تنشر بوابة "الهلال اليوم" الجزء الثاني من الفصل التاسع من كتاب "أحجار على رقعة الأوراسيا"، للكاتب عمرو عمار، والصادر عن دار «سما» للنشر والتوزيع، وجاء بعنوان "وثيقة سبتمبر 2002".
وثيقة سبتمبر 2002
ظهر فيها لأول مرة عنوان (الحرب على الإرهاب).. إذ رأى بوش بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، أن هناك دولًا صغيرة في الشرق الأوسط يمكن أن تهدد الأمن الأمريكي، وقد وصف بوش حلفاء الإرهاب بأعداء الحضارة، وللقضاء عليهم، يجب امتلاك قدرات عسكرية أكبر وأقوى من ذي قبل، مما يعني عسكرة استراتيجية الأمن الأمريكي في عهد بوش(1).
وثيقة مارس 2006
جاءت بعنوان (أمريكا في حرب).. أي أن استراتيجية الأمن الأمريكي هي استراتيجية حرب، وقد منحت الوثيقة بعدًا جديدًا لمفهوم الحرب على الإرهاب، بمفهوم (الإرهاب العالمي) دون تحديدٍ لجماعةٍ أو دولة.
ولهذا فتح بوش قوس الحرب على الإرهاب ولم يُغلق هذا القوس حتى الآن، وأصبحت أي دولةٍ أو جماعة على كوكب الأرض تهدد المصالح الأمريكية بمنظور بوش؛ هي عدو إرهابي يجب القضاء عليه تحت شعار (الحرب على الإرهاب) باستخدام القوة العسكرية كأداةٍ فعالة.
كما أشارت الوثيقة لأول مرة أيضًا إلى مفهوم (الحرب الوقائية) وتم ربطها بأسلحة الدمار الشامل.. كان مبرر بوش في هذه الحرب الاستباقية، ضد الجماعات الإرهابية والدول التي تحميها، كضرورةٍ دفاعية عن الشعب الأمريكي من الإرهاب وداعميه.
وفي الحقيقة استهدف العقل الاستراتيجي المفكر، إيجاد الشرعية لهذه الحروب العسكرية، وللتوسع الإمبريالي، لا أمام المجتمع الدولي فحسب، بل أيضًا أمام الشعب الأمريكي بأسلوب التنافر المعرفي (الحرب هي السلام) من أجل تبرير تضخم الإنفاق الدفاعي الأمريكي، والتوسع العسكري خارج الحدود.
في هذا التوقيت كان الترويج لفكرة امتلاك تنظيم القاعدة أسلحة الدمار الشامل، تنتشر على نطاقٍ واسعٍ وفق منظومة ممنهجة من حرب الأفكار، كما سوقت الوثيقة بحرفيةٍ شديدة ضرورة منع حيازة الإرهابيين والدول المارقة أسلحة الدمار الشامل، وأهمية مواجهتها بتطويرٍ مستمر للعسكرية الأمريكية.
أيضًا شملت وثيقتا بوش لأول مرة - الجمهورية السورية- كأحد الدول المارقة، هذا الوصف الذي ظهر في وثيقة كلينتون بصفتها من الدول الراعية للإرهاب عام 1995، وضعها بوش الابن ضمن دول (محور الشر) كبرمجةٍ لغويةٍ عصبية موجهة إلى عقول الشعوب، وربما لكونه ينتمي إلى طبقة البوريتانية التي تختص نفسها كشعب الله المختار، وأن الآخرين من الأشرار.. وبالتأكيد اتضح جليًّا من خلال الحرب في سورية، منذ عام 2012، من هي الدول الراعية للإرهاب(2).
وعلى صعيد الاتحاد الأوروبي أوصت الوثيقة بضرورة عمل إصلاحاتٍ داخل حلف الناتو، وتقديم المساعدات الاقتصادية والتكنولوجية لها، من أجل مواجهة هذه المخاطر، والعمل على توسيع عضوية الحلف لتشمل الدول حديثة العهد بالديمقراطية؛ في إشارةٍ هنا إلى دول أوروبا الشرقية تلك الأرض المركزية التي توسع من النفوذ الأمريكي على رقعة الأوراسيا عبر ذراعها العسكرية (حلف الناتو).. وقد أشرنا من قبل كيف انضمت هذه الدول إلى عضوية الاتحاد الأوربي في عصر بوش الابن.
