تنشر بوابة "الهلال اليوم"، قصة "ما يرويه جدار يريد أن ينقض"، للكاتبة أسماء حسين، من مجموعتها القصصية "فسحة بويكا" الصادرة عن دار "فصلة" للنشر والتوزيع في طبعتها الأولى يناير 2018.
ما يرويه جدار يريد أن ينقضّ
إنه آخر يوم من حياتي، أو هكذا فهمت من المعدات الثقيلة التي أدخلوها الغرفة هذا الصباح، وعمّال البناء الذين تبدو ملابسهم المتسخة وأيديهم الخشنة الصارمة كما لو أنها تحمل آثار قبيلة جدران أخرى فانية امتصتها عروقهم. لا أعرف السبب المحدد الذي قرروا هدمي لأجله، ولا أعرف إن كنت أشعر بالأسى لذلك.
لكن العالم يبدو على ما يرام أثناء ذلك، ولا شيء ينهار حولي. قضيت عمرًا طويلًا في هذه الغرفة، ومررت بالكثير من البشر ومختلف أنواع التجارب التي تتبدل عليهم كالملابس، هي في الغالب تجارب صامتة وساكنة تتناسب بشكل كبير مع الطبيعة المتوقعة مني كجدار. والآن قررت أن أبوح بشكل سري ببعض ما مررت به قبل أن يشرع العمال في الهدم وتتكاثر فيّ الشروخ.
يُقال أن شرخًا يحدث كلّما فقد الجدار جزءًا جذريًا من ذاكرته، لهذا تتخذ الشروخ شكل جذور، هذا ما سنختبر صحته لاحقًا. أما المقولة التي يرددها البعض أن للجدران آذان فهي صحيحة تمامًا بالمناسبة، لكن ليس بالمعنى الذي تدركونه أنتم، ما لا تدركونه هو أن للجدران أصوات أيضًا، تحتاج فقط أن تملك الإصغاء الكافي للاستماع لها وأن يسعك التعرف عليها.
لست الجدار الأجمل في الغرفة، لكني بالتأكيد الأكثر انتظامًا، ولطالما كنت الجدار الأكثر خلاءً هنا، فرغم تعاقب مختلف أنواع المستأجرين إلا أنهم تواطئوا غالبًا على أن يتركوني فارغًا دون أن يعكر أي جسم آخر اكتمال حضوري. لوني يبدو ناصعًا مقارنة بالجدران المجاورة القاتمة، لكن من يعرفني جيدًا يدرك أنه في الحقيقة أقرب إلى السكّري، وهذا ما يمنح العينين الراحة الكافية لإطالة التحديق نحوي دون الحاجة لأن تملأني بأي جسم خارجي. فيما يبدو سطحي للرائي أملسًا وساكنًا تمامًا، ما عدا من نتوءات صغيرة دقيقة، هي أشبه بقرون استشعار لا تمنح لذتها السرية إلا لمن يقترب بما فيه الكفاية.
يجاورني من الجانبين جداران يبدوان أطول مني نسبيًا، ولا أرى منهما الكثير لأنهما يكونا محجوبين غالبًا بقطع الأثاث من سرر ودواليب وخزانات وغيرها من الأشياء التي يركنها البشر هناك وتبدو لهم أكثر أهمية منا. يقطن الباب في بداية الجدار المجاور إلى يميني، وأرضية الغرفة مفروشة بسجّاد ناعم مشذب الأطراف يداعب أسفلي، أما السقف فهو عارٍ تمامًا إلا من ثريا كريستالية صغيرة تعكس بريقها على أرجاء الغرفة إذا داعبها ضوء ما. هذه هي التفاصيل الشكلية التي تغيرتْ على نحو طفيف عبر مرور الأيام. هناك أجسام أخرى حضرتْ وعقدتُ معها صداقة صامتة مؤقتة ثم رحلتْ دون عودة، لكن الوقت القصير المتبقي من عمري لا يمنحني الفرصة للإسهاب في وصفها هنا.
