الخميس 23 مايو 2024

رسالة الرسل والأنبياء فى القضاء والتوثيق عبر التاريخ

مقالات26-4-2021 | 21:18

يعد القضاء و التوثيق والتسجيل مهن مقدسة، ورسالتهم رسالة نبيلة واعتبارا للأهمية البالغة لهما على مر التاريخ، لازمت هذه الوظائف الحكام على مر التاريخ فى الحضارة الفرعونية، وشرفت بأهمية مقدسة عند الأنبياء والرسل، و نالت خصوصية عند من بعث للعالمين خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأتبعه الخلفاء الراشدين والسلف الصالح.

فقام الرسل والأنبياء والأوصياء بأداء رسالة القضاء، فقال الله تعالى فى كتابه الكريم "يا داوود إنا جعلناك خليفة فى الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب".

وعندما شرع الله القضاء وإقامة العدالة، كان الغرض من ذلك إحقاق الحق، وحماية الحقوق، ونشر الأمن والمحافظة على الانفس والأموال والحقوق.

كما يعد التوثيق والتسجيل هوالعدالة الوقائية التى تأتى قبل نشوء النزاع والإحالة للقضاء أو الحاكم.، بإعطاء الحق لمستحقيه من البداية دون الحاجة لعرض حقه على العدالة القضائية أو الولائية للحاكم، مما يسبغ لهذه الحقوق قوتها القانونية وحجيتها دون تشكيك أو تأويل أو تحريف، ولذلك تلازمت العدالة الرئيسية الثلاثة "الوقائية والقضائية والولائية " عبر التاريخ فلا يمكن أن ينجح مسارمنهما إلا بوجود الآخر، حيث إن العدالة الوقائية لها جانب حمائي، وتجسد عند تطبيقها العدالة فى المجتمع وتحافظ عليه كما ثبت عبر آلاف السنين فى رسالة الحاكم للقضاء ووثقته العدالة الوقائية كما جاءت فى رسالة تحتمس الثالث للقضاة "لا ينبغى محاباة الأمراء والموظفين، ولا ينبغى استعباد كائناً مَنْ كان.. عندما يأتى شاكياً من مصر العليا أو السفلى، من واجبك العمل عَلَىْ أن يتم كل شيء طبقاً للنظام اى القانون، وأن يحصل كلٌ على حقِهِ، فلا ينبغى أن يكون باستطاعة مَنْ فُصِلَّ فى دعواه أن يقول "لم أمكن من الحصول على حقي" إنَ ما يُحِبُهُ الإلَهُ هُوَّ أَنْ يتَحَقَقُ العَدْلُ، وإن ما يمقته الإله هُوَ أَن يُحَابَى طرفٌ على الطرفِ الآخرِ، أْنْظُر إلى مَنْ تَعرِفَهْ كما تَنظُرُ إلى مَنْ لا تَعرِفَهُ، ولا تَرُدُ شاكياً قبل أَنْ تَستَمِعَ إلى قوله، ولا تستشط غضباً ضد إنسان بلا مبرر "

وحثت جميع الرسائل النبوية والكتب السماوية على مكانة القضاء وتعظيم رسالتهم النبوية كما أتمها سيد الخلق أجمعين محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتبعه الصحابة، فكان العصر الراشدى امتدادا طبيعيا لعصر النبوة، فاتصف بالتمسك الثابت بتعاليم القرآن والسنة النبوية، وقد اكد الخليفة الاول ابو بكر فى خطبته الاولى على ( ان الضعيف فيكم قوى عندى حتى ارجع اليه حقه ان شاء الله والقوى فيكم ضعيف عندى حتى اخذ الحق منه ان شاء الله...)، وقد اسند ابو بكر القضاء إلى عمر بن الخطاب دون أن يلقبه بالقاضي، ولما تولى عمر بن الخطاب الخلافة، توسعت الدولة العربية واختلط العرب مع الامم الاخرى، والتى كانت تحمل قيما واعرافا مختلفة وادى هذا التطور إلى ضرورة ايجاد صيغ جديدة والنظر بشكل مركزى إلى وضع الولايات شرقا وغربا، مما ادى إلى استقلال القضاء عن الولاة، وجعل القاضى مخيرا فيما يجتهد ويحكم، ومن القضاة الذين ولاهم عمر هذا المنصب ابو الدرداء على المدينة، وعثمان بن ابى العاص على مصر، وابو موسى الاشعرى على قضاء البصرة والذى اعطاه كتابا بين فيه قواعد القضاء.

