من أرقى وأسمى القيم الإنسانية والثقافات الاجتماعية، قيمة صناعة المعروف، هذه القيمة التي تؤسس لثقافة المواساة وتبرز فقه الشعور بالآخر، وتحقق مجموعة من القيم النبيلة التي تتعلق بالتكافل والتراحم والتكامل والتعاون وحب الآخر ورفع الحرج وإزالة المشقة ، كما أنها دليل على نفس زكية تتسم بالبذل والعطاء والسخاء والجود والكرم ... إلى غير ذلك كثير.
إن مما ينبغي أن يكون عليه المسلم عمومًا وفي شهر رمضان خصوصًا التكافل والتراحم مع الفقراء، فيراعي غيره ممن هم في حاجةٍ وضيق، وهذا كان خُلُق رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فعن ابْنِ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما) قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ. [أخرجه البخاري ومسلم].
ويلاحظ هنا في هذا التشبيه الرائع لإنفاق رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوده بأنه كالريح المرسلة أمورٌ ثلاثة: فالريح المرسلة (متعاقبة – تشمل الكل – السرعة)، وهكذا ينبغي أن يكون المسلم في إنفاقه وجوده، أن يكون سريعًا لا يبطئ، أن يكون في نفقته شاملا لمن يستحق نفقته، أن تتعاقب النفقات فلا تتوقف، وأن يكون في ذلك كلِّه مبتغيًا به وجه الله عز وجل، محققًا أسمى معاني الجسد الواحد للأمة.
ولا شك أن في الإنفاق والصدقة دواءً وشفاءً للأمراض والأدواء البدنية، ولها تأثير عجيب في دفع أنواع البلاء، فإنّ الله تعالى يدفع بها أنواعًا من البلاء، وذلك كما في قوله صلى الله عليه وسلم، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم):(دَاوُوا مَرْضَاكُمْ بِالصَّدَقَةِ، وَحَصِّنُوا أَمْوَالَكُمْ بِالزَّكَاةِ، وَأَعِدُّوا لِلْبَلاَءِ الدُّعَاءَ)(سنن البيهقي).
فالصدقة لها أثر عجيب في مداواة الأمراض، قال علي بن الحسن بن شقيق، سمعت ابن المبارك، وسأله رجل عن قرحة خرجت في ركبته منذ سبع سنين، وقد عالجتها بأنواع العلاج فلم أنتفع به، فقال له: اذهب فاحفر بئرا في مكان حاجة إلى الماء، فإني أرجو أن ينبع هناك عين، ويمسك عنك الدم، ففعل الرجل، فبرأ (سير أعلام النبلاء).
يقول ابن القيم: فالصدقة لها تأثير عجيب في دفع أنواع البلاء، فإنّ الله تعالى يدفع بها أنواعًا من البلاء، وهذا أمر معلوم عند النّاس خاصتهم وعامتهم وأهل الأرض مقرون به لأنّهم قد جربوه [الوابل الصيب].
ورحم الله شيخنا الشعراوي بخواطره الرائعة حول قوله تعالى: «لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ» [آل عمران :92]، حيث قال: إن كل شيء لله، وأنت مجرد مضارب لا تملك شيئا وما دمت مضاربا أيها العبد، فأعط لله حقه، وحق الله لا يأخذه هو؛ فهو أغنى الأغنياء، إن حق الله يأخذه أخوك غير القادر الذي لا يستطيع أن يتفاعل مع المادة، ولا تظن أيها العبد أن الله حين طلب منك النفقة مما تحب أنه - جل شأنه - قد استكثر عليك ما طلب منك أن تنفقه، إنه ساعة يأخذ منك لأخيك وأنت قادر، إنما يطمئنك أنك إن عجزت فسيأخذ لك من القادرين ذلك هو التأمين في يد الله.
ومن هنا لا بد وأن ندرك ثقافة المواساة وصناعة المعروف؛ لنيل أعظم الثواب من الله عز وجل.
وبالنظر في واقعنا المعاصر وما نعيشه من وباء كورونا المستجد، وما ترتب عليه، فإن من ثقافة المواساة وصناعة المعروف: إغاثة المرضى، ومساعدة الفقراء والمساكين وأصحاب الأعمال المؤقتة وغير المنتظمة أو العاملين بالأجور اليومية، وما يتعلق بالمستشفيات من توفير الأدوات والمستلزمات الطبية وأدوات الوقاية، والمساعدات الفورية للعلاج ولحفظ الإنسان وصيانته ووقايته من هذا المرض ، ومن ثمّ فإن الصدقات هي من آكد وجوه الإنفاق في هذه الآونة التي تشتد فيها حاجة هؤلاء إلى المعونة العاجلة، وهو واجب الوقت الذي يتعين أداؤه.
كن من أهل المواساة، بمعنى أن تتفقد أهلك وجيرانك وزملاءك وأصدقاءك. وتبحث عمن هم في احتياجا، وكيفية مساعدتهم على قدر استطاعتك.
كل إنسان منا يستطيع أن يحقق ثقافة المواساة حسب طاقاته وقدراته وإمكاناته من مال وإطعام، ومساعدات عينية لا سيما في زمن "الكورونا" من أجهزة تنفس، كمامات، مستلزمات طبية، أدوات تعقيم، وإذا كان ثواب الصَّدقة والإنفاق عظيمًا، فإن ثوابها في وقت الأزمات أعظم ، فحين سُئل (صلى الله عليه وسلم): يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ قَال: «أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْغِنَى..» أي: أنَّ أعظم الصَّدقات أجرًا مالٌ يُخرجه الإنسان وهو يخشى أن يُصيبَه مِن الفَقرِ ما أصابَ غيره.
بل إن التَّصدُّق في ظلِّ هذه الظُّروف الصعبة الوباء كورونا هو سببٌ رئيسٌ لدفع البلاء، وسبب رصينٌ لكشْف الضُّر، وسبب عظيمٌ لسِعة الرّزق؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّمَا تُنصَرُونَ وتُرزَقُونَ بِضُعَفَائِكُم».
وليعلم كل إنسان أنه بصدقته وإنفاقه ومساعداته ومواساته لغيره قد نال وصفًا جليلًا منيرًا من أجل وأرقى وأسمى الأوصاف، وهو صانع المعروف.
وصناعة المعروف سببٌ لنَيْل رضا الله سُبحانه، و لتنزُّل رحمته عز وجل، وأصل أصيل في الحفظ من سيئ البلاءات، والأمراض، وضمان – بإذن الله تعالى- لحسن الخواتيم؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: «صنائِعُ المعروفِ تَقِي مصارعَ السُّوءِ، و الصدَقةُ خِفْيًا تُطفِيءُ غضبَ الرَّبِّ».
فاللهم اجعلنا من صانعي المعروف، واجعلنا من أهل المواساة، وارفع عنا البلاء والوباء.
اللهم آمين بجاه الأمين