على الجدار المقابل تتربع نافذة في المنتصف تمامًا، بأطر أربعة أنيقة وستائر شفافة رقيقة، وكانت لحظتي اليومية المفضلة حين يقرر أحدهم أن يشرع الشبابيك. كيف أصف لكم ثراء ذلك الشعور؟ اللحظة التي تتراقص بها الستائر مع الهواء، وتتطاير ذرات الغبار العالقة بالنافذة، وتكتسب الغرفة ألقًا إضافيًا نتيجة البريق المنتشر فجأة على الأسطح، إذ يتشبّع السكّري في بشرتي بلون الشمس مكتسبًا مسحة سينمائية خلابة، فيما يتسرب الهواء الطازج إلى الداخل مانحًا ملمسي مخمليةً منتعشة. تلك كانت نافذتي الوحيدة على عالم أكثر امتلاءً وصخبًا.
لم أكن أدرك في أي طابق نحن، لكن بإمكاني التنبؤ أنه كان مرتفعًا بما يكفي ليطل على المدينة التي لا أدرك أبعادها. كل تلك المباني الصغيرة في البعيد، كانت تشعرني بأني مرتبط بكل شيء حولي في تناغم هارموني عظيم، كما لو كنت جزءًا ضئيلًا بما يكفي لأن يبقى منسيًا، ولكن ضروريًا بما يكفي ليحفظ تماسك هذا العالم.
أشعر بالأسى تجاه الجدار الذي يواجهني لأنه لا يستطيع أن يطل من النافذة، رغم المساحة الكبيرة التي تحتلها منه. لكنه لم يشتك يومًا ولم يحرك ساكنًا، حتى حين دقوا جانبيه بالمسامير وأورثوه صداعًا هائلًا في أحد الأيام ليعلقوا عليه لوحتين سخيفتين لا ذوق حقيقي بهما، ظل صامتًا صامدًا دون أي شرخ اعتراض على سطحه. كانت اللوحتان المعلقتان بشكل متوازٍ إلى جانبيْ النافذة تبدوان لي، ببراوزيها المتساوية الأطراف، كعينين ضخمتين تحدقان نحوي دون توقف، ولم يكن هذا يزعجني بالضرورة حيث أن طريقة تواصلنا لم تكن بتلك الحسية التي تدركونها أنتم، أنا وهذا الجدار المواجه لي منذ الأزل. لم نتحدث يومًا ولم نتبادل نظرة ولا إيماءة، لكننا على نحو صامت وبسيط كنا نؤنس عزلة بعضنا.
وذات يوم، استأجر الغرفة رجل مهووس بالسينما كما يبدو، واستبدل اللوحتين المدّعيتين بملصقات لأفلام جذبني بداخلها وجود ممثلات بارعات الجمال، يحدقن نحوي بابتسامات لا تفتر وعينين لا ينضب بريقهما وإغواء ساحر. وفي المساء، أحضر ما يسمى بجهاز العرض، ووضعه في الطرف المعاكس من الغرفة، تحت النافذة تمامًا، وكشف عن عدسته الأمامية المواجهة لي، ثم أغلق إضاءة الغرفة، وسدّ كل منافذ الضوء عند النافذة دون أن يترك أي فسحة للنور. كنت في البدء مرتابًا وسط كل هذا الظلام اتجاه هذا الجهاز الغريب الذي لم أكن أعلم ما يمكن له القيام به وهو مصوب نحوي هكذا. لكن ما إن بدأ الجهاز بالعمل، حتى خرجت حزمة ضوء مكثفة من عدسته، تتوسع تدريجيًا كلما اقتربت مني، لتملأ بسطوعها جوانبي كلها في أطر متساوية ثابتة، وما حدث بعدها كان شيئًا يشبه السحر تمامًا، شيء يصعب علي وصفه لكم أبدًا أيها الغرباء الأعزاء إن كان أحد منكم يصغي إلي الآن، شيء لا يمكنني أن أصفه حتى للجدران الأخرى التي لم يتسرب إليها ويتخللها الشعور به. كل ما يمكن قوله هو أني كنتُ مضيئًا! كنت مشعًا ومُشبعًا وحيويًا كما لم أشعر من قبل.
