوى أن يلقى فى نهره العظيم بعضا من أعماله، لكن سرعان ما تدارك نفسه وقدم قبل وفاته بعام واحد فقط تمثال «العبور» أحد أهم الصروح النحتية التى تجسد لحظة عبور الوطن من الهزيمة إلى الانتصار, لذا فإن المتأمل لأعمال النحات العظيم لا يملك سوى الصمت أمام تماثيله داخل قاعة العرض بمتحف محمود مختار وأعماله المطروقة على النحاس أو لوحاته التى تقدم ملامح أولاد النيل بكل فخر ومحبة, ويتساءل لماذا اكتفت وزارة الثقافة بإقامة احتفالية تستمر لمدة أسبوعين فقط، لكى تحتفى بالذكرى المئوية لميلاده ولم تسع إلى إقامة متحف خاص يحمل اسم أحد أهم رواد الفن التشكيلى الحديث.
جمال السجينى نحات مصرى أصيل ترك بصماته فى تاريخ الفنون فى مصر بداية من منتصف الخمسينيات من القرن العشرين, عبر بالرسم والنحت خاصة فنون الطرق على النحاس, أراد أن يقدم مصر التى يعشقها بطريقته الفنية الخاصة, وهو فنان أصيل غزير الإنتاج تتناثر أعماله داخل متاحف الفن فى مصر بالقاهرة والإسكندرية بل هناك أعمال له داخل متحف الميتروبوليتان بنيويورك.
ففى أول معرض خاص له فى عام ١٩٥١ قدم رؤيته الرومانسية وأسلوبه الشعبى ليخط بذلك طريقا خاصا به, كان يجمع بين التراث الفرعونى والفن الإفريقى, استطاع أن يأخذ من فنون الأجداد ويطورها لتتماشى مع البيئة التى يعيشها لتخرج بعدها أعماله تتمتع بالأصالة والبساطة وحسن التعبير وقوة الشخصية بالرغم من تواضعها, وظل السجينى طوال حياته ملتزما بقضايا الوطن يشغله حبه العميق لمصر ليخرج علينا بآخر أعماله تمثال «العبور» الذى يجسد فيه مصر الحديثة المتطلعة إلى المستقبل على هيئة سفينة يحتضنها أبناؤها الجنود وهى تفرد ذراعيها للأمام وبين طيات ثيابها الجنود يعبرون من الهزيمة إلى النصر.
وعلى مدار أسبوعين فقط يقيم قطاع الفنون التشكيلية احتفالية من خلال إقامة معرضًا لأعمال الفنان الرائد الراحل جمال السجينى (١٩١٧ – ١٩٧٧) داخل مركز محمود مختار الثقافى بالتعاون مع قاعة الزمالك للفن احتفاءً بمرور ١٠٠ عام على ميلاد النحات جمال السجينى, حيث أكد د. خالد سرور رئيس قطاع الفنون التشكيلية أن السجينى أحد أبرز رموز الحركة التشكيلية المصرية وأنه خلد اسمه كنحات متفرد ومتميز صاحب أعمال فنية نحتية تحمل بصمة شديدة الخصوصية، ويعد مدرسة للفن بذاته مارس مجالات النحت والتصوير والنحت البارز والخزف الزخرفى والطرق على النحاس، قائلا: «كان السجينى فى كل مجال مجددًا مبهرًا» وأن الاحتفال بمئوية مولده فرصة لمشاهدة مجموعة من الأعمال رفيعة المستوى وللكشف عن محطات مشواره الفنى وما شهده من تحولات رئيسية فى تجربته الإبداعية شديدة الثراء على حد قوله, ومع ذلك لم تضع وزارة الثقافة أية مخططات أو محاولات لإقامة متحف أو حتى تخصيص قاعة عرض دائم لأعمال النحات الرائد لتكون مزارا لكل محبى الفن التشكيلى فى مصر.
فى المقابل نجد قاعة الزمالك اهتمت فى تقديم أعمال السجينى حيث وصفت ناهدة خورى المسئولة عن القاعة والتى تشارك فى تنظيم الاحتفالية، بقولها إن السجينى «نحات باهر ونادر..» وأن لوحاته لم تقل براعة عن نحته حيث أكدت أن لوحة «السبوع» تعتبر أكثر اللوحات الفنية ذات المكانة والتى تمثل شخصية السجينى، حيث تصور احتفاله بمولد ابنه الوحيد «مجد» ليقدم لنا عملا فنيا نابضا بالحياة, كذلك تمثاله المميز لأمير الشعراء أحمد شوقى أو لكوكب الشرق أم كلثوم، حيث جسد لحظة اندماجها فى الغناء, وأشارت إلى أنه تميز بالقدرة على تشكيل الوسائط المتعددة من الطين إلى البرونز، علاوة على إبداعه فى فن التصوير وأعمال الخزف واستطاع أن يحولها إلى قطع فنية مشوقة ومثيرة للفكر, وإن أشارت إلى أن أعمال الفنان بعد وفاته فى عام ١٩٧٧ لم تنل المكانة التى تستحقها، بالرغم من أنه قدم فنه بكل إخلاص وتفان, لذا حرصت على تخليد ذكرى الفنان وأصدرت كتابا يتحدث عن عظمة جمال السجينى الفنان يحمل عنوان الذكرى المئوية للسجينى، يضم صورا لأهم أعماله النحتية ولوحاته التى أثرى بها حركة الفن التشكيلى المصرى.
