ربما لا يجمع المصريون اليوم على شيء بقدر إجماعهم على حالة الفوضى العشوائية التي تضرب الشارع المصري بقسوة، وقد يمتد إجماعهم إلى أن هذا المرض العضال الناشب أظافره في حياة الشعب اليومية وأركانها، أصبح الآن وكأنه العقدة التي ليس لدينا طريق للفكاك منها، فما يدور بالشارع من فوضى وعدم انضباط لم نلمح له علاجا حقيقيا يتفاعل مع مكونات الأزمة، فما نراه أحيانا لا يتجاوز بعض المسكنات والإجراءات التي تحاول التخفيف من حدة التجاوزات، لكنها لم تستأصل شيئا مما نراه ونكابده فسرعان ما يعود المشهد إلى سابق عهده بمجرد مرور أيام أو أسابيع على أقصى تقدير.
تتلخص الفوضى المشار إليها في ظاهرتين رئيسيتين هما الحالة المرورية وإشغالات الطريق العام، وبداخل الإشغالات العديد من النشاطات غير القانونية تتمثل معظمها في عمليات بيع واتجار في أنواع من السلع أو تقديم لخدمات، وما يجعل هذه النشاطات غير قانونية أنها تمارس في الطريق العام من دون ترخيص من الجهات المختصة، أو في بعض أشكالها تتجاوز الحد المسموح به والوارد في تصريح التشغيل.
القسم الأول المتعلق بالحالة المرورية له نمط معقد هو الآخر في صناعة فوضى الطريق العام، لكن تأثره السلبي بحالة الإشغالات كبيرة من دون شك وهذا يضع تلك الإشغالات تحت سيف الاتهام المضاعف، ومما يضفي على تلك المشكلة التي نحن بصددها درجة من التعقيد المزمن هو أن الطريق العام المجني عليه، يبدو وفق التشريعات واللوائح المنظمة لعمله وضوابطه وكأن دمه متفرق ما بين الجهات الرقابية المتنوعة، وهذا يجعل الجميع يلعب في مساحة الفجوات ما بين تلك الأجهزة بعضها بعضا، فما يمكن رصده بصورة أولية أن قواعد النظام التي يمكن الاستناد إليها قد أصابها التقادم، ولم تعد جديرة ولا مؤهلة اليوم للتصدي لتلك الفوضى بالقدر الذي يحفظ للطريق العام هيبته، ويوفر بالمقابل للمواطن استخداما آمنا ومريحا لخدمات هذا الطريق وهو ما خصص له، أو ما يمكن اعتباره مهمة الطريق الأساسية ولذلك قرن باسم الطريق صفة العمومية حيث هو معني أساسا بتوفير تلك الخدمة العامة للمواطنين كافة.
في رحلة البحث عن المسئول عما يجري بالطريق العام، يبرز في البداية بالطبع قيادات ومسئولو الأحياء ودواوين المحافظات باعتبارهما في صدارة المواجهة، وما قد يعود عليهم الموطن بالسؤال فيما يتعلق بتراخيص العمل بالشارع وعلى جانب آخر في مكافحة ما تناولناه من أشكال للفوضى، وسلاحهم التنفيذي في ضبط الشارع هنا هو «شرطة المرافق» أو ما اصطلح على تسميته باللغة العامية «البلدية»، وبقدر ما نرصد المعاناة التي تواجهها هذه الإدارة الأمنية التي تعمل وفق قرارات وخطط السادة المحافظين أو رؤساء الأحياء، لكن تلك المعاناة ربما نجد لها مردودا وظلالا غير مريحة أو مقبولة بالمرة، وذلك فيما يتابعه المارة من هجمات وإغارات تقوم بها تلك القوات والمسئولون عن «الباعة الجائلين»؛ حيث يشتمل هذا المشهد عادة على تدمير وإتلاف كبير وواسع للبضائع التي يقوم بتداولها وبيعها بمعرفة البائعين الجائلين، وهو إجراء عفوي غير مقصود بالطبع لكنه من المشاهد المتوقع حدوثها في ظل حالات الكر والفر، ما بين هؤلاء الباعة الموصوفين وفق القواعد القانونية بـ «التجارة غير الشرعية» وبين قوات أمنية وموظفي أحياء لا يجدون في أيديهم تشريعات وإجراءات تعالج أو تقلص من تداعيات الظاهرة، فكلا الطرفين يعرف تمام المعرفة أن هذا النشاط ربما ستتم استعادته في اليوم التالي للمشهد المشار إليه، وفي هذا نحن أمام حلقة مفرغة لم ولن تنتهي من دون دراسات وحلول جادة تعالج وتضع علاجات واقعية، يمكن من خلالها استئصال الظاهرة أو تقليصها من دون أي انتهاكات لآدمية البائعين وبالصورة التي تضمن الحفاظ على حرمة الطريق العام.