كل تلك الألوان النقية التي أخذت بالتفجر في كل جزء مني، تتحرك داخل الأطر وتتبدل بألوان أخرى تعاود الظهور بدرجات متباينة ومتداخلة. لم أكن أدرك قبلها أن ألوانًا كتلك يمكن أن توجد وأن تمسني وتنفذ لسطحي، لم أكن أدرك حتى قدرتي أنا على التشكل بكل هذه الصور والأحداث. رعاة بقر بخيولهم الجامحة يخوضون مغامراتهم فوقي، ورجال عصابات بسياراتهم ومسدساتهم ودخان سجائرهم الذي يطفو في كل مكان، قصص وألغاز وجرائم، ملاحم وأساطير، وحوش وأقزام، ملائكة وجنّيات، وأناس يمرحون ويبكون، يولدون ويموتون، ويقعون في الحب ويفترقون في وداعاتٍ حميمة، كل ذلك كان يحدث فوقي فقط، وأنا أتألق، أتألق، أتألق، كما لو كنت أكتشف أخيرًا شعور الثريا الكريستالية في سقف الغرفة وهي تشع على كل شيء في مجالها.
كل شيء كان يحدث بخفة لا أكاد أشعر بها، بوزن الضوء الذي لا يحجبني أو يترك خدشًا على جسدي، ولو نظرتم إلي لما أدركتم أني خضت كل تلك التجارب وقطعت كل هذه الأماكن وعبرت كل هذه الأزمنة والعصور، وكان هذا هو الجزء الأكثر إدهاشاً في الأمر كله، بمجرد أن تطفأ تلك الإضاءة كنت أعود إلى خصائصي السابقة دون أن تترك آثار الانفجارات والدماء والعناق وأحمر الشفاه أي لطخة فوقي، تشتعل أنوار الغرفة مرة أخرى ويتبخر كل أثر لتلك الصور والألوان والحيوات المتباينة، بينما أحتفظ أنا في مكان كامنٍ داخلي بالوهج السحري لكل ما حدث.
الآن يكاد أن ينتهي كل هذا، كل تلك التجارب العديدة بثرائها ومراراتها وأصدائها المختبئة في الزوايا، فيما يباشر العمال طعنهم فيّ بأدواتهم الثاقبة، وأكاد أن أطوي بسقوطي كل ما مررت به. لا أزال أملك الكثير لأحدثكم به، عن ورق الجدران القبيح الذي ألصقوه بي لفترة من الزمن، ومشجب الملابس الذي علقوه علي مائلًا ذات يوم، والطفل الذي كان يرسم أشياء تتجاوز سنه في زاويتي السفلية اليمنى، والأصوات التي كانت تصلني من الغرفة المجاورة بالعديد من الأسرار والحكايات الثرية، والنمل الذي اتخذ مسكنًا له داخلي، وكنت لأحدثكم عن الكثير غير هذا، لولا أن الوقت ينفد مني الآن، وأنا أشعر بالشروخ تأكل ذاكرتي، وتنسيني شيئًا فشيئًا ارتباطي بكل تلك التجارب.
النافذة المشرعة على المدينة تطل كعادتها في البعيد على مبانٍ أخرى صغيرة، يحمل كلًا منها بداخله جدارًا بذاكرة فريدة لا تشبه ذاكرة وتجربة أي جدار آخر، ولعلها تتسائل وحدها هي الأخرى إذا كان ثمة مصغٍ لما تقوله. ها أنا أشرع في الانقضاض ببطء، تتحرك الستائر لتمنحني مداعبة أخيرة، يتجذّر شرخ مؤجل في ذاكرة الجدار المقابل.
أحاول أن ألخص تجربتي سريعًا بشكل سينمائي، فيما ينطفئ في ذاكرتي كل فيلم شاهدته، ولا يبقى غير هذا المشهد أمامي.