والمعلوم أن أعمال جمال السجينى (١٩١٧- ١٩٧٧) تحمل همًا وطنيًا وإنسانيًا وحضاريًا، كما يتجلى فى منحوتة التى تحمل اسم «بورسعيد», كما اتسمت أعماله بالتأثير فى الحركة الفنية التشكيلية المصرية الحديثة وبعثت فيها الروح الشاعرية والإنسانية المرهفة, عمل إلى جانب مجموعة من الفنانين مثل عبد الهادى الجزار ومحمد حامد عويس وجاذبية سرى وصلاح يسرى, وحصل السجينى على عدد من الجوائز والأوسمة، أهمها وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى فى مصر، وسام من الحكومة الإيطالية بدرجة فارس، جائزة الدولة التشجيعية (١٩٦٢)، جائزة مختار للنحت ٣٧، جائزة النحت فى بينالى الإسكندرية لدول البحر المتوسط فى دورته الأولى, وبرع أيضا فى إبداعاته من النحت البارز على خامة النحاس بشكل يكشف عمق ثقافته وتأمله للفن المصرى القديم، وكذلك فن العمارة الإسلامية، والمدرسة الأوروبية.
وكانت بدايته مع أوائل الخمسينيات من القرن العشرين، حيث بزغ نجم السجينى بعد أقل من عشرين عاما من رحيل رائد النحت الحديث فى مصر محمود مختار، جاء محملا بأحلام ثورة ١٩١٩ واستمد منها حسها الثورى وتطلعها إلى مشروع للنهضة الوطنية , خرجت من عباءته أجيال تلو أجيال من النحاتين الذين درسوا على يديه بكلية الفنون الجميلة حتى آخر حياته، كان يتطلع إلى أن تخرج أعماله من المرسم إلى الهواء الطلق، فى الساحات العامة والحدائق والميادين مثل أعمال محمود مختار، نحت بورتريهات لرموز الوطن من قادة مثل جمال عبد الناصر، الذى أحبه وآمن بمشروعه, ورموز الفن والأدب والصحافة، مثل أمير الشعراء أحمد شوقى وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ وسيف وأدهم وانلى وتوفيق الحكيم وعلى ومصطفى أمين، ومن قبلهم جميعا تمثاله لسيد درويش عام ١٩٦٢ الذى كان صيحة جديدة فى الفكر التشكيلى الحديث, كان يقود دراجته البسيطة التى ظل يتحرك بها يوميا إلى عمله ومشاويره حتى النهاية, كان مؤمنا بأهمية وصول رسالته إلى عامة الناس، لترتفع بأذواقهم ومشاعرهم الوطنية , استرد السجينى روحه وكرامته بعد حرب أكتوبر ١٩٧٣، وكان أول فنان يعبر عن العبور وانتصار أكتوبر فى عدة تماثيل صرحية، تم تنفيذ أحدها بميدان المحطة ببنى سويف.
ومن يتابع أعمال مراحله المختلفة يجدها تدور حول محورين أساسيين: الأول هو الحرية، ويصل فى ذروتها إلى الرمز بتحطيم الأغلال، والثانى هو الأرض، بجذور التاريخ والتراث، وفى كلا المحورين كان يقيم رؤاه وأعماله الفنية على خلفية من القيم الاجتماعية والثقافية والروحية للشعب المصرى والعربى، وذلك على حد وصف الناقد عز الدين نجيب، حيث يرى أن السجينى هو رائد تيار الواقعية الاجتماعية فى حركة النحت الحديث فى مصر، ويؤكد فى دراسة له عن فن جمال السجينى أنه فنان حرص على ولائه للقيم الأصيلة فى النحت المصرى القديم، وعلى إكمال محاولات من سبقوه لبلورة شخصية مصرية قومية للنحت، مثل مختار وأحمد عثمان ومنصور فرج وعبد القادر رزق وأنور عبد المولى لكنه فى ذات الوقت تمرد على نزعتهم المحافظة وحطم الثبات المظهرى فى الكتلة والتعبير متأثرا - أولا - بإنجازات المدرسة الرومانتيكية على يدى رودان ومايول فى النحت الفرنسى أوائل القرن العشرين، وثانيا بإنجازات الفنان الإنجليزى هنرى مور، التى تجمع بين رصانة وشموخ النحت المصرى القديم وبين الشكل البحت غير التمثيلى للطبيعة, ومتأثرا ثالثا بالعمارة البيئية والإسلامية، ليكون من ملامحها أشكالًا نحتية معاصرة، مثل القباب والمصاطب والسلالم الداخلية والفتحات، ويجعلها إطارا لعبقرية المكان والتاريخ ولزخم الأنفاس البشرية بداخله, رؤاه كانت أكثر مباشرة فى التعبير عن الصراع الاجتماعى فى واقع يتلوى بالآلام ويضطرم بالسخط قبل قيام ثورة ١٩٥٢، وفى التعبير عن الآمال الشعبية الكبيرة فى الحرية والعدل. ولا شك أن لنشأته دورًا مهما فى اختياره الفكرى ومزاجه النفسى، فقد ولد فى ٧ يناير ١٩١٧ بحى باب الشعرية، وتشبعت روحه بعادات وقيم أبنائه، ومن أهمها الانتماء والشهامة والاعتداد والتضامن ولا شك أيضا أن للمناخ السياسى الذى ساد مصر إبان الحرب العالمية الثانية وما بعدها ولنشاط الحركات الثورية والديمقراطية والجماعات الفنية والأدبية دور مهام ففى عام ١٩٤٦ كان ضمن جماعة الفن الحديث الذين أصبحوا قادة الحركة الفنية فيما بعد, ومن أبرز أعماله فى تلك المرحلة تماثيل الجوع، الفلاح، الأرض، الحرية، حيث كانت صرخات احتجاج ضد الظلم بأشكاله المختلفة.