ولعل ان عهد عمر بن الخطاب كانت مرحلة مهمة لتنظيم القضاء والقضاة أيضا وكان أبرز من اشتهر فى أيَّامه زيد بن ثابت الأنصارى رضى الله عنه، زيد بن سعيد بن ثمامة رضى الله عنه المعروف بابن أخت النمر، وسيدنا على بن أبى طالب رضى الله عنه لكن لم يُعيِّنه قاضيًا متفرغًا، وإنَّما كان يُكلِّفه النظر ببعض القضايا، ويستشيره فى الأمور المهمَّة؛ فإنَّه كان لا يستغنى عنه لذلك لم يُولِّه قيادةً ولا إمارةً بعيدة، ولمكانته وحكمته وفطنته قال عمر بن الخطاب " لولا على لهلك عمر"

واستقرت مكانة القضاء وأداء رسالتهم حتى وقتنا هذا على ثوابت راسخة وقائمة.

كم أن مهنة التوثيق والتسجيل رسخت منذ آلاف السنين حتى الان مرورابالتاريخ الإسلامي.

فالوثيقة هى تسجيل ثابت للحدث ساعة حدوثه بما يحفظ تفصيلات الموضوع ويحميها من عوامل التغيير والزيادة أو النقص الذى يطرأ نتيجة لتبَدُّل الأفكار والتوجهات وتأولات المتأخرين وتحريفاتهم إمّا قصداً نتيجة الأهواء الشخصية أو بدون قصد نتيجة الجهل أو نتيجة النسيان الذى هو من طبيعة النفس البشرية عبر التاريخ، فلذلك نظم القُدماء المصريين توثيق الثروة العقارية وإثباتها وتداولها رسمياً وبعقود كتابية موثقة على جدران المعابد والمخطوطات الفرعونية التى كانت أهميتها متوازية للحكم والحاكم.

وهذا ما عبر عنه التمثال الفرعونى الأشهر على الأطلاق "الكاتب الجالس" والذى أثبت للعالم أجمع أن المصرى أول من أمسك بالقلم وكتب فى التاريخ خلال عصر الدولة المصرية القديمة، وقد لا يعلم الكثير منا ان العُملة الورقية المصرية الحالية فئة الـ200جنيهاً، وهى أكبر عملة مصرية ورقية حالياً، والمطبوع عليها هذه الصورة تمثال الكاتب الجالس الفرعونى أو "كاتب القرفصاء" وهو من أشهر الآثار المصرية القديمة، وهو يعبر عن الموثق الفرعونى وكان من أعلى المناصب وأرفعها شأنا، خاصة وان من شروط توليه هذا المنصب ان يتحلى بالهمة والمهارة والكفاءات الواجبة لدى الحاكم.

و احتلت مهنة الكتبة (الموثقين) مكانة عُظمى فى مصر القديمة واعتبرت درجة هامة فى سلم الترقى الوظيفي، والمُطالع للكاتب الفرعونى وهو يجلس فى سكينة وقد بسط لفافة بردى بين يديه بينما تمسك يده الأخرى بريشة الكتابة، وقد ألتمعت عيناه وشردت قليلًا وكأنه فى انتظار ما يُملى عليه من تعاقدات او يفكر فيما سيكتب ويوثق،وفى إطار كافة المهن الفرعونية، ان لكل منصب فرعونى رئيساً له، إلا وظيفة الكاتب (الموثق)، فهو سيد قراراته ومدير شئونه، وهو ما يؤكد على استقلال مهنته وعمله فى الدولة المصرية القديمة، فقد كان يُلقب بـ "كاهن المعبودة ماعت" إلهة الحق والعدل عند الفراعنة، والتى تمثلت بهيئة سيدة مُجنحة رمزاً للعدالة،وتعلو رأسها ريشة النعام، وهو الشعار المُتخذ حالياً رمزاً لوزارة العدل المصرية،وكما فى الصورة المرفقة، نجدها مُمسكة مفتاح الحياة (عنخ) فى أحد يديها وتمسك فى يدها الأخرى صولجان الحكم، وأحياناً يُرمز لإلهة الحق والعدل بالريشة،ويُنسب للمعبودة "ماعت" أيضاً التحكم فى فصول السنة وحركة النجوم، لهذا سميت مصر قديماً (أرض النيل والماعت)،وكان من أبرز ملامح "ماعت" آلة العدالة هى أن تاج رأسها عبارة عن ريشة الكاتب (الموثق)الفرعوني، والتى هى الآن رمز لمهنة الموثقين بمصر وبكل دول العالم،

 

