سيمنعنا رمضان هذا العام وانتشار الكوفيد- 19 من الاحتفال يوم الاثنين (أو يوم الخميس!) من الاحتفال المصري التقليدي المحبب لنا جميعًا بعيد شم النسيم. لذا قررت أن أسرح معكم بالذاكرة لليلة ويوم شم النسيم في مدينتي الحبيبة المنصورة منذ 47 عامًا.
فالليلة من ليالي الربيع الجميلة من عام 1974 ومصر بأكملها أمام التليفزيون النصر الأبيض والأسود تشاهد حفل أضواء المدينة وتجهز ملابسها لرحلة شم النسيم في الغد. فعرابي وكيل الفنانين قد حشد مجموعة من أروع المطربين لليلة أخرى من ليالي العمر ربما لن تنسى. أحمد غانم يقدم الحفل مع بعض المنولوجات والنكت الخفيفة وفِي قائمة المطربين شادية وفايزة أحمد ونجاة الصغيرة ووردة وصباح ومحمد عبده مع فواصل من الفكاهة من لبلبة وسيد الملاح وثلاثي أضواء المسرح.
أما نجم الحفل فهو كالعادة العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ والذي سيغني الْيَوْم من تلحين الموسيقار عبد الوهاب أغنيته الجديدة "فاتت جنبنا"!! والتي كتبها الشاعر حسين السيد. لا يعرف أحد كلمات الاغنية وكأنها من الأسرار العسكرية وكل ما نعرفه أنها قصة من قصص حسين السيد الشيقة مثل "ساكن قصادي وبحبه" وكلنا ننتظرها بفارغ الصبر ومعنا جهاز الريكوردر لنسجلها كى نسمعها على الشاطئ في الغد.
ويطيل عبد الحليم في سرد القصة الجميلة التي لا نعرف نهايتها ونشتاق لها وهو يعيد ويعيد! وأخيرًا وفِي الرابعة صباحًا قال أخيرًا "قالتلي أنا من الأول بضحكلك يا أسمراني". ياه يا عبد الحليم ما كان من الأول.. تعبتنا!! ..."ما عدش فيه نوم خلاص" .. وتنتهي بذلك قصته الشيقة الساعة الرابعة والنصف صباحًا ليعلن بها بدأ مراسم إحتفال شم النسيم!!
بالامس اشترينا "خَط" الخس من الغيطان على النيل أمام المستشفى الجامعي وجهزنا الفسيخ النبراوي وعيدان الملانة الخضراء ولوَّنا البيض لنفطر به ونسرع للِّحاق بالقطار الذي سيأخذنا من المنصورة لدمياط ومنها نأخذ مواصلة لمصيف رأس البر.
آلاف مؤلفة مثلنا في إنتظار القطار وأغنية عبد الحليم تدوي من العشرات من أجهزة التسجيل المحمولة. قفزنا الى القطار مع الآلاف ورغم الزحام كانت نشوتنا لا تضاهى ونحن نضحك من القلب ونتذكر قصة عبد الحليم وصديقه ولا حديث بيننا إلا عنها. وفي دمياط أخذنا الأتوبيس العام الى رأس البر. في هذا الْيَوْم كان تقريبا ثلث سكان المنصورة في حديقة شجرة الدر التى غزتها مباني الجامعة الوليدة والثلث الثاني بمصيف جمصة والثلث الأخير معنا في رأس البر. قفزنا الى البحر رغم برودة المياه وقتها ولم ندري بالوقت فقد كانت ضحكاتنا وقفشاتنا تتطاير من القلب مع نسمات الربيع. وبعد أكلة الفسيخ الدسمة مع البصل والخبز الأسمر الطري دخلنا في غيبوبة على الشاطئ ثم أفقنا على شادية وهي تغني "آه يا أسمراني اللون..حبيبي الأسمراني" بصوتها الساحر المحلق في السحاب. "آه تحت الرمش عتاب وحنين وعذاب وعيون ما تنام!"
قررنا بعدها العودة قبل الزحام وكنا في حيرة من أمرنا أنأخذ المركب أو اللنش الذي كان كثيرًا ما يغرق في كل شم نسيم من زيادة الحمولة أم نأخذ الأتوبيس المكدس وقررنا بعد نقاش قصير أن نأخذ الأخير فهو أقل الإثنين خطورة. وكان عدد الأتوبيسات قليل جدًا أمام عشرات الآلاف التى تبغي العودة مثلنا في آن واحد.
دفعتنا الأيادي وحملتنا الأقدام لنجد أنفسنا على المقعد الأخير وفوقنا صفين من الركاب وتحتنا طبقة رفيعة من حشو المقعد التى لا تحمينا من حرارة المحرك الساخن تحته! لم أصدق أننا عدنا لدمياط سالمين لنأخذ القطار مع الآلاف في طريق العودة وَعَبَد الحليم يغني "قالتلي أنا من الأول بضحكلك يا أسمراني" تاني يا حليم! ليعلن بذلك نهاية يوم شم نسيم في المنصورة الجميلة عام 1974 والذي مازال محفورًا حتى الآن في ذاكرتي! فاكرين؟ اللي فاكر يفكرنا..!
كل شم نسيم وأنتم وحبايبنا في مصر بكل خير وفسيخ...... وسعادة!
أستاذ الأمراض الباطنة والسكر بجامعة هارفارد