تنشر "الهلال اليوم"، الفصل التاسع من رواية "بورتوسعيد" للكاتب الروائي الدكتور سامح الجباس، والصادرة عن دار "شرقيات" للنشر والتوزيع، وجاء الفصل بعنوان "حارة دسوقي".
حارة دسوقى
" قد خفضت الحكومة المصرية من
ثمن الملح خمسين بالماية فبعد أن كان ثمن الكيلو
عشرين مليماً أصبح عشرة .. "
( الهلال – العدد الرابع – 1892
)
جادون عجلة لو تكلم لقال الكثير عن تلك الأيدى التى
قبضت عليه.
منذ سنوات وصلت لامعاً براقاً من البلد التى وُلدت
فيها يسمونها أهلها الصين. بمهارة جمعّ الرجل الذى عشت معه سنوات, وعرفت أن اسمه
العجلاتى أجزائى فصرت جزءاً من دراجة يقف أمامها الأطفال طويلاً وهم يُشيرون اليها
باعجاب. لم أكن وحدى. كان معى الكثير من الدراجات, رأيتهم يذهبون واحداً وراء
الآخر إلى عمال فى هيئة قناة السويس وموظفين فى الميناء ومُدرسين ومخبرين.
أما أنا فاشترانى تاجر ملابس لابنه الطالب فى الثانوية.
فرح بى فرحة عارمة. اشترى لى جرسين ومرآة علقهما فىّ, انطلق بى سعيداً يجوب شوارع
المدينة الهادئة, ركبّ دينامو على الكاوتش الخلفى وفانوس أمام وجهى. فى المساء
ينطلق ويضىء الفانوس نوراً أبيض أمامى. حذره العجلاتى.
" ماتمشيش بالعجلة ف مية البحر لاتاكلها البارومة
"
يذهب بى كل اسبوع إلى العجلاتى. يغسلنى جيداً بالجاز
حتى أبرق من جديد. يعود صاحبى بعد ساعتين ليستلمنى كعروس خارجة من عند كوافير. عندما
يلمح حبيبته بجيبة المدرسة الزرقاء يُطلق الجرس بنغمة مرحة,أراها ترمقه بدلال وخجل.
لا يتكلمان,يخاف أن يراه أحد المخبرين
فيسحبه إلى الشُعبة حيث يعلقونه, ويحلقون رأسه على
الزيرو بعدها يأتى أبوه ليستلمه فيرنهّ علقة موت على تدنى أخلاقه.
" سبت ايه لعيال العشش؟ "
سيحرمه من ركوبى. الحمد لله أنه حريص. بعد أن نجح
صاحبى سافر للالتحاق بالجامعة, باعنى أبيه بالخسارة وعُدت إلى العجلاتى مرة أخرى, ظللت
عنده شهوراً.
" محدش بقى بيشترى عجل. "
أسمعه يشتكى. قرر أن يؤجرنى بالساعة. ركبى طوال شهور
أفندية يأخذون الأطفال أمامهم ويظلون يحتكون بمؤخراتهم.
" تيجى ناخد لفة كمان يا حبيبى؟ "
ركبنى عيل صايع يترصد الفتاة التى تمشى فى شارع هادىء.
يندفع اليها بسرعة من الخلف ,وهو يمد اصبعه الأوسط ليدفعه فى مؤخرتها. تنتفض البنت
بفزع وتفلت منها صرخة. ولكنه يكون قد طار بى بعيداً.
كم حاولت أن أصرخ فى صاحبى العجلاتى أن يرمينى فى
المخزن ولكن لا صوت لى. صدىء الجرس وانكسرت المرآه, تعطل الدينامو واستمتع
الراكبون بالظلام. يحبون الظلام. يتنفسون بالظلام كالخفافيش التى تراهم يطيرون بين
البيوت الخشبية بعد غروب الشمس. كنت أخاف الخفافيش الصغيرة منذ سمعت ولد كان
يركبنى لزميله على دراجته الموازية.
" لو لزقوا فيك مش حايطلعوا إلا بالطبل البلدى
"
ربنا يستر.
تعبت كثيراً. صدأت الاطارات. فقط بقيت أنا ألمع جادون
فى المحل. قل الرزق وانتشرت الفيسبات والسيارات فى شوارع المدينة.لم يعد أحد يشترى
لأبنه دراجة اذا نجح.
" ركوب العجل جاب لنا البواسير. "
سمعت أحدهم يقولها للعجلاتى ذات مساء. توقف العجلاتى
عن شراء الجديد منذ سنوات.
كبار السن فقط بعضهم مازال متمسكاً بركوب الدراجة. لم
يعد صاحبى يؤجر الدراجات.
" اللى حاياخد عجلة حايسيب لى بطاقته ويروح يبيع
العجلة وأخبط دماغى أنا ف الحيط,الناس لاعاد عندها ذمة ولا ضمير.. "
معلقة من اطارى الخلفى ورأسى الى أسفل, أوحشتنى شوارع
المدينة. كتمثال أنا حزينة أسمع الناس من حولى تتكلم وأتساءل :
" لماذا أنطقتنى الآن يارب؟ "