وعلى هذا أنشأت وثيقتا بوش الابن، بيئة أمنية جديدة، استدعت تغييرًا آخر في استراتيجيات (حلف الناتو) للدفاع عن مصالح الدول الأعضاء، وتنفيذ عمليات خارج القارة الأوروبية، بعد أحداث 11 سبتمبر، وللمرة الأولى في خيانةٍ جديدة لمبادئ تأسيس الحلف، والتحول من الدفاع والحفاظ على السلام والأمن في منطقة شمال الأطلسي، إلى التوسع الإمبريالي خارج حدود القارة العجوز.
ولهذا تُعد (وثيقتا بوش الجمهوري).. ورغم تكاملهما مع وثيقة كلينتون (الديمقراطي) فيما يخص المخاطر التي تواجه الأمن الأمريكي، فإن الاختلاف الجوهري في السياسة الخارجية الأمريكية بينهما كان واضحًا.
بينما رأى (كلينتون) عدم الحاجة إلى استخدام القوة العسكرية التي تؤدى إلى استثارة الأعداء وتشويه سمعة أمريكا، وهو ما دفعه إلى الانسحاب من الحرب في الصومال (آرث بوش الأب) والتي أعادت إلى الأذهان فضيحة الجيش الأمريكي في حرب فيتنام، كان بوش الابن مصمم على استخدام الآلة العسكرية، وإشعال الحروب في أفغانستان والعراق، بذريعة (الحرب على الإرهاب) كمحدد للأمن القومي الأمريكي، رغم رفض المجتمع الدولي.
كما قام بوش بإلغاء العديد من الاتفاقيات الدولية التي أبرمها (كلينتون) من قبل؛ كانعكاسٍ حقيقي لمبدأ حكم بوش الابن، حيث التصرف الأمريكي أحادي الجانب في الشؤون الدولية، وكأول رئيسٍ أمريكي يخترق القاعدة الأمريكية المعروفة بأن الإدارات الأمريكية المتعاقبة يمكن لها تطوير السياسة الخارجية للولايات المتحدة، والبناء على قرارات الإدارات السابقة، وهو نفس الأمر الذي يفعله الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
وبشكلٍ عام عمدت استراتيجية بوش إلى استخدام وجه التصوف في الأيديولوجية الأمريكية مثل سلفه ويليام ماكينلي، ومن بعده ثيودور روزفلت، والمفضي إلى تطويع الآلة العسكرية في خدمة الإمبريالية العالمية، بذريعة حماية الأمن القومي الأمريكي، بينما كانت تهدف إلى بقاء الهيمنة العالمية، ووأد أي منافسه عالمية محتملة، دون النظر إلى السياسة الداخلية؛ ولهذا زرعت سياسات بوش الخارجية اللبنة الأولى في بذرة فناء القرن الأمريكي، بعد أن انهيار اقتصاد أمريكا، وفقدت واشنطن المصداقية والسمعة الدولية.
استغل بوش الابن أحداث 11 سبتمبر، لتبرير كل الجرائم التي ارتكبتها أمريكا في أعقاب الحدث، وفق أجندة عسكرية أمريكية بعيدة المدى، مكنت أمريكا من عسكرة العالم بأسره، بل وتحولت أمريكا إلى شرطي الكرة الأرضية؛ فهذا الحدث الذي راح ضحيته عشرات من المواطنين الأمريكان الأبرياء، في المقابل، دُمرت بلدان عديدة تدميرًا، وقُتل آلاف من البشر على كوكب الأرض، وتناثرت جثثهم فوق أنقاض برجي التجارة العالمية.
كانت جرائم حربٍ واسعة النطاق، تورطت فيها الإدارات الأمريكية المتعاقبة تحت شعارات الحرب على الإرهاب.. فقد قالها بوش الابن: «لا تمييز بين الإرهابيين منفذي الحادث وبين الدول التي تأويهم».
حتى الشعب الأمريكي نفسه لم يسلم من هذه العسكرة، فقد تراجعت الحريات المدنية للشعب الأمريكي على خلفية قانونٍ جديد للإرهاب تم استحداثه، والمعروف باسم (باتريون آكت) ولا يزال موجهًا إلى رقاب الأمريكان حتى الآن، لضمان سياسة الاحتواء الداخلي.
آنذاك، كان تيار اليمين المتطرف الذي بدأ في الصعود التدريجي إبان الحرب الباردة بفرعيه؛ السياسي (اليمين المحافظ الجديد) والديني (اليمين المسيحي الجديد) ومراكزه الفكرية والبحثية، هو المحرك الأساسي لجميع قرارات بوش الابن، مثلما كان مع بوش الأب، ومن قبله رونالد ريجان، والآن مع (دونالد ترامب) باختلاف آلياته.