تنشر "الهلال اليوم"، الفصل الثامن من رواية "بورتوسعيد" للكاتب الروائي الدكتور سامح الجباس، والصادرة عن دار "شرقيات" للنشر والتوزيع، وجاء الفصل بعنوان "شارع الثلاثينى".
شارع الثلاثينى
" احتفل سكان القطر المصرى كافة فى 10 ابريل الماضى بيوم شم النسيم و هو احتفال وطنى
خرج فيه الناس زرافات ووحدانا الى الضواحى و المتنزهات و قد كان السرور عاما و لم يحدث ما يكدر الراحة .. "
( الهلال – العدد التاسع – السنة الأولى – مايو 1893 )
لا أفهم مايحدث لى. سنوات وسنوات كثيرة مرّت علىّ حتى أنى لا أعرف عددها. تسمعون صوتى بلا فم. وتروننى بلا جسد. تضحكون أمامى كأطفال, وتبكون كثكلى.
مرة أكون اسماعيل ياسين وأخرى يوسف وهبى. سكنّ جسدى الكثير من الممثلين بينما الأحياء لا يعرفنى منهم أحد. تبحلقون إلىّ لساعات ثم تنصرفون عنى لأستقبل غيركم.
ربما أكون قطعة قماش بيضاء ولكن لى حياتى. أنا القلب بالنسبة للجسد. عندما هدموا جسد سينما الكوزموجراف نقلونى إلى أخرى سينما الشرق الصيفى بشارع الملكة أوجينى، حملّ جسدى لسنوات مواقف درامية وأخرى كوميدية حفظتها، ولم أكن أعرف أن لى ذاكرة وأننى يمكن أن أنطق ذات يوم. على كثرة ماعُرض على جسدى من أفلام الا أن بعضها مازلت أسترجعه وحدى بعد خروج آخر حفلة واظلام القاعة علىّ.
فى عام 1956 كنت أرى برانيط الصيادين وقبعات الأفندية تبحلق إلى جسدىّ وهم يشاهدون فيلم أرضنا الخضراء. تتعلق أعينهم بجمال ماجدة. ينفعلون مع ظهور محمود المليجى يتعاطفون مع شكرى سرحان يصفقون لحسين رياض. لايهتمون بتترات الفيلم بينما أحفظها أنا عن ظهر قلب. أعرف أن معظمهم صنايعية وصيادين لا يعرفون تعليم أو فك الخط. تأليف الفيلم ليوسف جوهر واخراجه لأحمد ضياء الدين، تصوير فيكتور انطون، مونتاج ألبير نجيب، مناظر أنطون بوليزويس، موسيقى فؤاد الظاهرى. صوت نصرى عبد النور، مساعد مخرج كامل مدكور. أنا لا أنسى شيئاً.
مائة وخمسة دقيقة هى مدة عرض الفيلم على جسدى. لا أحد من الناس يهتم إلا بأحداث الفيلم. أراهم يتابعون الفلاح الذى يعيش مع زوجته وطفلهما عليوة وهو سعيد بالثلاثة أفدنة التى ورثها عن أبيه على الرغم من أنها تقع وسط عزبة يملكها اقطاعى يحاول انتزاع الأرض من الأهالى. يقف الفلاح فى وجه الاقطاعى ويُنقذ أرض الأهالى عندما يدفع له المبلغ الذى كان يدخره لفك رهن فدادينه، تقوم ثورة 23 يوليو وتؤخذ الأرض من الاقطاعى لتسلم إلى الفلاحين الطيبين الذين سقوها بعرقهم ودموعهم ودمائهم بينما يُساق الاقطاعى إلى السجن وتنتصر الزوجة الجميلة ماجدة.
نهاية سعيدة يعود بعدها المتفرجين إلى بيوتهم فرحين.
بعد عام 1967 تغيرت نوعية الأفلام التى يعرضونها على جسدى. اختفى الضحك وظهرت جريمة فى الحى الهادى. الفاتنة نادية لطفى وفتى الشاشة رشدى أباظة يهجرون الرومانسية إلى الجريمة. معهما زوزو نبيل وسهير المرشدى ورشوان توفيق الاخراج لحسام الدين مصطفى والقصة للواء عبد المنصف محمود مع سيناريو وحوار حسن رمزى والسيد زيادة، التصوير لوديد سرى المونتاج حسين أحمد مهندس المناظر عبد المنعم شكرى مهندس الصوت أندريا زانديليس نيجاتيف مارسيل صالح، انتاج شركة القاهرة للانتاج, مدير الانتاج جرجس فوزى وحسن رمزى. هل لازال أحد يهتم بما أهتم به؟
تحاول العصابات الصهيونية فرض سيطرتها في قلب الوطن العربى حيث وضعت عصابة شتيرن مخططاً محكماً لاغتيال اللورد موين الوزير البريطانى المقيم فى القاهرة الذى يعترض على مسايره بريطانيا لليهود على حساب العرب، لذا سعت تلك العصابة للتخلص منه لاحراج مصر حيث أرسلت شابين مدربين على التنكر والقتل.تنجح المباحث المصرية فى اكتشاف أمرهما، وتعهد إلى الضابط أحمد عزت مهمة الكشف عن التنظيم السرى كله.
تختطف العصابة ابنته الوحيدة كرهينة وتخيره بين أن يهرّب الشابان خارج مصر أو أن تُقتل ابنته وتحدد له موعداً، يتعرف الضابط على راقصة من أفراد العصابة، ويوهمها بحبه لها ثم يوهم الضابط العصابة بالاستجابة لمطالبهم ومن خلال الراقصة يتمكن من معرفة مكان ابنته المختطفة حيث يُنقذها ويتم القبض على كل أفراد العصابة. ساعة ونصف من التوتر عاشها الجمهور. أعرف أنهم لا يُحبون هذه النوعية من الأفلام. لا قصة حب. لا ضحك.
