تربع الكاتب الكبير محمود السعدني على قمة الكتابة الساخرة في الوطن العربي، فهو لم يكن مجرد كاتبًا متخصصًا في أي من أفرع الصحافة، بل كاتبًا شاملًا ناقدًا ساخرًا، تهدف كل كتاباته للإصلاح، وعاصرناه كاتبًا في الرياضة وفي السياسة والفن والاقتصاد لتقويم النواحي الهابطة فيهم.. في ذكرى رحيل الكاتب الساخر الذي لُقب نفسه بـ"الولد الشقي" نلقي الضوء على بعض المحطات في حياته ومشواره الصحفي.
عن قرب عاصرته عند حضوره إلى دار الهلال بصفة دورية في فترة التسعينيات، فقد خصص له الكاتب الكبير مكرم محمد أحمد صفحة في مجلة المصوّر ليثري المجلة أسبوعيًا بروائع مقالاته.
ويأتي الكاتب الكبير الساخر بصفة دورية ليجلس مع صديقه مكرم، ومن الطريف عند حضوره في إحدى المرات دخل على مكرم وقبل أن يجلس طلب من مكرم أن يرفد أحد السعاة، وقال له: "قبل ما اقعد عاوزك ترفد ساعي المكتب اللي عندك ده"، وكان الساعي يقف معهما، فتساءل الأستاذ مكرم عن الجرم الذي ارتكبه الساعي لكي يرفده؟ فرد الساعي: "يا أستاذ مكرم كل ما الأستاذ محمود ييجي عاوزني أنزل أشيل له الكتب والمجلات لحد الشارع. فرد الكاتب الساخر: "يا واد دا لك الشرف لما تنزل مع السعدني .. ولا انت عاوز بقشيش علشان تنزل معايا؟ .. ضحك الأستاذ مكرم، وطلب من ساعي مكتبه أن يهتم بالأستاذ السعدني ويلبي كل طلباته، وقال مازحاً: "لو اشتكى منك تاني يا رمضان حارفدك زي ما طلب مني".
من المؤكد أن دار الهلال احتضنت كاتبات الأستاذ محمود السعدني لفترة طويلة، فهو قامة كبيرة تسعد أي دار صحفية بأن يكون أحد كتابها، فبجانب مقاله الأسبوعي الذي كنا حريصون على قراءته أسبوعياً في مجلة المصوّر، كان له العديد من المقالات في مجلة الهلال، كما صدر عن نفس المجلة عدداً تذكارياً خاصاً يحمل عنواناً واحداً: حكايات الولد الشقي محمود السعدني.. احتوى هذا العدد على كثير من حكايات ونوادر الكاتب الساخر الكبير وأيضاً على نوادر الصور طوال رحلته في بلاط صاحبة الجلالة.
ولد الكاتب محمود السعدني في 20 نوفمبر 1928 وعمل في بداية حياته الصحفية في عدة مجلات وجرائد صغيرة كانت تصدر من شارع محمد علي، وعمل بعدها في مجلة الكشكول ثم جريدة المصري التابعة لحزب الوفد.. وعند قيام ثورة يوليو أيد السعدني الثورة وعمل في جريدة الجمهورية التي أصدرها مجلس قيادة الثورة وبعد فترة تم إبعاده مع عدة رموز من الكتاب منهم بيرم التونسي وعبد الرحمن الخميسي.. عمل بعدها مديراً للتحرير في مجلة روز اليوسف، ثم رئيساً لتحرير مجلة صباح الخير.
عقب تولي الرئيس السادات الحكم استقال عدد من الوزراء وقدمهم الرئيس للمحاكمة بتهمة محاولة الإنقلاب وكان السعدني ضمن قائمة الإعتقال وحكم عليه بالسجن بعد محاكمته، ويروي السعدني عن تلك الفترة بأن الرئيس القذافي قد توسط لدى الرئيس السادات للإفراج عن السعدني إلا أنه رفض لأنه يلقي عليه النكات ولابد أن يعاقبه.. وبعد عامين أفرج عنه وتم فصله من صباح الخير ، فاتجه للعمل خارج مصر.
استقر السعدني في أولى محطاته العربية وهي لبنان واستطاع أن يكتب في جريدة السفير بأجر بسيط، وعند اندلاع الحرب الأهلية في لبنان رحل السعدني إلى ليبيا والتقى بالرئيس القذافي الذي عرض عليه أن ينشئ مجلة أو جريدة في لبنان، لكن تخوف السعدني من مزاحمة الصحفيين اللبنانين في عملهم الرائج، فطلب منه القذافي أن يكتب إذن في جريدة الفجر الجديد، ودون قصد سخر السعدني من الإسم وقال له بل "الفقر الجديد" ، ولم يتحمس القذافي في اللقاء لفكرة أصدار جريدة 23 يوليو في لندن كما طلب منه الكاتب الساخر محمود السعدني.
سافر السعدني عام 1976 إلى أبو ظبي والتحق بوظيفة مسئول عن العمل المسرحي بدولة الإمارات، إلا أن العمل لم يعجبه، فقبل اقتراح أن يصبح مديراً لتحرير جريدة الفجر الإماراتيه، بعدها سافر إلى الكويت ليعمل في جريدة السياسة الكويتية، ومن الكويت سافر إلى العراق ليعمل بها فترة ثم استقر بعد ذلك في لندن حيث تمكن بمساعدة آخرين في إصدار جريدة 23 يوليو باللغة العربية، وبعد توقفها عن الصدور عاد السعدني إلى مصر بعد اغتيال الرئيس السادات، ليستقر بها ويثري أرض المحروسة بروائع كتاباته.