وهو ما يؤكده كافة المخطوطات الفرعونية وقد أجمعت على تفخيم وتمييز منصب الكاتب (الموثق) الفرعوني، وكان يسمو ويرقى فوق مستوى أى عمل من الأعمال الأخرى، حيث كان مراحل تدريبه ليكون موثقاً، تبدء منذ ان كان طفلاُ، بخلاف باقى المهن الفرعونية كافه،وكان منصب كاتب العدل (الموثق) الفرعوني، لا يُسند مبدئياً إلا لأحد افراد الاسرة المالكة الفرعونية، ولم يسمح لغير افراد العائلة المالكة بتولى هذا المنصب إلا فى الدولة الفرعونية الحديثة، وكان الموثقين الفراعنة من كبار موظفى الدولة المصرية القديمة ؛ وكانوا بمثابة عُظماء مثقفيها وحكمائها.

 

ولما لمهنة التوثيق أهمية ومكانة كبيرة لكونها المصدر الأول لأى بحث تاريخي،و شاهد العيَان الذى ينقل تفاصيل الحدَث التاريخى بزمانه ومكانه وأشخاصه وجزئياته، وقد بين القرآن الكريم أهمية الكتابة والتوثيق فى حيَاة الانسان فى عدّة مواضع منها قوله تعالى: { يَا أيُّها الذين آمَنوا إذا تداينتم بدَيْن إلى أجلٍ مسَمَّى فاكتبوه ولْـيَكتب بينكم كاتبُُ بالعدل... إلى قوله تعالى: ولا تسْأمُوا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجَله ذلكم أقسَطُ عند الله، وأقوَم للشهادة، وأدنى أن لا ترتابوا " صدق الله العظيم، و جاءت مهنة الموثق والتوثيق فى مكانة عظيمة وجليلة فى كافة العصور وفى دعوة كافة الرسل والأنبياء، وأول ما نزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم سورة " إقرأ " وما تنزل عليه فى كتابه الكريم فى سورة القلم " ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ" صدق الله العظيم.

وكما ذكر الإمام شهاب الدين أبو العباس أحمد بن على بن أحمد بن عبد الله الشهاب بن الجمال الملقب بالقاضى الفاضل" القلقشندى الشافعى " فى كتابه الشهير «صبح الأعشى فى كتابة الإنشا» ذهب إلى وجود نوعين من الدواوين، هما الإنشاء والجيش، فقد كان ديوان الجيش ابتكارى عمرى –عمر بن الخطاب-، أما ديوان الإنشاء فكان الأساس والمرتكز الذى تم إنشاؤه وتأسيسه فى زمن النبوة ومنه استهلم سيدنا عمر بن الخطاب والصحابة والتابعين و رُشِّح القلقشندى للعمل فى ديوان الإنشاء وكان من أهم دواوين الدولة فى العصر المملوكى، وترقَّى فى العمل فى الديوان ووصل فيه إلى أرفع المناصب، وقد بدأ عمله فى ديوان الإنشاء فى القاهرة سنة 791هجرية، وذكر القلقشندى فى كتابه الشهير ان ديوان الإنشاء عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم  كانت توثق فيه رسميا وليس بشكل عرفي، وذلك فى جهة تتبع الجناب النبوى مباشرة،و أن أربعة من الصحابة برزت على أيديهم كتابة المواثيق والعهود والمعاملات والمداينات بين الناس، منهم الحصين بن نمير، المغيرة بن شعبة، الأرقم، والعلاء بن عقبة

 وكان هذا التكليف يتم من خلال الأمر النبوي، فكان اى شخص يجرى معاملة مثل البيع والشراء والتداين كانوا يذهبون إليه لإنشاء سجل ويوقع عليه جميع أطراف المعاملة لتصبح وثيقة محفوظة، وهذه المهمه التى أشار إليها القاضى الفاضل الإمام القلقشندى يعادلها اليوم " موثق الشهر العقاري"، مما يؤكد القاضى الفقيه إلى سمو هذه المهنة ورفعة كل من يقوم بهذه المهمه بأن يفخر بأنها مهنة سبقه الصحابة، و أن هذه المهنة انتقلت إلى التابعين، لأنها مرتبطة بالأمانة والخلق وحفظ الحقوق، والسرية والإصلاح بين الناس وأداء الأمانات لأهلها، وكان من فقهاء المدينة بن عبدالله بن عوف وخارجة بن زيد بن ثابت، فقد كانا يستفتيان وينتهى الناس إلى قولهما ويقسمان المواريث ويكتبان الوثائق بين الناس، وهو ما يعنى أن من يعمل فى هذه المهنة يجب أن يتسم برجاحة العقل والعلم وأن تكون مصداقيتهم شائعة بين الناس.

وللحديث بقية