كافة المقترحات التي خرجت من الدولة ممثلة في المحافظين ومن بعض الوزراء والعديد من نواب البرلمان الذين تفاعلوا مع أزمة هؤلاء البائعين، لم تخرج عن وعود بإقامة «أسواق حضارية» بديلة لعملية البيع وإشغالات الطريق العام، والذي تم إنشاؤه من أسواق لا يكاد يذكر وبقي الطرح مجرد وعود ضبابية تفتقر إلى مكوناتها على أرض الواقع، وظل هذا الشكل من أشكال التجارة يتوسع ويتوغل وبدا في الآونة الأخيرة يطل برأسه على ألسنة المتخصصين في الدراسات الاقتصادية والمالية، فأطلق عليه في العديد من تلك الدراسات التي حاولت أن تضع له إطارا كي تخضعه لعملية الفحص العلمي بـ «الاقتصاد الموازي»، وهذا على اعتبار أنه نشاط واسع له مساحة لا يستهان بها في حجم أسواق البيع والشراء بل وفي بعض الأحيان يمتد لما هو أكثر من ذلك، فتدخل فيه عمليات استيراد بالعملة الصعبة من الخارج «البضائع الصينية» أو عمليات تصنيع داخلي «مصانع بير السلم». ولم تكن الدراسات مبالغة في إطلاق توصيف الاقتصاد الموازي على هذا النشاط الواسع، بالنظر إلى حجم الأموال والأيدي العاملة المنخرطة في هذا النشاط المتشابك، والخطير في هذا الإطار أنه نشاط لا يخضع لأي محاسبات ضريبية ولا يلتزم بأي من معايير الجودة المفترضة، هو فقط نوع من أنواع الاحتيال على غلاء أسعار بعض من السلع فيبدأ في استحداث بديل لها عن طريق استيرادها أو تصنيعها محليا، ومن ثم إطلاقها في الأسواق ليصير الحصاد تبعا لتلك المنظومة هذا الشكل المعقد من أزمة البيع والاتجار العشوائي المشار إليه.
هذه المنظومة الضاربة في عمق الشارع المصري لها أيضا بعد أمني شديد الخطورة، خاصة ونحن نتابع مجموعة من الحلقات المتتابعة معظمها يتم بصورة غير شرعية في صور تتورط بداية في عمليات تهرب من الجمارك، وتستتبعها عمليات بيع يظل العاملون عليها في موقع المطاردين من الشرطة ومن مسئولي الطريق العام، وبجوار هؤلاء على نفس الساحة تكون هناك أعداد من البسطاء الذين يتداولون المواد الغذائية المنتجة محليا، لكن ما هو مشار إليه بدرجة الخطورة هو أن أعمال «البلطجة» وما قد يصاحبها من اعتداءات أو حمل لأسلحة بيضاء أو خلافه، يتصور أنها حاضرة بالضرورة في تلك التجمعات التي لا يكفل لها القانون أي شكل من أشكال الحماية أو التنظيم، فيكون اللجوء للقوة وبسط النفوذ والسيطرة ودفع الإتاوات هو النمط السائد لضمان استمرارية النشاط، هذا الجزء من المشهد هو ما يلقي بتبعة هائلة على الأجهزة الأمنية المكلفة بضبط درجة حرارة الطريق العام ووضع مقياس متوازن له، حتى لا تكون الجريمة والاحتكام إلى القوة هما سيد الموقف، ولدينا في هذا السياق نموذج أصاب الرأي العام المصري بذهول واسع منذ شهور مضت، عندما اعتدى بعض عمال و»بودي جارد» أحد المقاهي الفاخرة افتراضا في أرقى أحياء القاهرة العاصمة «مصر الجديدة»، على شاب مصري تصادف وجوده بالمكان صحبة خطيبته ليلقى مصرعه نتيجة خلاف ساذج على فاتورة حساب، وعدت تلك الحادثة وقتها وإلى الآن نموذجا كاشفا لحجم المشكلات التي نتحدث عن مفرداتها ومشيرة في الوقت ذاته إلى ما يمكن تصور وقوعه يوميا في أماكن أخرى أقل انضباطا وأكثر وحشية وانفلاتا.
لذلك القضية تبدو بالفعل شائكة وتستلزم انتباها مدققا وعاجلا في الوقت نفسه، فالشارع المصري المسمى بـ «الطريق العام» يئن من مشكلاته المتشعبة ويعاني الفوضى لا تسر مقيما أو زائرا، وكونه يظل هكذا من دون ضوابط أو قوانين تضبط استخدامه بالصورة الآدمية التي تكفل للجميع حقوقه فيه، ينذر بالسقوط مجددا كل فترة في براثن مأزق أخلاقي أو ممارسات عنف واسعة تنتقل بالتداعي للمواطنين المستخدمين له، ويظل شاهدا على عقم في استحداث الوسائل التي يمكنها امتصاص الأيدي العاملة التي لا تجد سوى الوجود بالشارع لممارسة أي نشاط حتى إن كان غير قانوني، والحديث عن فساد الأجهزة الرقابية لتلك المنظومة هي من تراث الشارع المصري الراسخ ويعلمه الجميع، ومهارات استغلال الفجوات والذمم غير السوية تعود بالنفع على جميع الأطراف في الوقت الذي تتمدد فيه الفوضى لتتسيد المشهد، مازلنا نتخبط في أركان تلك المشكلة في الوقت الذي أدركت فيه الكثير من الدول، أن الطريق العام بجميع مكوناته من نظافة إلى تنسيق إلى وسائل نقل إلى لوحات إرشادية، امتدادا إلى خدمات جاهزة وعاجلة ووسائل إنقاذ، هذه جميعا هي عنوان لحضارة تلك الدول والرقابة الصارمة على تنفيذها بالصورة اللائقة، هي المقياس الأهم لنجاحات الحكومات والهيئات المسؤولة والإخفاق في خروجها بالصورة التي ترضي المواطنين، تعد النقيصة الأبرز بالنظر إلى أنها كفيلة بإجهاض أي نجاح يمكن تحقيقه على مسارات أخرى. ووفق تلك المعادلة وهذا القياس ربما العمل من أجهزتنا “المحافظة، المحليات، شرطة المرافق” على برامج محكمة لاستعادة هيبة وانتظام الطريق العام، سيكون له مردود إيجابي واسع لدى المواطن الذي ينتظر استخداما آمنا به القدر الواجب من احترام متطلباته من دون إلقاء المزيد من العبء عليه، باعتبار أن الطريق العام هو أحد المستلزمات البديهية والحتمية لممارسة متطلبات حياته اليومية وحياة أسرته وأبنائه.