اسماعيل يس وفؤاد المهندس وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش أفلامهم هى أبهج أيامى.
آآآه.. لم أكن أُدرك أن فى جسدى الرقيق ذاكرة لا تنسى بقسوة الأيام.
لا أستطيع أن أتكلم معكم عن البحر فأنا لم أره إلا فى الأفلام. لا أعرف الرائحة. لا أعرف أن أحكى عن القنال أو عبد الناصر أوالسادات.
لا أعرف إلا فاتن حمامة وعماد حمدى فى آثار على الرمال. حسين صدقى وليلى مراد فى آدم وحواء. أحمد رمزى ومحمد عوض فى آخر جنان. محمد فوزى وليلى فوزى فى ابن للايجار.
تحية كاريوكا وحسين صدقى فى أحب الغلط. محمود ذو الفقار وفاتن حمامة فى أخلاق للبيع.
كاميليا وسليمان عزيز ولولا صدقى فى أرواح هائمة. سميرة أحمد وأنور وجدى فى الأستاذ شرف. اسماعيل يس وفيروز فى اسماعيل يس طرزان.
أحب الفرحة فى عيونهم عند بداية الفيلم.
شويكار وأمين الهنيدي فى أشجع رجل فى العالم. شادية ومحسن سرحان فى اشهدوا يا ناس. هند رستم وكمال الشناوى فى اعترافات زوجة. شادية وكمال الشناوى واسماعيل يس فى الحقونى بالمأذون.
غيبّ الموت وجوهاً كنت أعرفها.ضحكات كنت أحب سماعها.
مارى كوينى ويحيى شاهين فى الهام. فاطمة رشدى وراقية ابراهيم وسليمان نجيب فى إلى الأبد. حسين رياض وسليمان نجيب وشكرى سرحان وكريمان فى أمريكانى من طنطا. ليلى فوزى ومحسن سرحان وتحية كاريوكا فى أنا ذنبى ايه. صباح وبشارة واكيم واسماعيل ياسين فى أنا ستوتة. شادية ومارى منيب واسماعيل يس فى أوعى تفكرّ. حسين صدقى وصباح وبشارة واكيم فى أول الشهر.
قهقهات مسرسعة وأخرى غليظة.
رشدى أباظة وصباح فى ايدك عن مراتى. نعيمة عاكف وسعد عبد الوهاب فى بلدى وخفة.
محمد فوزى وتحية كاريوكا فى بنت باريز. كمال الشناوى وهاجر حمدى فى بنت العمدة
لبنى عبد العزيز ورشدى أباظة وحسين رياض فى بهية. ماجدة وليلى فوزى ونعيمة عاكف ويوسف شعبان فى بياعة الجرائد. هدى شمس الدين وكمال الشناوى فى بينى وبينك.
صرخات متحمسة تحذر فريد شوقى " حاسب اللى جاى من وراك "
يوسف وهبى وأمينة رزق وفاتن حمامة فى بيومى أفندى. صلاح ذو الفقار وتحية كاريوكا فى حب حتى العبادة. نادية لطفى وعماد حمدى وفؤاد المهندس فى حب ومرح وشباب. زيزى البدراوى ومحمود المليجى وزوزو ماضى فى حبى فى القاهرة. شكرى سرحان وحسن يوسف وعماد حمدى وشويكار فى الحسناء والطلبة. نور الهدى وعماد حمدى وسميحة توفيق فى حُكم الزمان.
دموع مع آهات عبد الحليم حافظ ولوعاته.
تحية كاريوكا وجلال حرب وشادية فى حماتك تحبك. هدى سلطان وفريد شوقى فى حميدو.
مديحة يسرى ويوسف وهبى فى حياة أو موت. برلنتى عبد الحميد وكمال الشناوى فى حياة غانية. عقيلة راتب وأنور وجدى وزكى رستم فى الحياة كفاح.
تعليقات يومية أعتدتها " اقلع البرنيطة اللى على راسك دى يا كابتن مش عارف أتفرج "
كاريمان وأحمد غانم وعدلى كاسب فى خالى شغل. صباح ومحمود ذو الفقار وتحية كاريوكا فى خدعنى أبى. نجاح سلام وكارم محمود واسماعيل يس فى دستة منديل. أحمد مظهر ونادية لطفى وحسين رياض فى دعنى والدموع.
أصوات قزقزة اللب.
درية أحمد وشكرى سرحان وعلوية جميل فى دلونى يا ناس. كوكا ويحيى شاهين وعبد العزيز محمود فى راوية. مديحة يسرى وأحمد سالم والسيد بدير فى رجل المستقبل. مريم فخر الدين وشكرى سرحان وسميرة أحمد وأحمد مظهر فى رحلة غرامية.
ممزقة بعد هدم السينمات، ملقاة باهمال مع ذكرياتى، أحياناً أسترجع أحداث فيلم. وأحياناً أغنى لنفسى.
مع أفلام الثمانينات تهرأت مع أول فيلم يُعرض لنجمة الجماهير. بعدها بأيام جاء الفرج من الله حيث تقرر هدم السينما وبيع أرضها لانشاء عمارة سكنية. لا أفهم لماذا طوانى صاحب السينما، وبدلاً من أن يُلقينى فى الشارع وضعنى فى مخزن برفقة كراكيب لا أعرف ماهى فى مكان شبه مظلم ورطب على الدوام.
لا أفهم لماذا تكلمت الآن ولا كيف تكلمت ولكننى أشعر أن هناك خطر يقترب وأدعو الله بالسلامة.